التباسات عديدة تكتنف طبيعة الصراع اليوم في وعلى فلسطين: التباس حول إن كانت العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين علاقة حرب أم علاقة سلم، أو ألا حرب وألا سلم، التباس ما إن كانت الضفة وغزة أراضي محتلة أم مُحررة أم ما بينهما، والتباس في العلاقة ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة وهل هما جزء من سلطة وحكومة واحدة أم كيانان منفصلان أم توجد إدارة للانقسام مُتفق عليها الخ، والتباس حول ما إن ما زالت السلطة الفلسطينية مصلحة وطنية أم تفقد دورها الوطني وباتت عبئا معيقا للمشروع الوطني، والتباس حول مستقبل المشروع الوطني والنخب والأحزاب التي ربطت نفسها بحل الدولتين دون خط رجعة، بعد وصول هذا الحل إلى طريق مسدود، وبعد قطع مخصصات الجبهتين أصبحنا أمام التباس جديد فهل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية ما زالتا جزءا من منظمة التحرير أم خارجها؟.
التباسات كثيرة وحالة من التيه والضياع السياسي تكتنف خطاب المسئولين والمحللين السياسيين. من أبرز هذه الالتباسات وحالة التيه السياسي ما نسمعه على لسان مسئولين فلسطينيين ومحللين سياسيين عن واقع السلطة الفلسطينية ومستقبل الحالة الفلسطينية في حالة فشل خيار حل الدولتين.
في هذا السياق تطفو على السطح ثلاثة احتمالات: البعض يقول بأن إسرائيل ستُعيد احتلال الضفة الغربية! والثاني حدوث فراغ ستملؤه حركة حماس أو داعش! والثالث إعادة الضفة للأردن!! ويغيب البديل الوطني أو نادرا ما يتم تداوله.
أولا: بالنسبة لإعادة احتلال الضفة
هذا الحديث لا يخلو إما من سذاجة أو تضليل في التفكير والتحليل، لسبب بسيط هو أن الضفة الغربية ليست أرض محررة أو مستقلة حتى تُعيد إسرائيل احتلالها. الجيش الإسرائيلي ألغى تقسيم مناطق السلطة إلى (أ) و(ب) و(ج) حيث يتواجد اليوم سياسيا وأمنيا وعسكريا في كل مدينة وقرية في الضفة والقدس ويقوم ببناء المستوطنات تنفيذا لسياسة الاستيطان التي هي أخطر من الاحتلال بمفهومه التقليدي، والجيش الإسرائيلي يقتل ويعتقل مَن يشاء ويهدم ما يشاء من البيوت، إن لم يكن هذا احتلالا فما هو الاحتلال؟!.
ما يوجد ويجري في الضفة والقدس وقطاع غزة أن إسرائيل تستفيد من وجود سلطتين وحكومتين فلسطينيتين، والزعم باستمرار مساعي التسوية السلمية والتلويح بين فينة وأخرى عن مفاوضات غير مباشرة مع حركة حماس بشأن ميناء في قطاع غزة أو تسهيلات تخفف من الحصار، إنما هدفه كسب مزيد من الوقت لتستكمل مشروعها الصهيوني، دون أن تدفع ما يُوجبه عليها القانون الدولي كدولة احتلال من استحقاقات للشعب الخاضع للاحتلال.
ثانيا: بالنسبة لفزاعة حركة حماس وداعش
هناك قيادات في السلطة ومنظمة التحرير يحذرون من أن انهيار السلطة وفشل خيار حل الدولتين سيؤدي لفراغ تملأه حركة حماس أو تنظيم داعش، وهو تحليل يجانبه الصواب إن لم يكن مضلِلا أيضا، لأن الوضع في الضفة غيره في قطاع غزة. إن كانت إسرائيل خرجت من داخل القطاع وسكتت عن سيطرة حركة حماس عليه واستمرارها بحكمه فذلك لأن إسرائيل قدمت القطاع لتأخذ الضفة والقدس وهما في نظرها جوهر وقلب الدولة اليهودية التاريخية والموعودة أما قطاع غزة فمجرد حالة أمنية، وبالتالي لن تسح إسرائيل لحركة حماس أو غيرها بأن تتواجد عسكريا في الضفة الغربية أو تحل محل السلطة وحركة فتح، وحركة حماس نفسها تعرف هذه الحقيقة وتتصرف على أساسها.
