وهذه هي معنى المناكفة بين الفرقاء التي أشار اليها اليوم الخطاب المرجعي، همّهم المُلاسنة والمُلاومة، وليس التوصّل الى نتائج، ولذلك أوصى أمير المؤمنين (ع) عبد الله بن عباس عندما بعثهُ للاحتجاج على الخوارج بقوله {لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلكِنْ حاجّهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً} فالمُناكفة ليس من ورائِها طائل وهي لا تُنتج شيئاً نافعاً ابداً كما انّها تُزيد من تعنّت الفرقاء وتشبّثهم برأيهم لتأخذهم الْعِزَّة بالإثم مع سبق الإصرار وهم يعلمون ذلك حقّ المعرفة، فالمُناكفة تحوّل الحوار الى ساحة مُباريات بالكلمات والجُمل الانشائيّة التي تتطوّر أحياناً لتتحوّل الى مباريات بالايدي والارجُل وقناني الماء الفارغة، كما فعلت نائبةٌ مؤخَّراً بفخرٍ واعتزازٍ وكأنّها ترمي قنابلَ على الارهابيّين غاصبي أَرضها وعِرضها.
ومن علامات المُناكفة بين الفرقاء؛
الف؛ إِجترار المشاكل واستنساخها، فهي كلّها مشاكل مُزمنة تتراكم إفرازاتها حتّى بات من الصَّعبِ جداً ان نتصور حلاً بوجودهم.
باء؛ حوارهم حوار الطّرشان فلا الجواب يشبه السّؤال، ولا الخبر يشبه المبتدأ، ولهذا السّبب فانّ كل اجتماعاتهم وحواراتهم وجلَساتهم لا تُرتجى منها أَيّة فائدة تعود بالنّفع على البلادِ والعبادِ.
حتّى مواثيق الشّرف تموتُ قبلَ ان يجفّ حبر أقلامهم التي يوقّعون بها عليها!.
جيم؛ التهرّب من المسؤوليّة فمع كلّ الذي جرى ويجري اليوم لم نسمع ابداً ان أحدهم اعترف بخطأ او تقصيرٍ او فشل.
الدّماءُ تجري انهاراً من دونِ ان يتحمّل احدٌ المسؤوليّة.
الخزينةُ خاويةٌ على عروشِها بسبب الفساد المالي العظيم من دون ان يخبرنا احدٌ من الذي سرقها؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟! فلم يُقَدَّم لحدّ الان (عِجْلٌ سمينٌ) واحِدٌ على الأقل للقضاء!.
الفساد الاداري ينخر بجسد الدّولة، خاصةً في أخطر مؤسّسة في البلاد، واقصد بها المؤسسة الامنيّة والعسكريّة، من دون ان ينبري لنا احدٌ منهم ويتحمّل المسؤوليّة.
مازال السّلاحُ المنفلت يفرض سلطتهُ على مؤسسات الدّولة، ورايات الطّوائف والأحزاب والجماعات تعلو فوق راية العراق من دون ان يقولَ لنا احدٌ منهم لماذا؟ والى متى؟!.
دال؛ اذا قرأت النصّ التالي الذي يصفُ فيه امير المؤمنين (ع) أصحابهُ فستتخيّل انّهم هم أنفسهم لم يتغيّر شيءٌ باستثناءِ الزّمان، حتّى المكانُ نَفْسَهُ لم يتغيّر.
يصفهم أمير المؤمنين (ع) فيقول؛
{أَيُّهَا النَّاسُ، الْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاْعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ المَطُولِ، لاَ يَمنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ! أَيَّ دَار بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ، وَمَعَ أَىِّ إِمَام بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ المَغْرُورُ وَاللهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمْنْ فَازَبِكُمْ فَازَ بَالسَّهْمِ الاَْخْيَبِ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِل.
أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم.
مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟!}.
