بالبنط العريض وباللغة الفصحى يقف الأردنيون والفلسطينيون الآن أمام إحتمالات وقوع كارثة حقيقية وأخلاقية. فعزف موسيقى التسوية للقضية الفلسطينية على أوتار أردنية قد يؤدي بالنتيجة إلى أن يرقص على أنغامها العديدون شاؤوا ذلك أم أبوا. وعملية تركيع الفلسطينيين في فلسطين والأردنيين في الأردن تسير الآن على قدم وساق لصالح القبول بما هو قادم من مخططات أهمها إغلاق ملف القضية الفلسطينية.
تـَساءَلَ الكثيرون عن الأسباب الموجبـة للتـعديلات الدستورية الأخيـرة في الأردن، وَقـْبلـَها عن قانون تقسيم الأردن إلى أقاليم والأهداف منه وفيما إذا كان الأردن بصدد تغيير المسميات، فيما لو تم إعادة الإرتباط بالضفة الفلسطينية، من "الضفة الغربية" الذي يعني تاريخياً السيادة على الأرض إلى "الإقليم الغربي" الذي لا يعني سياسياً أي شيء ولا يـَفـْتـَرِضْ السيادة على الأرض بصفته تلك؟
ما نحن بصدده الآن لا ينحصر بالتعديلات الدستورية نفسها بقدر ما يهدف إلى تـَبيان الأسباب الخفية الموجبة لتلك التعديلات. فكل دستور له وجهان هما النص والـروح. وفي الأردن تم العبث بالنص وإفساده إلى الحد الذي قـُتـِلـَتْ فيه الروح وأصبح لدى الأردنيين دستوراً بلا نص وبلا روح حيث أصبح عبارة عن وثيقة تـُلـْغي في الواقع نظام الحكم الملكي النيابي الذي تأسست الدولة الأردنية على أساسه لصالح نظام حكم ملكي مطلق.
الأردنيون لا يريدون إنهيار الأمن في بلدهم ولا يريدون أن يحصل لهم ما حصل ويحصل لدول عربية أخرى ولا يريدون تواجد التنظيـمات الأصولية الدمـوية بين ظهرانيهم، ولكنهم في الوقت نفسه لا يريدون أن يتم إختطاف دولتهم وحقوقهم السياسية كثمن غير ضروري لذلك. والفلسطينيون يريدون أن تتوفر لهم البيئة والإمكانات المناسبة لحياة كريمة آمنة ولكنهم لا يريدون أيضاً أن يكون ثمن ذلك أرضهم وحقوقهم الوطنية وإستقلالهم الناجز المنشود ضمن دولتهم الفلسطينية. ولكن في المحصلة النهائية يبدوا أن الأردنيين والفلسطينيين لن يحصلوا على ما يريدون ولكنهم سوف يحصلوا فقط على ما سَيـُعطى لهم.
إن التلاعب بمقدرات الشعوب هو فن أجادته الأنظمة العربية الحاكمة بكفاءة فاقت تلك التي يمارسها أعداء العرب ضد العرب أنفسهم. وهذا التلاعب أخذ مداه على مر السنين وساهم في تدجين الشعوب وتحويلها إلى مـُسْتـَقـْبـِلٍ فقط دون أي قدرة على الإرسال مما عزز من سطوة وجبروت وتفرد الحاكم بمقدرات شعبه. لقد فتح هذا الوضع الطريق أمام قرارات ذات آثار خطيرة يتم إتخاذها بإرادة فرد واحد بالرغم من أن عواقبها سوف تؤثر على مجموع الشعب أو الأمة.
تشير التطورات المعلنة والخفية في السنوات القليلة الماضية والأحداث الدامية في المنطقة والإنهيارات المتواصلة للنظام السياسي العربي، إلى توفر الظروف المناسبة للوصول إلى ترتيبات قد تؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية عوضاً عن حـَلـِّها.
ما يجري الآن في الأردن يهدف في الحقيقة إلى تسهيل مرور مخططات وتسويات معينة وفتح الباب أمام إحتمالات لفرض تسوية ما في فلسطين ترتبط بالأردن. إن ذلك لا يعني بالضرورة وجود خطة جاهزة للتنفيذ فوراً بقدر ما يعني توفر الرؤيا العامة والإطار المنشود والنـِيـَّة وحالة الضعف والتفكك العربي العام اللازمة لتنفيذ تلك الرؤيا. وفي السياق نفسه وتمهيداً وتسهيلاً لما هو قادم، نجحت السلطة الفلسطينية بإمتياز في تحويل الرفض الفلسطيني القاطع لأي تسوية من خلال القناة الأردنية إلى موافقة نسبية على ذلك نتيجة لسلوك السلطة الفلسطينية الإستبدادي والفاسد وفشلها في الوصول إلى أي حل بعد أن قامت طواعية بنبذ خيار المقاومة بالإضافة إلى خضوعها المستمر إلى أوامر الإحتلال الإسرائيلي.
