ذلك ما كنت اود الاستيقاظ عليه من نومي هذا، لم يكن نوما طبيعيا، انه نوم مخدر، قسري، لا املك ممانعته.
كانت ردهة الطوارئ تغص بالحالات المرضية، ضحايا كل شيء، حوادث مرورية، حروق، مشاجرات، الام لا يعرف مصدرها.
كان كثيرون يئنون من الألم الذي تسببه لهم تلك الاوجاع. وكانوا جميعا يصرخون (يمة الحگيلي).. كانت الام حاضرة في وعي أبنائها الذي يغيّبه الألم تدريجيا. لكن الام لا تستطيع ان تأخذ الألم بعيدا عن ابنها ولا العكس، انه لا يمكن تقاسمه مثل بقية الأشياء.. انه شيء خاص بصاحبه.
لم يكن هؤلاء الأبناء صغارا في العمر، انهم شباب ورجال، لا ينادون اباءهم بل امهاتهم، هل هو الحبل السري الذي لا ينقطع بين الأبناء والامهات على طول الحياة التي يعيشها هؤلاء الأبناء؟ وهل لهذا السبب تحضر زينب وفاطمة وام البنين في حياة العراقيين بهذه الكثافة الطاغية؟ هل لهذا تمنيت ان اصحو على وجه طفلتي الأقرب إليّ من امي جغرافيا، ونحن الذين نعيش هذه الاوديسة العراقية منذ عقود؟
وجه طفلتي اقرب ان يكون المرفأ الذي سيستريح مركب عودتي عنده.
كنت اراقب ما حولي في ردهة الطوارئ، مدفوعا بالحاجة الى مراقبة الام الاخرين، والامي، وكنت الحظ ازدياد الصراخ قوة كلما كبر الألم لهؤلاء الذين يعانون منه، لكن الإحساس بالألم لديهم، لديّ، هو امر شخصي، خاص، يفلت من أي مقياس، من كل محاولة للإحاطة به ووصفه، لكل رغبة بالإفصاح للأخر عن شدته وطبيعته..
ليس هناك سوى الألم، وليس هناك أي كلام يقال عنه.. انه يحطم الصوت ويجعله غير معروف.. انه يثير الصراخ، الشكوى، الانين، البكاء، او الصمت، وكثير من العجز في الكلام او الفكر..
في انتظاري مع الاخرين لإزالة هذا الألم الذي نعاني، اعاني منه، كنت اشعر بان ذاتي تتغير، وكنت أتساءل، انا المحكوم دوما بهاجس التساؤلات التي لا تهدأ: لماذا يكون الألم هكذا دوما تغير للذات؟ لماذا يجعل الانسان انسانا اخر غير الذي كان عليه، ويدخله في الانحراف عن حياته السابقة؟ هل لان الألم هو معاناة الانسان في معنى وقيمة حياته، وليس معاناة جسده؟
لا يسحق الألم الجسم، انه يسحق الفرد، يفقد وضوح علاقته بالعالم، ويحطم حريات الحياة اليومية، ويفسد العلاقة بالأخرين. هل هكذا يمكن ان يوصف الألم او يتم الحديث عنه؟
قبل دقائق قليلة من دخولي الى صالة العمليات، وحين كنت ممدا على السرير في ردهة الطوارئ، اخذ جسدي يرتعش بشدة، كما لو كنت مصابا بحمى، لقد وصل الألم ذروته، كنت اشعر به يكتسح كل كياني، واخذ اثره يظهر بقسوة على وجهي بارتجافه الخفي او الظاهر، عيناي متعبتان لا تستطيعان النظر، جسدي جامد بشكل مدهش، يدي متشنجة على السرير لا استطيع تحريكها. كان ألمي يغطس في عالم لا يمكن لأخر ان يصل اليه، وكنت اشعر انه "مقدم الموت في قلب الحياة". انها فكرتنا المرعبة عن الموت.
في تلك الساعات قبل اجراء العملية الجراحية، كانت لدي عاداتي القديمة التي امارسها في مثل تلك الأوقات.. جلسة امام جهاز الكومبيوتر المنضدي، القراءة، والكتابة، لكني الان بمواجهة الالم وحده، ينتزع مني عاداتي القديمة وطرق تواصلي العادية مع العالم.
لم تكن العملية الجراحية التي سأجريها بالخطورة التي توهمتها، لكنه الخوف ان ارحل هكذا مودعا كل الأشياء الجميلة التي تحيط بي.
كنت ادعو الى الله ان اعود الى عائلتي، وان يكون وجه طفلتي اول ما اصحو عليه من هذا المخدر اللعين. هو لعين فعلا بعد ان جربته. لكني لم افقد وعيي كله تحت تأثيره.. فسنوات التدخين الطويلة تمنحك مصدا ضده، ليس بالكامل، بل جزئيا، تشعر بما يدور حولك، ولا تملك الاعتراض او الطلب من الأطباء ان يتوقفوا..
دقائق غبت فيها عن الوعي التام، لكني الان في لحظة صحو مخدّرة، احس بأصابع الطبيب تجوس في هذه البقعة المحددة من جسدي.. وكان يردد مع زميله كلمات واحدة من القصائد العراقية باللهجة العامية للشاعر مظفر النواب، (زرازير البراري) احب تلك القصيدة:
حن وأنا حن
و انحبس ونّة ونمتحن
مرخوص بس كت الدمع
شرط الدمع حد الجفن
كنت اعطي ايعازا لعيوني ان تنفتح، لا تستطيع ذلك.. اعطي ايعازا لأصابعي ان تتحرك. لا تفعل ذلك. كنت اريد ان اردد معهما ابيات تلك القصيدة، يعجز لساني عن ذلك.
انه يشبه ما قرأناه عن رحلة الموت واولى خطواتها، وكيف ان الميت اذ تغادره الحياة يستمع الى صراخ المحيطين به وعويلهم وكلماتهم، لكنه يبقى عاجزا عن فعل أي شيء، تبقى روحه تدور في المكان وفي الطريق الى المقبرة. هل كنت كذلك؟.
أعوام طويلة هي كل حياتك تستعيدها بلمحة بصر. كم هي طويلة بحساب العدد وكم هي قصيرة بحساب التذكر؟ كأن ما عشته مجرد ثواني طالت او قصرت تلك الحياة.
تشعر بالهشاشة. انت الان اشد ما تكون قابلية على الانكسار والتشظي.. تحتاج الى شفقة المحيطين بك ومواساتهم وتشجيعهم.. تشعر بالحاجة الى الأصدقاء وقلوبهم النقية.. يمنحك وجودهم بعض القوة والتصبر لما انت مقدم على مواجهته، مهما كان بسيطا.
لم اصحو على وجه طفلتي.. صحوت على وجوه أصدقائي.
اضف تعليق