ما يزال الشيعة في بلادنا امام خيارين أحلاهما مر؛ إما خوض الحرب التي أشعلها الارهاب الطائفي والتكفيري، وفي ذلك تقديم المزيد من الشهداء والخسائر المادية الكبيرة في معركة الدفاع عن العرض والارض والمقدسات، او البقاء في "صمت القبور"، وواضح في الحالتين؛ النتيجة واحدة بالنسبة لمن فرض هذه المعادلة.
جاء في إحدى افتتاحيات صحيفة "إيكونومست" البريطانية، وتحت عنوان "لماذا لم يتطرف مسلمو الهند"، بأن عدم انضمام مسلمو الهند الى التنظيمات الارهابية، كما هو حال بلاد اسلامية عديدة، "مردّه إلى عدة عوامل، فالتداخل الديني له جذور عميقة في الهند"، وأن "الاسلام ظهر في جنوب آسيا منذ ما يزيد على ألف سنة، ولكن كان أغلب المسلمين من الصوفيين الذين أقاموا علاقات وطيدة مع غير المسلمين كالهندوس".
وحذا حذو الاعلام البريطاني، الكاتب الاميركي المعروف "توماس فريدمان"، الذي كتب مقالاً في 2009، و"أثنى" على المسلمين الهنود لانهم رفضوا دفن المفجرين الانتحاريين، ويقول: "ولهذا يقدم مسلمو الهند خدمة جليلة للإسلام برفض دفن جثث الانتحاريين القتلة..."! ويضيف فريدمان: "ويعزو هذا الموقف الذي اتخذه مسلمو الهند بشكل قاطع إلى حقيقة أنهم يعيشون في مجتمع موحد وديمقراطي، فهم غير مفتونين بالمتشددين الإسلاميين ولا يتورعون عن مهاجمتهم علنًا، ولهذا لم ينضم سوى قليل من مسلمي الهند إلى القاعدة".
وفي تطور آخر على صعيد إذكاء الحرب التي يُراد لها ان تكون طائفية في سوريا، فقد اقتحم يوم أمس، ارهابيو النصرة احدى القرى العلوية في ريف حماة، وقتلوا عدداً من المقاومين الشباب واختطفوا عدداً آخر من السكان المدنيين، وهذا يأتي ضمن مسلسل الصراع الدامي في سوريا لخدمة اجندات اقليمية ودولية واضحة للعيان، مع ذلك نلاحظ مساع واضحة من جهات اقليمية لإضفاء الطابع الطائفي على المعارك الجارية هناك، على أن العلويين والشيعة في سوريا يدافعون عن شيعيتهم أمام القوى السنية التكفيرية، بينما ترفع الجماعات الارهابية والتكفيرية مجتمعة شعار الدفاع عن أهل السنّة ضد ما يعونه تمييزاً طائفياً من قبل الحكومة السورية ضدهم.
ولعل أجمل المناظر لتلك الاطراف الاقليمية والدولية، مشاهدة فصائل المليشيات المسلحة في كل مدينة وكل قرية صغيرة وحتى حي سكني، وهي ترفع الشعار الطائفي الذي تقاتل دونه، فهذا من شأنه التغطية على الايدي التي تحرك محاور الحرب وتخطط وتبرمج للهجوم والانسحاب، ضمن قواعد لعبة محكمة، من دون ان تلحق ضرراً سياسياً و اعلامياً العواصم المعنية، بل وان هذا التمويه يفيدها ايضاً في مسار التفاوض لإحلال السلام ووقف اطلاق النار، حيث تكون مساعي الدبلوماسية موجهة الى هذه المليشيات وليست الاطراف الحقيقية، مثل واشنطن ولندن والرياض وانقرة وغيرها.
وكذا الحال يجري في العراق، حيث يواجه العراقيون، وتحديداً المجتمع الشيعي حرباً مفروضة أريد لها ان تكون طائفية، بعد سلسلة طويلة ودامية من التفجيرات في مدن الوسط والجنوب طيلة السنوات الماضية، بيد ان المجتمع العراقي المعروف بتماسكه الاجتماعي و إيمانه و وطنيته، فنّد هذه المحاولة الاخيرة بتشكيل "الحشد الشعبي" وانتقال التجربة الناجحة الى المناطق التي تعرضت لاحتلال "داعش"، وإن كان بتسميات اخرى.
هذا ما نلاحظه في ميدان المقاومة، أما البعيد عن أجواء الصراع والحرب، فما عليه إلا السكوت والصمت، كما جاء التحذير السريع من السلطات البحرينية الى الشيخ محمد علي المحفوظ، بأن يحتفظ بحريته، خارج أسوار السجن، صامتاً من دون تصريحات او مواقف من على منبر خطبة الجمعة، وهي الرسالة التي يحاول السلطات الحاكمة في المنامة وايضاً في الرياض، بأن الحضور في الساحة لا يكون بتوجيه الانتقاد والتقويم والتسديد وغيرها من مفردات البناء الحضاري، إنما بالصمت والقبول بالواقع الموجود من صنع الحكام، أو خوض المواجهة الدامية مع قوى "الأمن" مع مشاهد الدماء والاشلاء والسجون والتشريد.
فهل هذا يعني أننا محكومون بهذه المعادلة؟.
إن تكرار تجربة مسلمو الهند في المجتمعات الشيعية، امر وارد ومطلوب في آن، ففي مقابل بعض الحريات واستقرار الوضع المعيشي وتوفر بعض فرص العمل وغير ذلك، يكمن الثمن في الاندماج والقبول بكل شيء دون اعتراض. وهذا ما لاحظناه في المجتمع الشيعي في شمال العراق في الايام الاولى من سقوط الطاغية صدام، وتحديداً في تلعفر وسهل نينوى ومناطق عديدة قرب الموصل وكركوك، فهذه المناطق كانت تسمع منذ تلك الايام، بحوادث التفجير وسط مدن كربلاء المقدسة والنجف الاشرف ومدن اخرى، فيما كانت الاوضاع هناك بعيدة عن النيران، مع بعض الاعتداءات الارهابية بين فترة واخرى.
هذا الاستقرار النسبي كان بثمن القبول بالهيمنة الطائفية وبشكل عنيف ومأساوي. فما كان يجري هناك في تلك الفترة، لم يتضح لنا وللرأي العام الشيعي في العراق وغيره، إلا عندما وصلت نيران الارهاب التكفيري اليهم وتهجيرهم على يد "داعش"، حيث سمعنا كيف أن المسؤولين في الموصل كانوا يمنعون وصول أي مريض من تلعفر لتلقي العلاج في مستشفياتها الحكومية، وإن حصل وتبرع أحد أهالي الموصل بنقل مريض شيعي الى مستشفى داخل الموصل، يتعرض لتعذيب وحشي، فيضربون يديه ورجليه بشدة نكالاً بما قام به.
لقد كان شيعة تلعفر مندمجون في مجتمع الموصل، بلا اعتراض او تنديد بأي سلوك او حالة غير سليمة، او مد جسور التواصل مع الاخرين لصنع رأي عام وتكوين رسالة موحدة لمن يهمه الامر داخل العراق وخارجه بأن الشيعة، كما هم غيرهم من ابناء المذاهب الاخرى ينشدون العيش الآمن وعدم التجاوز على حقوق الآخرين، وأن حقوقهم المشروعة وطموحاتهم لن تكون محل مقايضة مع كرامتهم، فكانت النتيجة الوحيدة هي خوض الحرب بدوافع طائفية مكرهين.
اضف تعليق