وهكذا فإن ما كان مرفوضاً أصبح الآن مقبولاً من قبل الفلسطينيين على إعتبار أنه قد يكون أقل سوأً مما هم فيه. والتسوية التي ترافق مثل هذه الأوضاع سوف تؤدي حتماً إلى إستقلال البشر دون أي سيادة على الأرض. وهكذا فإن الجهة الفلسطينية التي ساهمت في تدمير الوحدة الأردنية–الفلسطينية تحت عذر تحرير فلسطين هي نفسها التي تقوم الآن بكسر إرادة الفلسطينيين من سكان المناطق المحتلة لإعادة تسليمهم إلى الأردن ولكن كرعايا دون دولة ودون إستقلال بل ودون أرض فلسطينية ودون قضية فلسطينية. والعَرﱠابيون الفلسطينيون لهذه السياسة هم من قادة السلطة الفلسطينية نفسها واللذين قد يبدؤا قربياً بإرسال الوفود الشعبية من الضفة الفلسطينية المحتلة للمبايعة المبكرة المباشرة وغير المباشرة للنظام الأردني أو إرسال مسؤولين أردنيين إلى الضفة الفلسطينية لحثـِّهم على قبول ما هو قادم. ولكن هل يريد الفلسطينيـون سلطة جديـدة بدون السيـادة على الأرض أم أن هذا مطلب إسرائيـلي-أمريكي؟
يبدو أن ماهو مطروح الآن ومقبول من الإسرائيليين ينحصر في إعطاء الأردن السكان والسيادة الأمنية على الفلسطينيين وليس السيادة السياسية على الأرض الفلسطينية وإن كنا قد نشهد إبتعاد إسرائيلي شـَكـْلي ومَسْرَحي عن مناطق العبور الحدودية على الجسور بما يوحي بوجود إنسحاب إسرائيلي.
المطروح الآن إذاً هو عبارة عن خطوات تـؤدي عملياً إلى إلغاء القضية الفلسطينية من خلال إجراءات سوف تربط المواطنين الفلسطينيين بالأردن مع بقاء السيـادة على الأرض لإسرائيـل. هذا هو مربط الفرس الذي يسعى إليه الإسرائيليون من خلال إستعمار الأرض والتخلص من البشر، وهذا ما سيقوم بتنفيذه كلاً من الأردن والسلطة الفلسطينـية بمباركة وموافقة إسرائيل.
إن مثل هذا المخطط إذا ما قـُيـِّضَ له أن يرى النور سوف يعني أن الفلسطينيين قد يصبحوا مواطنين أردنيين مع إحتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية وأن سكان القدس قد يصبحوا كذلك مواطنين أردنيين مع إحتفاظهم بجنسيتهم الإسرائيلية مما يتطلب أن يسمح الدستور الأردني لأصحاب جنسيات أخرى مثل الفلسطينية والإسرائيلية (القدس) ناهيك عن السورية والعراقية بتولي مناصب سياسية وإدارية في الدولة الأردنية الموسعة سكانياً فقط. وهذا قد يفسر الأسباب الخفية وراء التعديل الدستوري الذي يسمح للمسؤولين الأردنيين بحمل جنسيات أخرى.
ما يجري الآن هام وخطير كون الجهود العامة العربية والإقليمية والدولية الهادفة إلى حل القضية الفلسطينية من خلال إلغائها تقترب من خط النهاية. وحيث أن الفلسطينيين والعرب لا يملكوا الآن شيئاً من عوامل القوة، فإن ما نحن بصدده ترتيبات تحظى بموافقة إسرائيل يتم تسويقها على أنها حلول. ودخول مصر الأخير والمفاجئ في حلبة التسويات، والغزل السعودي-الإسرائيلي وما رافقه من تحويل السيادة على جزر تيران وصنافير إلى السعودية مما يضعها في تماس مباشر مع إسرائيل، يشير إلى أن التسويات المقبلة لن تكون محصورة بالسلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل، بل سوف تتعدى ذلك إلى العمق العربي وهو أمر ضروري لإضفاء الشرعية والشمولية على التسويات المقبلة وإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائياً من خلال حالة سلام عربية – إسرائيلية شاملة، الأمر الذي قد يؤدي بالنتيجة إلى دخول إسرائيل جامعة الدول العربية تحت مسميات أو ترتيبات جديدة.
