في العالِمِ اليوم تيارٌ من الاعلاميّين والكتّاب يبذل قُصارى جهدهُ ويوظِّف كلّ الأدوات لإقناع الرّأي العام بأَنّ سبب كلّ هذا الارهاب (الدّيني) الذي يجتاح العالم من اقصاه الى اقصاهُ، هو النّصوص فهو، إذن، مفهومٌ وقناعةٌ راسخةٌ في الثّقافة الاسلاميّة وليس كما يبرّرهُ البعض من انّهُ إِجتهادات وشروح، ولذلك، يضيفونَ تأسيساً على هذا الاستنتاج، لا يُمكن القضاء على الارهاب الا بالقضاء على النّصوص، تغييرها مثلاً او حذفها او إلغاءها او بأيّة طريقةٍ أُخرى من الطّرق.
والمسلمون إزاء هذا التّفسير ينقسمون الى ثلاثة أقسام؛
القسم الاوّل؛ هم الارهابيّون الذين يرقصونَ طرباً لمثلِ هذا التّفسير لانّهُ يخدمهم ويبرر نهجهم ويحميهِم.
انّهُ يساعدهم على تحقيق أجنداتهم التي تتبنّى بالأساس نظريّة نشر الرّعب من الاسلام في صفوف الغربيين تحديداً، على قاعدة نظريّة [لقد جئتكُم بالسّيف، او بالرّعب] كما يروون ذلك كَذِباً ودَجلاً على رسول الاسلام والإنسانية (ص).
القسم الثّاني؛ هم البُسطاء والسُّذَّج والمغفّلون المنبهِرون بكلِّ بِضاعةٍ يصدّرها لهم الغرب، خاصَّةً على مستوى الفكر والثقافة والاعلام.
انّهم المهزومون الذين يهضُمون نتاج الآخر بلا عقلٍ يفكّر ويبتلعونَ الطّعم والسمّ بلا انتباهٍ أو حذرٍ.
انّهم لا يحدِّثون انفسهم للدفاعِ عن الحقيقة على الأقل، إن لم أَقُل عن دينهم وعقائدهم ونصوصهم المقدّسة! ولذلك تراهم يردّدون مثل هذا الكلام كالببغاوات لا يفقهونَ شيئاً، خاصّة منهم مَن يقيمُ في بلادِ الغربِ!.
القسم الثّالث؛ هم المثقفون الواعون والمفكّرون النَّبهون، الذين يميّزون بين الغثّ والسّمين عندما يسمعون أَو يقرأون أَو يُشاهدون، وهم يفهمون المغزى من كلّ ذلك، فلا يقبلون أو يرفضون شيئاً قبل بحثهِ ودراستهِ وتمحيصهِ.
سلاحهُم الحوار وأَدواتهم المنطق والدّليل ونهجهم العقلانيّة.
همُّهم الحقّ وتبيين الامور وفرزها من أجل ان لا تختلط على الرّأي العام فيضيع الأخضر بسعرِ اليابس كما يقول المثل! وهو بيت القصيد ومِربط الفرس بالنّسبة للمتربّصين خاصّة الذين يتبنَّون نظريّة صِدام الحضارات وضدّ حوار الأديان، فيدفعون بالاتّجاه المُعاكس دفعاً بمثل هذه المقولات الظّالمة!.
ولا شكّ فانّ الفكرة بمجملِها خطأٌ وهي مُحاولة لبثّ الرّعب والخوف من الاسلام، وبالتّالي لتضخيم الإسلاموفوبيا عند الرّأي العام خاصةً الغربيِّ مِنْهُ.
