السياسة عالم مُرَكب ومعقد، فيها من الصراع على المصالح والقوة بكل تجلياتها والقانون بكل مدارسه وتوظيفاته وشططه، بقدر ما فيها من الأيديولوجيا والشعارات والمبادئ، واليوم فإن السياسة القائمة على المصلحة والصراع والقوة أكثر حضورا حتى وإن وظفت خطابا أيديولوجيا كالسلام أو الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية أو الدين. هذه السياسة الواقعية والعملية أكثر ارتباطا وتجليا في سلوك السلطة السياسية الحاكمة، حزب كانت أم نخبة، ديمقراطية أم دكتاتورية، شرعية أم غير شرعية...، أما الأيديولوجيات والشعارات والمُثل العليا فهي أكثر حضورا عند قوى المعارضة.
لا يعني هذا بالضرورة أن الذين في السلطة يفتقرون للمشروعية والمبادئ وشريرون بطبعهم ومجردون من القيم والأخلاق، ومن هم في المعارضة طيبون بطبعهم ومؤمنون بما يطرحون من ايدلوجيات وشعارات وبما يروجون من مبادئ. غالبا يكون الموقع والمسؤولية سببا في الاختلاف في المواقف والسلوكيات.
الذين في السلطة وُضِعوا على المحك العملي وتقع على عاتقهم مسؤولية تسيير أمور الشعب والدفاع عن مصالحه العليا، هذا الموقع يفرض عليهم التعامل بقضايا شعبهم مع العالم الخارجي وإعطاء إجابات عن كل القضايا المطروحة بما هو متاح من إمكانيات حيث يتصرفون على قاعدة (السياسة فن الممكن)، وبالتالي يكونوا معرضين للخطأ والصواب واتخاذ إجراءات وقرارات قد لا يرضى عنها الشعب أو لا يتفهمها، هذا ناهيك أن مغريات السلطة قد تدفع بعض مكوناتها للتصرف حسب ما تمليه مصلحتهم الخاصة الشخصية والحزبية و لو على حساب المصلحة الوطنية.
أما قوى المعارضة فحيث إنها لا تمارس السلطة فعليا ولا تقع عليها مسؤولية تدبير أمور الشعب وتوفير متطلبات الحياة اليومية وليست مضطرة للتعامل مع العالم الخارجي سلما أم حربا حسب ضوابط وشروط الشرعية الدولية والقانون الدولي، وليست مضطرة للإجابة والتجاوب مع المشاكل التي تنتج عن التعامل مع العالم الخارجي إلا بخطاب نظري إن رغبت بذلك، فإنها لا تتورع عن طرح شعارات وأهداف كبيرة، مُسفِهة للسلطة وسياساتها ومُقلِلة من انجازاتها، لذا تبدو للناس العاديين أكثر طهرية وبراءة ومصداقية، فتحظى بشعبية أكبر.
لكن عندما تصل المعارضة إلى السلطة فأنها تُوضع على المحك العملي وتبدأ بالتصرف كحزب سلطة، فتتغير المواقف والسياسات ويتغير السلوك والمظهر لأشخاصها حتى على مستوى اللباس والسكن، وبعد حين من الزمن تبدأ بفقدان شعبيتها حتى في صفوف أنصارها الذين أوصلوها إلى السلطة، فتأتي قوى معارضة جديدة لتحل محلها في ميدان المعارضة، وهكذا دواليك تستمر الحياة السياسية ما بين سلطة ومعارضة.
الدول والمجتمعات تحتاج للسلطة بما تمثله من قوة قهرية تفرض القانون وتنظم أمور المواطنين وتحافظ على التكافل والانسجام والاندماج بين مكونات الشعب بالإضافة إلى دورها في الدفاع عن المصلحة الوطنية والتعامل مع العالم الخارجي حتى مع الأعداء، أيضا تحتاج الشعوب للمعارضة لتراقب ممارسات السلطة وتحد من غلوائها وتدافع عن القيم والمبادئ الكبرى للأمة وتروج الثقافة والثوابت الوطنية عند الجمهور، ومن هنا تأتي مقولة (لو لم تكن المعارضة لخلقناها).
في الأنظمة الديمقراطية يتم حل الإشكالات الناتجة عن هذه التعارضات ما بين السلطة والمعارضة في إطار القانون والتوافق المُلزِم على الثوابت والمرجعيات الوطنية وعلى قاعدة التداول السلمي للسلطة. أما في دول العالم الثالث وخصوصا الدول العربية حيث الدولة الوطنية حديثة العهد وتعيش أزمة تكوينية والمواطنة فيها ضعيفة وانتماءات ما قبل الدولة من أثنية وطائفية أكثر قوة وتأثيرا أحيانا من الدولة نفسها، ومن هم في السلطة لم يصلوا لها في الأغلب عن طريق الانتخابات بل ورثوا السلطة أو استلبوها عن طريق الانقلابات، بالإضافة إلى ضعف إن لم يكن غياب الديمقراطية، مؤسسات وثقافة.
لكل ذلك فإن الفجوة ما بين السلطة والمعارضة تكون كبيرة، ولا تقتصر الاختلافات حول البرامج السياسية والاقتصادية بل تتجاوزها للاختلاف حول الثوابت والمرجعيات الوطنية، مما يؤدي لانتشار علاقات عنف بينهما ورغبة كل طرف في إقصاء الطرف الثاني من المشهد السياسي موظفا خطاب التخوين والتكفير بدلا من البحث عن قواسم مشتركة تؤسس لشراكة سياسية، وإن حدث تداول للسلطة فعن طريق الانقلابات والثورات غالبا.
اضف تعليق