نعم، هذا هو السّؤال {مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟} فلا الخطابُ المرجعي الذي يمثّل الحكمة والعقلانيّة والحسّ الوطني ينفع معكم! ولا تظاهُرات الشّارع الغاضب وشعاراته الوطنية هزّت شعرة في شاربِكم! ولا الارهاب الذي تمدّدت فقاعتهُ لتحتلّ نصف العراق وتُدمّر كلّ شَيْءٍ اقنعكم بضرورة تجميد خلافاتكم للعمل سويّة من أَجل حماية البلاد والدّفاع عن حياضِها! ولا مخاطر الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي تهدّد الدّولة بإشهار الافلاس أَقنعتكم بوجوب تقديم (عِجْلٍ سمينٍ) واحدٍ على الأقل للقضاء ليقف خلف القُضبان، ليُعيد المال العام المنهوب الى خزينة الدّولة، ولا دماء وأشلاء الابرياء أعادت لِجِبَاهِكم قطرة حياء واحدة لتُعيدكم الى صوابِكم! فما الذي يُمكن فعلهُ معكم لتنتبهوا الى ما يُراد بالبلد؟!.
الى متى تظلّون {كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا}؟.
فبعدَ ان لم ينفع معكم شعار (شلع قلع) هل سينفع معكُم شعار (سَحِلْ دَفِنْ)؟ هذا ما أَخشاهُ؟ وليس ذلك بمستغربٍ عليكم، فنهايات زعماء العراق مختومةٌ به، وهو شيءٌ مؤسفٌ جداً ان لا يختار الزّعماء غيره على الرّغم من معرفتهم انّهُ شعارٌ خطيرٌ لا ينبغي لهم ان يتجاهلوا الشّارع ليصل الى هذه القناعة!.
هاء؛ يوماً بعد آخر تسوء الامور وعلى مختلف الاصعدة، حتى على صعيد العلاقة فيما بينهم هي في تدهورٍ مستمرٍّ، وهذا من أخطر علامات المناكفة ونتائجها، لانّهم عندما يتحاورون ليس من أجل الحلّ وانّما من أجلِ المُلاسنة، وعندما يؤشّرون على فشلٍ او فسادٍ فليس من أجلِ تحمّل المسؤوليّة وانّما من أجل المُلاومة فقط، كلٌّ يرمي بها على غيرهِ! ولذلك ضاعت المسؤولية ولم نعرف لحدّ الان من هو المسؤول الحقيقي عن كلّ الذي جرى ويجري! واذا عمّمنا الفشل والفساد ابتُلينا!.
واو؛ وانّ من اكثر ما يُثير الضّحك والاشمئزاز والسّخرية عليهم عندما نسمعهم كلّهم يتحدّثون عن الاصلاح ومحاربة الفساد وما الى ذلك.
وتلك هي قمّة المناكفة!.
يتصوّرون انّهم يضحكون على عقولِنا، او انّهم اذا استبدلوا جلودَهم وألوانهم وعناوينهم وأزيائهم وخطابهم فسيتغيّر جوهرهم!.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.
ملاحظةٌ أخيرةٌ أرى انّ من الضّروري بمكانٍ الإشارة اليها هنا، وهي؛ انّ المناكفةَ أصبحت اليوم ظاهرة عامة في المجتمع وللاسف الشّديد، فلا تقتصِر على السياسيّين فقط وانّما ابتلِيَ بها كلّ المجتمع بشكلٍ أو بآخر وبمقدارٍ وآخر، وانّ الانتباه الى وسائل التّواصل الاجتماعي وعلى وجه الخصوص الحوارات وما يُنشر ليلَ نهار في مختلف المجموعات سيثبّت عندنا هذه الملاحظة الدّقيقة والخطيرة في آن، ولذلك لا تجد ان مجموعة من هذه المجموعات قدَّمت مشروعاً او مقترحاً أفاد البلد، وانّما كلّ الذي تقرأه عبارة عن مُناكفاتٍ بين الأعضاء، هدفها عرض العضلات واثبات الذّات!.
فهل ننتبهَ الى حالِنا لنغيّرهُ ونبدّلهُ الى أَحسنِ حالٍ قبل فوات الاوان؟!.
اضف تعليق