أولاً؛ فلو ننتبهَ جيِّداً وندقّق في تاريخ المسلمين سنلحظ انّ النَّص الواحد قد تمَّ توظيفهُ في أوقاتٍ مختلفةٍ لأغراضٍ متباينةٍ بل قُل متناقِضةٍ، حالُ المسلمينَ في ذلك حال اتباع كلّ الديانات السّماويّة الأخرى، فيما سنلحظ كذلك تضخّم نصوص على حساب ضمور أُخرى في مرحلةٍ وانعكاس الصّورة في مرحلةٍ أُخرى، هذا يعني انّ النصّ، وهو واحِدٌ لا يتغيّر، لا علاقةَ لهُ بصناعة الأحداث في الزّمانِ والمكانِ، وانّما الذي لهُ علاقةً مباشرةً في ذلك هي الشّروح التي يوظّفها الحاكم من خلالِ وعّاظ السّلاطين وفقهاء البلاط حصراً، كما هو الحال الى اليوم، فعندما قضَت حاجة السّلطان تكفير الطّاغية الذّليل صدّام حسين عند اجتياحهِ دولة الكويت لتبرير قرارهِ باستدعاء القوّات الغربيّة (الصّليبيّة) لبلاد الحرمَين الشّريفَين، استذكرَ كبيرُ فقهاء بلاط نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرةِ العربيّة نصا يختلف عن النصّ الذي استذكرهُ لتقليد نفس هذا الطاغيّة وسام الشّهادة عندما حكم عليه العراقيّون بالإعدام شنقاً حتّى الموت!.
إِنَّهُ التّوظيف السّياسي السيّء للنّص على طول التّاريخ منذ إطلاق نظريّة (التقمّص) على لسان الخليفة الثّالث وقبل ذلك إطلاق نظريّة (التّكفير) على لسان (أُمُّ المؤمنين) مروراً بإطلاق نظريّة (الجبر) على لسان فقهاء البلاط الامويّ في عهد طاغيتهِم مُعاوية ابْنُ هند آكلة الاكباد!.
انّ مردّ ذلك الى حاجة (أصحاب الصّنعةِ) الى المالِ المتكدّس في البلاط.
يَقُولُ الكاتب المصري المعروف أحمد أمين في مقدّمتهِ على كتاب (العقد الفريد) لعبد ربّه الأندلسي، والتي دوّنها في (القاهرة في أكتوبر سنة ١٩٤٠)؛
فَلَمَّا تجمّعَ هذا التّراث الضخم، ورأَوا انّ من العسيرِ الإحاطة به واستقصاءه، وانَّ الخاصّة، فضلاً عن العامّة، ينوءون بحملهِ، ظهرت ظاهرة أُخرى وهي (الاختيار) إختيار خيرَ ما رُوِيَ.
وَكَانَ الباعثُ على الاختيارِ أموراً مختلفةً، منها: أنّ الأدب كان يرتبطُ إرتباطاً وثيقاً بمجالسِ الخلفاءِ والأُمراءِ، وَكَانَ الأُدباءُ بحاجةٍ الى استدرارِ المالِ من أيديهم، وكانوا لا يدرّونَ المالَ الّا إذا سرّهم الحديث أو أعجبهم الشّعر، فعكف رُواةُ الادبِ على تخيّر ما يحسن أن يُروى في هذهِ المجالسِ بما يُعجب او يُضحك أو يهزّ الاريحيّة، فانتخبوا الأدب يستخرجونَ مِنْهُ أوْلاه بهذهِ الأغراض.
وهكذا بمرور السنين والعقود والقرون تضخّم أدب الخلفاء والسّلاطين والأمراء والحكّام الذي يعتمد الشّروح على حساب (النّص) والسّياسي على حساب الدّيني، لتنتقل الحالة بمرور الوقت الى التيّارات والأحزاب والجماعات كما نرى ذلك اليوم بشكلٍ واضحٍ عند جماعات العنف والارهاب، وبكلّ أسمائها ومسمّياتها وعناوينها، والتي عشعشت وبيّضت وفرّخت ونمت وكبُرت في ظلّ نظام (آل سَعود) الذي يُعدّ الحاضنة الدافئة للارهاب والرّاعي الحصري الاوّل للارهابيّين!.
هذا بالنسبة للفقهاءِ والمحدّثين والرّواة.
ذات الامر ينطبق على الفلاسفةِ والمتكلّمين.
