الإصلاح واحد من أكثر المفاهيم التي تداولت على الساحة السياسية والشعبية العراقية في الفترة الاخيرة، حتى أصبح الحديث عنها بمثابة هزل وضحك، وربما يعدهُ البعض استهلاكا للوقت وتسويفا للمطالب الشعبية التي خرجت من أجل الإصلاح الحقيقي، ولعل التظاهرات الشعبية التي خرجت في الصيف الماضي، والمطالبة بتحسين الخدمات ولاسيما الخدمات الكهربائية، واستمرت تلك التظاهرات لتستغلها التيارات المدنية والمثقفين وبعض الاكاديميين في الخروج إلى ساحة التحرير والساحات العامة في كل جمعة، حتى أصبحت تلك التظاهرات تكتسب صفة رمزية في كل يوم جمعة، ولكن دون جدوى من قبل الحكومة العراقية والقوى السياسية، إلا بعد أن تصاعدت تلك الاحتجاجات حول تردي الاوضاع " الأمنية والسياسية والاقتصادية"، وتدخل زعيم التيار الصدري بتلك التظاهرات بعد دعوة انصاره للخروج بتظاهرات في بغداد "ساحة التحرير"، ومن ثم أردفه بمشروع إصلاحي شامل ومتكامل قدمه للحكومة العراقية؛ ليعلن بعدها الاعتصامات في المنطقة الخضراء، وقبل أن ينهي اعتصامه قدّم السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي الكابينة الوزارية "التكنوقراط" إلى مجلس النواب، ومن ثم تعالت الأصوات من جانب القوى السياسية لإصلاح الدولة العراقية ولكن برؤى ضيقة وباستراتيجيات مختلفة، عكست مدى الخلاف المتجذر بين تلك القوى حول إدارة الدولة، والعملية السياسية.
وعلى ما يبدو أن الإصلاح أصبح بمثابة عدوى وثقافة جديدة للقوى السياسية العراقية، فإلى جانب مشروع الإصلاح الذي قدمه التيار الصدري، قدم السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي مشروعه الإصلاحي –وهو المشروع الذي يتهمه كثيرون بأنه المشروع الذي يتبناه حزب الدعوة ودولة القانون– فهو مشروع لم يخرج عن الإطار السياسي للقوى السياسية العراقية، فضلاً عن المشروع الذي قدمه رئيس المجلس الأعلى السيد عمار الحكيم، الذي عوّل من خلاله على الانتخابات القادمة في النهوض بالواقع السياسي ودفع العملية السياسية إلى الأمام ومحاسبة المقصرين، إذ وصف الانتخابات القادمة "البرلمانية ومجالس المحافظات" بأنها مفصلية في تاريخ العراق، ولهذا عدَّ البعض أن مشروع المجلس الأعلى، مشروع سياسي حزبي لا مشروع عملي حقيقي يستطيع أن يعالج من اللحظة الراهنة، ولم يخرج من إطار التوافقات السياسية الحزبية؛ بسبب الطروحات السياسية التي لم تغادر الاطار التوافقي بين الأحزاب وتعويله على دعم رؤساء الكتل السياسية، وكذلك بسبب موقفه من الكابينة الوزارية التي قدمها رئيس الوزراء الذي أكد فيها "السيد عمار الحكيم" على ضرورة شمول رئيس الوزراء بالتغيير الوزاري، وضرورة أن تكون الكابينة الوزارية ممثلة لكل مكونات الشعب، ويذكر أن زعيم المجلس الأعلى قدم مبادرة لرئيس مجلس النواب في الثاني من نيسان تضمنت خارطة طريق من مسارين لتشكيل حكومة تكنوقراط، وإخراج البلد من الوضع الحالي، وتجاوز الانسداد السياسي الحالي، والحفاظ على مرتكزات العملية السياسية والتنسيق والتعاون بين القوى السياسية المختلفة، قبل أن يرد رئيس الوزراء على مبادرته بقول: " إن مبادرته لتشكيل الكابينة الوزارية الجديدة طرحت على البرلمان ولن يتبنى أي مبادرة أخرى".