ثالثا: بالنسبة للقول بإعادة الضفة للأردن
صحيح أنه قبل بداية عملية التسوية وحتى مؤتمر مدريد كانت مراهنات أن تُعيد إسرائيل الضفة أو أجزاء كبيرة منها للأردن وكان الأردن يعمل على هذا الأساس، ولكن ما جرى على المسار التفاوضي الفلسطيني وبعد توالي الحكومات اليمينية في إسرائيل والتحول داخل المجتمع الإسرائيلي وتواصل عمليات الاستيطان والتهويد لم يعد في الوارد عند إسرائيل أن تُعيد الضفة للأردن أو لأية جهة أخرى، والمملكة الأردنية نفسها باتت اليوم مقتنعة بهذا الأمر وأقصى ما تطمح له أن يكون لها إشراف ولو رمزي على الأماكن المقدسة، أو نوعا من التقاسم الوظيفي حول السكان وليس الأرض.
فشل التسوية والخيارات الراهنة لا يعني نهاية القضية الوطنية
أولئك الذي يبررون استمرار التنسيق الأمني والتمسك بالسلطة بما هي عليه وبأي ثمن، تحت ذريعة الخوف من الخيارات الأسوأ المُشار إليها، وأولئك الذين يمارسون الرفض العدمي والنقد الهدام للسلطة ولا يطرحون بدائل وطنية واقعية وعقلانية، إنما يمارسون التضليل على الشعب وهدفهم من كل ذلك استمرارهم في مواقعهم القيادية واستمرار مصالحهم، أو خدمة لأجندة غير وطنية.
في حالة انهيار السلطة وفشل خيار حل الدولتين لن تسمح إسرائيل بعودة الوضع في مناطق السلطة إلى ما كان عليه قبل احتلالها، بسبب التطورات التي طرأت على الأرض طوال خمسين سنة من الاحتلال، كما أن إسرائيل لن تتحمل مسؤولياتها كدولة احتلال مما يلزمها بتطبيق مقتضيات القانون الدولي ويسقط الشرعية عن الاستيطان وعن كل ما أقدمت عليه من اعمال استيطان وتهويد وتغيير معالم، وحتى قطاع غزة لن تعود علاقته بمصر إلى الحالة التي كانت قبل حرب حزيران.
مع افتراض انهيار السلطة القائمة برئاسة الرئيس أبو مازن فالمتوقع أن تقوم إسرائيل بضم الضفة رسميا أو ضم الجزء الأكبر منها وتترك ما تبقى لسلطة شبيهة بروابط القرى أكثر تجاوبا مع شروط إسرائيل، وللأسف يوجد من الفلسطينيين من هو مستعد للتجاوب مع هذا المخطط حتى من بين الذين يزايدون على الرئيس أبو مازن ويتباكون على السلطة.
في جميع الحالات فإن خيار حل الدولتين مجرد مشروع تسوية وإن فشل لن تنتهي القضية الفلسطينية ولن يتوقف الشعب الفلسطيني المتجذر في أرضه منذ أكثر من أربعة آلاف سنة عن الاستمرار في نضاله من أجل الحرية والاستقلال، وفشل الخيارات السياسية للنخب والأحزاب لا يعني انعدام خيارات الشعب. لذا لن يكون الوضع سوداويا وكارثيا كما يروج ويُخوف البعض، بل سيعود الفلسطينيون لحالة حركة التحرير الوطني ويمارسون حقهم بمقاومة الاحتلال والشرعية الدولية تعترف لهم بهذا الحق وخصوصا بعد الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني بدولة خاصة بهم.
عودة العلاقة التي تحكم الفلسطينيين بالإسرائيليين إلى معادلة شعب خاضع للاحتلال بدولة احتلال وبالتالي لحالة حركة تحرير وطني تقاوم الاحتلال أفضل من الحالة الملتبسة الراهنة التي تمنح إسرائيل الغطاء لاستكمال مشروعها الاستيطاني بينما يتحمل الفلسطينيون والجهات المانحة تكلفة الاحتلال.
اضف تعليق