تعد عملية التحول السياسي في العراق بعد العام 2003 عملية تحول ديمقراطي. وعلى الرغم من أن الإطاحة بالنظام السابق كانت بطريقة غير ديمقراطية وبالقوة العسكرية، إلا أن دكتاتورية النظام وتسلطه على الشعب أعطتا الشرعية لهذا التغيير في صور التحول الديمقراطي. هذا التغيير نقل العراق من دكتاتورية الحزب الواحد وانفرادية الشخص الحاكم إلى تعددية الأحزاب وسلطة رئيس الحزب أو زعيم الكتلة، حتى أصبح البرلمان والحكومة والقضاء رهينة للمحاصصة الحزبية والطائفية، وهذا بدوره قد امتد على كل مؤسسات الدولة، مما خلق نوعاً من الحصانة السياسية التوافقية للمفسدين؛ بسبب سلطة رئيس الحزب أو زعيم الكتلة، التي فاقت سلطة الدستور والقانون في إعطاء وتنفيذ الأوامر والتستر على الفساد.
إن "زعماء الكتل السياسية، أو قادة الأحزاب المكونة لها، كانوا في مجمل محطات عراق مابعد دكتاتورية الحزب الواحد (عراق مابعد 2003) أصحاب القرار الفصل في أغلب محادثات تشكيل الحكومة وتوافق القوى السياسية. فالعدد الأكبر من النواب خلال حقبتي الجمعية الانتقالية المنحلة ومجلس النواب لم يكن تأثيره واضحاً. هذا الأمر أدى بنواب البرلمان إلى أن يصبحوا مقيدين بسياسة التوافقات وإرادة الكتل الأخرى، وهي إرادة غالباً ما يحددها زعيم هذه الكتلة أو تلك، أو رؤساء الأحزاب المكونة لتلك الكتل؛ نظراً لغياب الديمقراطية داخل القوى السياسية النافذة في البلاد.
وهنا تكمن أول بوادر الدكتاتورية الجديدة، "التي أصبحت وباءًا سياسياً وعثرةً كبيرةً في طريق الإصلاح". وهي دكتاتورية غير فردية بالمعنى الذي عهدناه في عراق الحزب الواحد. ولعلها أخطر من دكتاتورية الحزب الواحد؛ لأنها تؤدي إلى تفتت وتشظي القرار الداخلي؛ بسبب القرارات المضادة للكتل المتصدية في القوى السياسية الأخرى، عكس القرار في دكتاتورية الحزب الواحد، الذي يكون ملزماً للجميع؛ بسبب سلطته القوية". هذه السمه السلبية "الدكتاتورية الجديدة" أدت إلى صراعات سياسية داخلية كبيرة، وكان لها دور كبير في الانشقاقات الحزبية وعدم التوافق السياسي بين القوى السياسية والأحزاب العراقية، وهي السمة البارزة التي حكمت العملية السياسية العراقية بعد العام 2003، وكان لها الدور الكبير في تفكك البنية السياسية للدولة العراقية على الصعيدين الداخلي والخارجي، مما أدى إلى تغييب دور السلطة التشريعية وإضعاف السلطة التنفيذية وتسييس السلطة القضائية، لشرعنة الفساد، وإعطاء غطاء سياسي للمفسدين وتغييب لكل الأدوار الرقابية، وترهل لمؤسسات الدولة.
فهناك عرف سياسي خلق في العراق مابعد العام 2003 تمثل بسلطة شخص أو زعيم الكتلة، سواء في البرلمان أم في الحكومة. ولذلك نرى أن الوزراء في الحكومة يتحكم بهم رئيس هذه الكتلة أو تلك، وهم مسؤولون أمام أحزابهم وزعماء كتلهم، وليس أمام رئيس الوزراء أو عمل الوزارة، حتى أصبحت الوزارة ممثلة سياسياً لحزب الوزير في أغلب الأحوال. كذلك الحال بالنسبة لأعضاء البرلمان، الذين غيبوا دورهم التشريعي والرقابي، وصاروا يأتمرون بأمر زعماء الكتل في التصويت على القوانين وتشريعها، مما أفسد السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأبعدها عن الإرادة الشعبية، فضلاً عن فساد السلطة القضائية. ومن ثم، أصبح هناك إرباك وخلل في بنية الدولة العراقية والنظام السياسي، مما أفقد كل القوى السياسية طريق الصواب في إدارة الدولة وفقاً للقانون والدستور والرؤية الجمعية، وأدى إلى تغييب المشروع الوطني.
وعليه، فإن أٌولى خطوات الإصلاح في العراق هي بحاجة إلى وعي وإدراك سياسي للأحزاب السياسية أولاً، ووعي وإدراك لنواب الشعب ودور البرلمان ثانياً، وكذلك وعي وإدراك للكابينة الوزارية وعمل الحكومة في الامتثال للقانون والدستور؛ لأن وعي البرلمان لدوره، والخروج من إطار التوافقات السياسية والمحاصصة، وعدم الامتثال لزعيم الكتلة أو الحزب، تعد اللبنات الأولى في بناء العملية السياسية في العراق بشكل ديمقراطي، بعيداً عن المحاصصة الحزبية. ولذلك، فإن تفعيل البرلمان هو خطوة أساسية في طريق الإصلاح، وهذه الخطوة لن تتحقق إلا بضرب المحاصصة الحزبية داخل البرلمان والخروج عن الطاعة العمياء لزعماء الكتل. فإذا ما تحققت هذه الخطوة، فبالتأكيد ستلقي بضلالها على السلطة التنفيذية بشكل إيجابي، ومن ثم ستعطي قوة كبيرة للسلطة القضائية والهيئات الرقابية والنزاهة في محاسبة المفسدين والمقصرين بعيداً عن سلطة ورقابة رؤساء الكتل وإرادة الأحزاب السياسية.