وفي سياق التسويات، فإن مصلحة إسرائيل هي الأساس وهي التي ستصبغ طبيعة أي حل وهذا يتطلب أن يتم تمرير هذه الترتيبات والحلول المزعومة من خلال قنوات عربية عديدة أهمها على الإطلاق هو الأردن والسلطة الفلسطينية. وتتم الآن عملية تواطؤ من قبل السلطة الفلسطينية ومحمود عباس شخصياً مع كل من إسرائيل والأردن لخلق المناخ المناسب لتمرير أي تسوية قادمة من خلال الأردن حصراً وهكذا يصبح الأردن هو الوريث لمحمود عباس وسلطته الفلسطينية وحكمه الذاتي، خصوصاً وأن محمود عباس في نهاية حياته الطبيعية والسياسية الفاشلة.
إن إنتفاضة السكاكين والسيارات الصادمة في الأشهر الأخيرة في فلسطين المحتلة أثارت قلق إسرائيل وأثبتت عجز السلطة الفلسطينية عن القيام بالدور الأمني المناط بها لتلبية مطالب إسرائيل الأمنية. ويبدوا أن هذا قد دفع سلطات الإحتلال إلى الإسراع في العمل على إستبدال السلطة الفلسطينية بسلطة أخرى مثل الأردن تكون قادرة على السيطرة الأمنية على الفلسطينيين ضمن معادلة أوسع تهدف إلى إغلاق الملف الفلسطيني من خلال الإدعاء بوجود دولة فدرالية يمارس فيها الفلسطينيون المواطنة وحياتهم السياسية كأفراد ولكن دون الأرض الفلسطينية.
بصراحة يقوم الأردن الآن بتكييف أوضاعه وقوانينه ودستوره وإجراء ما يلزم تمهيداً لما هو قادم. وما هو قادم يتعلق بإستيعاب المهاجرين العرب من كل مكان وأهمهم السوريين وتكييف أوضاعهم تمهيداً لتحويل من يرغب منهم إلى مواطنين أردنيين، علماً أن المساعدات الأوروبية المتعلقة باللاجئين السوريين في الأردن مرتبطة بفتح أبواب العمل أمامهم ومن ثم توطين من يرغب منهم في الأردن. ونفس الأمر سوف ينطبق على سكان الضفة الغربية من حاملي الجنسية الفلسطينية وسكان القدس من حاملي الجنسية الإسرائيلية حيث سيتم الطلب من الأردن أن يستوعبهم كبشر فقط ضمن مخطط قادم يهدف إلى ضم الفلسطينيين إلى الأردن وإبقاء معظم الأرض الفلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية، أي إعطاء الأردن البشر دون الأرض.
إن هذه المعادلات السكانية الجديدة لحل مشاكل المنطقة سواء البشرية أو السياسية وأهمها قضية فلسطين تعني أن الأردن لن يبقى طويلاً دولة الأردنيين كما هو الحال الآن كما أنه لن يصبح دولة فلسطينية بالمقياس السياسي والديموغرافي. والحقيقة أن الفلسطينيين هم اللذين سوف يصبحوا جزأً من الدولة الأردنية الموسعة دون أن يعني ذلك وطناً فلسطينياً بديلاً. فإسرائيل لا تريد حتى ذلك كونها تسعى إلى شطب إسم فلسطين نهائياً وإلى الأبد. والحقيقة الأكثر مرارة أنه بالإضافة إلى إلغاء القضية الفلسطينية فإن الأردن نفسه سوف يصبح دولة بلا هوية سكانية مـُحَدﱠدَة، بل قد يصبح أقرب إلى إسفنجة تغب كل ما حولها لتخفيف الضغط والإحتقان العربي والإقليمي، وكل ذلك في مصلحة إسرائيل حصراً.
تجربة الوحدة الأردنية–الفلسطينية الناجحة شعبياً والمريرة سياسياً ما زالت ماثلة في ذهن النظام الذي عانى الأمَرﱠيـْن من معارضة برلمانية وشعبية فلسطينية متواصلة. والنظام على ما يبدو لا يريد تكرار تلك التجربة مع أحد ومن هنا جاءت التعديلات الدستورية لتستبق الأمور وتضع كل الصلاحيات بيد الملك.
الحل أن لا تتم أي تسويات من هذا النوع وأن لا نـُسَهـﱢل مهمة الإحتلال في الإستمرار في إبتلاع الأرض وأن لا يقبل العرب أو الفلسطينيين القيام بالمهام الأمنية نيابة عن الإحتلال، وأن نكون مؤمنين بأن الإحتلال طالما بقي إحتلالاً وأن العدو طالما بقي عدواً، فإن حالة الإحتلال تبقى مؤقتة وإلى زوال بغض النظر عن مضي السنين. والفلسطينيين يملكون من روح الصمود والكفاح والتضحية والعلم والذكاء ما يمكنهم من الصمود في وجه التآمر العربي وكذلك الإحتلال الإسرائيلي ومن ثم إزالته أو تذويبه ديموغرافياً.
اضف تعليق