يقول الباحث المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابهِ [تهافُت التّهافت؛ إنتصاراً للرّوح العلميّة وتأسيساً لأخلاقيّات الحوار] بهذا الصّدد:
[هذا الطّابع الايديولوجي وهذه الازدواجيّة الصّريحة نجدهُما، أَيْضاً، عند الغزالي الذي كفّر ابْنُ سينا ومن ذهب مذهبهِ في ثلاث مسائل، وبدّعُهم في سبع عشرة مسألة، تشكّل في مجموعِها مضمون ما أعطاه ابْنُ سينا في كتابهِ (الشّفاء) قسم الإلهيّات، لمن سمَّاهم بـ (العامّييّن من المتفلسِفةِ)].
ويُضيف؛
[ليس هذا فحسْب، بل انّ الغزالي يعترف بأَنَّ نيّتهُ لم تكن، يوم كانَ الشّخصية (العلميّة) الاولى في بغداد، على عهدِ الوزير السَّلجوقي نِظامُ الملك الذي استدعاهُ اليه، وهو العهد الذي الَّف خلالهُ كُتبَهُ الأيديولوجية، وفي مقدّمتها (فضائح الباطنيّة) و (تهافُت الفلاسفة) انّ الغزالي يعترف بأَنَّ نيَّتهُ فيما كتبَ في ذلك العهد لم تكُن (صالحةً لوجهِ الله بل باعثَها ومحرِّكها طلبُ الجاهِ وانتشار الصّيت) ويقول (وكنتُ في ذلك الزَّمان انشرُ العلمَ الذي به يُكسَبُ الجاهُ وأدعو اليهِ بقولي وعملي وَكَانَ ذلك قصدي ونيّتي)].
نحن، اذن، نتعامل مع الشّروح ولا نتعامل مع النّصوص، الشّروح التي دوّنها وعّاظ السّلاطين وفلاسفة البلاط الَّذين خلطوا أموراً كثيرةً في مقدّمتها المصالح الشّخصيّة التي لا يجدونَها عادة الى في البلاطِ وعلى موائد الخلفاء والسلاطين والامراء والحُكّام، ليقدّموا لنا كوكتيلاً عجيباً وغريباً لازالت الأجيال تتغذّى عليه وتبني عقليّتها على مادّتهِ! كثابتٍ لا يمسُّهُ الا المطهّرون وصحيحٍ لا ياتيهِ الباطل من بين يدَيهِ ولا مِن خلفه!.
انَّ المدقّق في (النّصوص) التي يتلوها الارهابيّون وهم يهمّون بذبحِ ضحيّتهم أمامَ عدسةِ الكاميرا مثلاً او يُشعلون النّار فيها وهي حيّة داخل قُضبانِ قفصِ الحديد او يُسيلون دمَها برَصاصةٍ يُطلقونها خلف الرّأس، سيلحظ انّها شروحُ مشايخهم ممّن يُسمَّونهم بالسّلف، فهي ليست نصوصٌ ابداً وانّما شروحٌ في حقيقة الامر، دوّنتها الكتب في زمانٍ ومكانٍ وظرفٍ وحاجةٍ سياسيّة معيّنةٍ، يوهِمون بها المشاهد ويضلّلون بها المتلقّي ويغسلونَ بها ادمِغةِ المغرّر بهم من صغار السّنّ تحديداً من البسطاء والجهلةِ والمغفّلين!.
ثانياً؛ تأسيساً على ذلك فانّ كلّ الشّروح التي يوظّفها البلاط على مرّ التّاريخ (الاسلامي) هي شروحٌ سِياسِيَّةٌ وليست دينيّة، الغرض منها إستخدامها في الصّراعات السّياسية والصراع على السّلطة والنفوذ، ولتصفيةِ الخصوم وتبرير العنف الذي يستخدمهُ الحاكم ضدّ المعارضين.
يحدّثنا التّاريخ مثلاً انّ الطّاغية مُعاوية بن هند آكلة الاكباد أنفق آلاف آلاف الدّنانير والدّراهم لـ؛
١/ تفسير النّصوص من قبل فقهاء البلاط من الذين باعوا دِينَهُم بدنيا غيرهم، بما يخدم سياساته الارهابيّة.
٢/ إختلاق الأحاديث والرّوايات في ذكر فضائلهِ.
٣/ طمس الأحاديث والرّوايات وأسباب نزول الآيات بحقّ أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام.