إن أغلب رؤساء الأحزاب السياسية العراقية وزعماء الكتل، هم توّاقون للأدوار القيادية هذه، ولديهم الرغبة الكبيرة في الحفاظ على هذه الأدوار في السيطرة على كل أعضاء الحزب أو الائتلاف، ولذلك هم يحاولون -قدر المستطاع- الحفاظ على الوضع القائم؛ لما فيه من امتيازات وعوائد ومكاسب للحزب "مالية وسياسية". فالكثير اليوم من الأحزاب العراقية التي كان لها دور فاعل في العملية السياسية العراقية بعد العام 2003، والتي أصبحت عبارة عن مؤسسات مالية ومنظمات مصغره غير حكومية، سواء فيما يتعلق بالأملاك العقارية التي تمتلكها والمؤسسات الإعلامية التي تدعمها وتمّولها أو المرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر، فضلاً عن المؤسسات التي تديرها والتي تجني منها عوائد مالية كبير بشكل غير مشروع، مستغله سلطتها ونفوذها و(كنتيجة بديهية للتوافقات السياسية والحزبية وتقاسم الأدوار والنفوذ على مدى الأعوام الماضية)؛ هي اليوم تواجه تحديات كبيرة، ولاسيما في الجانب المالي والتمويلي -أي تمويل مؤسساتها الإعلامية وموظفيها ومقراتها الحزبية - وبخاصة بعد الضائقة المالية التي يمر بها العراق نتيجة الانخفاض في أسعار النفط العالمية. وكذلك الكثير من هذه الأحزاب - ولمدة ربما تصل إلى أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر- لم تستطع تأمين رواتب معظم موظفيها الإعلاميين وغير الإعلاميين، وخفضت رواتب الكثيرين، وسرحت البعض منهم؛ لهذا فهي لا تريد الإصلاح بالطريقة التي تمس بها سلطتها ونفوذها، أو ذلك الإصلاح الذي يعرضها للمسائلة القانونية والرقابية؛ ولذلك هي تقف ضد الإصلاح بطريقة أو بأخرى "مرة بطرح برنامج أو مشروع إصلاحي بما يتناغم مع مصالحها ورؤيتها الضيّقة، أو معارضتها للمشاريع التي تطرح من بعض الشركاء السياسيين الداعمة لإنهاء المحاصصة -على سبيل المثال- ومرة يتم توقيع وثيقة شرف للالتفاف على المشاريع الإصلاحية أو غير ذلك"؛ وذلك خوفاً من تقويض سلطتها الحزبية والسياسية، الذي -ومن المؤكد- يعّرضها للمسائلة القانونية، فضلاً عن الفشل السياسي الذي يصيبها أمام جماهيرها "سواء أولئك المستفيدين أم غير المستفيدين"، مما سيقضي على سلطتها السياسية وحياتها الحزبية "كأحزاب نافذة وقوية".
إذاً، هي دعوة لكل القوى السياسية والأشخاص والجماهير ومنظمات المجتمع المدني المطالبة بالإصلاح أن تعمل على برنامج سياسي واضح، وهو -على أقل تقدير- إنهاء حكومة المحاصصة الحزبية، وإنهاء سلطة الحزب وسلطة رؤساء الأحزاب والكتل السياسية، والمطالبة بأن يكون التمثيل للمكونات ليس طائفياً، أو برغبة حزبية للشخص المعني، وإنما بحسب المعايير القانونية التي يتطلبها عمل الوزارة "الكفاءة، والنزاهة، والاختصاص، والخبرة، بعيداً عن التعصب الطائفي والمذهبي والقومي"؛ لأن التمثيل المكوناتي في العملية السياسية العراقية أمرٌ لايمكن تجاهله؛ بسبب تنوع وتعدد مكونات الشعب العراقي.
وعليه، يمكن أن نطرح تساؤلاً يشغل بالَ الكثيرين، ألا وهو: هل تكون ثورة النواب المعتصمين ثورة ثقافية، "وثقافة جديدة لكسر المحاصصة الطائفية والحزبية وكسر سلطة وإرادة زعماء الكتل والأحزاب السياسية داخل قبة البرلمان"، لتفعيل دور الأخير في الرقابة والتشريع والمحاسبة وتقويم الحكومة؟. وهل إن المعتصمين "النواب" أدركوا دورهم البرلماني بضرورة إنهاء المحاصصة في مجلس النواب أولاً؟، أم إن هذه الثورة هي محاصصة وتكتل من نوعٍ آخر؟.
اضف تعليق