اذا كانت العدالة الانتقالية تعني التحقيق الذي يركز على المجتمعات التي تمتلك ارثا كبيرا من انتهاكات حقوق الانسان والابادة الجماعية او الحرب الاهلية، ويهدف الى بناء مجتمع اكثر ملائمة لمستقبل آمن.. فهي قمة ما نحتاج اليه في مواجهة مختلف التحديات الامنية والسياسية والاقتصادية المطروحة حاليا.
لكن لماذا لم تطبق العدالة الانتقالية في العراق منذ عام 2003 الى الان؟ هل لا يعرفها السياسيون؟ ام انهم اكتفوا بما حققوه من مؤسسات ترميم الماضي وتعويض المتضررين من سجناء سياسيين ومؤسسة شهداء ومحاكمات رؤوس النظام السابق في الاعوام الاولى من سقوط الديكتاتورية؟ ام ان هناك معوقات حقيقية أبرزها الاحتلال الامريكي اعترت الممارسة السياسية وشوهتها وحالت دون اتمام الملف؛ وهي التي اوصلتنا الى ما نحن نعانيه من ازمات على مختلف المستويات؟ فما هي تلك المعوقات وما هو السبيل الى تجاوزها؟
• غياب رؤية واضحة لتنفيذ آليات العدالة الانتقالية مع بقايا النظام البائد بين ذهاب البعض الى فقه القطيعة (محاكمة دون عفو ودون استثناء مثل المانيا قبل الوحدة)، وذهاب آخرين الى فقه التواصل (محاكمة المجرمين والعفو عن الابرياء مثل هنغاريا بعد الحقبة الاشتراكية)، ويبدو ان كردستان سبقتنا في ذلك عندما اختارت طريقة اغلاق ملف بقايا النظام بعبارة: عفا الله عما سلف.
• تسيس ملف العدالة بكافة مفاصله حزبيا وطائفيا وعشائريا، ما اضر كثيرا بآليات تطبيقها.
• الاختلاف حول ملف المسائلة والعدالة بين رافض ومؤيد؛ مسهل لإجراءاتها ومعقد، اضاع الجدوى القانونية من وجودها وهي المساواة في الاجراءات.
• تأخر اقرار التشريعات القانونية اللازمة لإتمام العدالة الانتقالية من قبيل قانون العفو العام وقانون الخدمة المدنية وغيرها، ترك الامر عرضة للتفسير والتأويل والمزاجية التي افرغت القوانين المعنية من محتواها.
• ضبابية تعبير المصالحة الوطنية وتحويلها الى مهرجان كرنفالي يجير لصالح الاحزاب في مواسم واوقات الانتخابات.. افقد العدالة الانتقالية اهم وابرز اشكالها.
• الاستثناءات التي تمت في الفترة الماضية والتي شملت اعداد كبيرة من شخصيات الخط الثاني في النظام السابق كانت سببا رئيسيا في تكثيف الغموض حول ملف العدالة الانتقالية.
وهنا ينبغي ان نؤكد ان اعادة انتاج العدالة الانتقالية وفرض هيبة الدولة واحترامها على كامل اراضيها ما بعد داعش ومعالجة تزايد الاحتقان الشعبي، اصبحا ضرورة ملحة بعد ان غامر السياسيين به:
بالصراع على السلطة اولا؛ الاختلاف على كل كبيرة وصغيرة ثانيا؛ اعتماد منهج التهميش والاقصاء في التعامل مع الآخر ثالثا؛ واللجوء رابعا الى الاستئثار بالمناصب والامتيازات والاثراء على حساب الآخر والشريك والغير والمال العام.
ان المحاصصة الطائفية وازمة العدالة والمحاسبة التي تعود الى ضعف استقلال القضاء، وتبعية اجهزة الامن للسلطات التنفيذية او الاحزاب السياسية، وتآكل الثقة بالحكومة بفعل الانقسامات الداخلية الحادة، وتراجع دور البرلمان التشريعي والرقابي وغياب ارادة تسوية ملفات الماضي، وكشف الحقيقة، والتستر على فظائع الماضي ومآسي وفساد الحاضر، ومنح القائمين به وعليه الحصانة التي تعصمهم من التعرض للعقاب، هي التي اوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم وليس غيرها، وهي التي تدعونا للتفكير بجدية واخلاص.. عسى ان نجد مخرجا من الاوضاع الحالية.
اضف تعليق