كذلك هناك المشروع الذي قدمه الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي، الخميس، حول إصلاح النظام السياسي في العراق وتحويله إلى نظام برلماني قائم على أساس الأغلبية السياسية، والقضاء على الفساد في مفاصل الدولة، وتشخص مبادرة الشيخ الخزعلي التي حملت عنوان "المبادرة الدستورية للإصلاح" سببين أساسيين للفساد في العراق، الأول: هو النظام السياسي الحالي الذي يعتمد النظام البرلماني، مشيراً إلى أن الأخير هو من "أوجد البيئة المناسبة لعملية المحاصصة"، وهيأ الظروف لـ "انتشار الفساد" في كل مفاصل ومؤسسات الدولة. أما السبب الثاني: فهو "الشخوص التي تدير العمل السياسي من ناحية توافر شروط الكفاءة والنزاهة والانسجام أو عدم توافرها"، وتضمنت المبادرة التأكيد على مراعاة الدستور، والتدرج في الخطوات الإصلاحية؛ وذلك بسبب أن الفساد صار له جذور عميقة لا يمكن قلعها بسهولة وبخطوة واحدة.
إذاً هناك أكثر من مبادرة ومشروع إصلاحي طُرح لإصلاح الوضع القائم، أي ما يسميه البعض ب "فوضى الإصلاح" ، وربما كل أطراف التحالف الوطني هي متبنية لمشاريع إصلاحية قد تلتقي مع بعضها وتختلف مع البعض الآخر، وهذا بحد ذاته يؤشر على مدى الانقسام السياسي لعدم توحد الرؤى، ونتيجة للاختلافات السياسية والحزبية بين أطراف التحالف الوطني "الكتلة البرلمانية الأكبر"، فضلاً عن اختلافها مع القوى السياسية الأخرى "السنية والكردستانية"، واختلاف القوى السياسية ذاتها مع التحالف الوطني، تلك القوى التي - ومن المؤكد- أنها لم تبارك وتدعم هذه المشاريع الإصلاحية؛ بسبب هذا الاختلاف السياسي والانقسامات بين الفرقاء السياسيين داخل التحالف الوطني، ولهذا فان انتشار الدعوات الإصلاحية من قبل القوى السياسية والتي تعد بمثابة عدوى انتقال سياسي وصراع فوضوي على تبني المشاريع الإصلاحية، هي دعوات عقيمة، لايمكن أن تنتج مشروع إصلاحي حقيقي بعيد عن المحاصصة الطائفية والسياسية، وبعيد عن مصالح تلك القوى، لأن كلَّ القوى السياسية الحالية هي نتاج نظام محاصصة وقد وجدت نفسها بأنها مشروع لهذا النظام، وأن تمويلها المالي وبقائها السياسي هو رهينة هذا النظام وربما أغلب القوى السياسية قد تنزوي وتختفي من المشهد السياسي تدريجيا في حال وجد المشروع الوطني والإصلاح الحقيقي، والإصلاح الشامل للنظام السياسي.
ولهذا فالمشاريع الإصلاحية التي تدعو إليها بعض القوى السياسية هي مشاريع جزئية لا يمكنها انجاز الاصلاح الحقيقي الشامل، وعليه فالمسؤولية الأكبر اليوم تقع على عاتق التحالف الوطني في انضاج المشاريع الإصلاحية واخراجها برؤية وطنية موحد وشاملة؛ وذلك من خلال الاتفاق على رؤية سياسية موحدة وجامعة، ومشروع إصلاحي شامل، وبرنامج سياسي يستطيع معالجة الأزمات الحالية بإصلاح تدريجي بعيدٍ عن المزايدات السياسية والمصالح الحزبية والولاءات الضيقة؛ لإقناع أطراف العملية السياسية الأخرى، ولاسيما "السنة والكرد" بخطوات جادة في تصحيح مسار الدولة العراقية، والابتعاد عن الاجتهادات الشخصية للإصلاح، والتفرد في القرارات وإدارة الدولة.
ويرى البعض بأن مشروع الإصلاح السياسي مرهون بمقدرة رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي على كسب ثقة القوى السياسية، والتعاطي الإيجابي من قبل البرلمان، وعلى مايبدو فأن هذه العملية تبدو عسيرة جداً في ظل التشظي والانقسام السياسي بين كل القوى السياسية سواء أكان ذلك داخل البرلمان أم في الحكومة، والاجندة (الداخلية والإقليمية) التي تحملها بعض الكتل، ولابد لرئيس الوزراء أن يبحث عن آليات جديدة للإصلاح في حال فشل في تمرير كابينته الوزارية في البرلمان؛ لأن المراهنة على دور القوى السياسية في طرح برنامج إصلاحي حقيقي، هو قضية خاسرة وعاجزة عن تحقيق المطلوب.
اضف تعليق