٤/ إبتداع النّظريّات الفلسفيّة والكلاميّة المُشرعنةِ بالرّوايات الموضوعة والشّروح المكذوبة، لإعطاءِ سياساتهِ (الدِّينِيَّة) الجديدة المتناقِضةِ مع قِيم ومبادئ الرّسالة السّماوية، هالةً من القُدسيّة.
وهكذا تبلورت الشّروح التي تحتاجها السّلطة الغاشمة لتّنتِجَ تُراثاً و (شريعةً) هي ابعد ما تكون عن روح الرّسالة ومقاصدها.
يَقُولُ المفكّر اليمني الاستاذ زيد بن علي الوزير في كتابهِ القيّم (الفرديّة؛ بحثٌ في أزمةِ الفقه الفردي السّياسي عند المسلمين) بهذا الصّدد؛
[ويُخيّل إليَّ انّ رفض عُثمان للتّنازل عن الخلافةِ قد خالف رأي الأكثريّة الموجودة في المدينةِ، وساهمَ في تنميةِ الحقّ الالهي لخليفة المعارضة، او لملك الحُكم.
وهكذا تمثّلت فكرة الحقّ الالهي في القميص الالهي، وظهرت لأوّل مرّة أسنان الدّولة الدِّينِيَّة لتطحن بعد قليل نظام الامّة بدونِ رحمةٍ.
انّ قميص الخلافةِ هذا هو نفس القميص الذي رفعهُ مُعاوية على المنابِر ليُحرّض النّاس على الانتقام للخليفةِ الذي رفضَ ان يخلعَ قميصهُ، وهو نفس قميص المصاحف التي رفعها مُعاوية على رؤوس الرّماح في صفّين عندما سَمِعَ صهيل خَيل النّخع وهي تقترب من خيمتهِ.
انّ هذا القميص سيتحوّل شعاراً مدوّياً للخلافةِ الإلهيّة عندما يُعلن مُعاوية وعليهِ قميص الفتنة (انّهُ خليفةُ الله في الأَرْضِ، وانّ مال الله مالهُ يصنعُ بهِ ما يَشَاءُ ويضعهُ حيثُ أحبّ، وقد حاربَ علياً -رَحِمَهُ الله- بالمالِ، فكان يشتري بعضُ اصحابهِ بالجوائز الضّخمةِ) 'طه حُسين: الشّيخان ص ١٨٠' عندئذٍ فقط قامت الإمبراطوريّة].
وعلى ذكرِ سيرة (قميص الفتنة) المشؤوم دعنا هنا نُقارن بين (خليفتَين) مقتولَين، الاوّل هو عثمان بن عفّان الذي وظّف (انصارهُ) الشّروح لشنّ ثلاثةِ حروبٍ متتاليةٍ على الخليفة (الرّابع) أكلت عشرات الآلاف من الصّحابة والقرّاء والتّابعين، قادت الاولى منها (أُمُّ المؤمنين عائشة) ومعها عددٌ من كبار الصّحابة من أمثال طلحة والزُّبَير واضرابهُم.
امّا الخليفة المقتول الثّاني فهو أمير المؤمنين علي بن ابي طالبٍ عليه السّلام الذي وظّف هو واولياء الدّم النّصوص لحقن دماءِ المسلمين عندما أوصى الامام (ع) ولدَيه سبطَي رسول الله (ص) وسيّدَي شباب أهل الجنّةِ الحسن والحُسين عليهما السّلام بعد تعرّضهِ لضربةِ المجرم ابْن مُلجَم المسمومةِ القاتلة في محرابِ مسجد الكوفةِ؛
{يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.
انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ"}.
وهذا هو على وجه الدّقّة الفرق بين النّصّ والشّرح، الاوّل يحقن الدّم بِالْحَقِّ والثّاني يُبيحهُ بالباطل، الاوّل يحمي الامّة من الفتنةِ بِالْحَقِّ والثّاني يُثير الفتنة بالباطل، الاوّل يصونُ العِرض بِالْحَقِّ والثّاني يهتك السّتر بالباطل، على حدّ وصفِ أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) لجند المرأة في حربِ الجملِ بقولهِ؛
فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليهِ وآلهِ) كَمَا تُجَرُّ الاْمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَ هُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيس رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً}.
اضف تعليق