كل المؤشرات والقراءات تتفق على وصف متقارب لمجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، يؤكد الوصف على ان المجتمع العربي في الجزيرة، كان يعاني من معضلات اجتماعية سلوكية وعرفية عديدة، تقصي المدنية بعيدا، وتقرّب عناصر التعصب والقبلية وتعمل وفقا لها، فتجعل من المجتمع منشغلا بصراعات وغزوات وحالات مستدامة من الاحتراب المجتمعي المتبادَل، تشكل مشهدا يوميا له، حتى ظهرت الرسالة النبوية الشريفة، لتصبح نقطة الشروع في بناء المجتمع المدني الناجح، الذي قاد بدوره الى تأسيس وتطوير دولة إسلامية كبرى، ماثلتْ او تفوقت على دول كبرى كانت آنذاك ذات سطوة هائلة، فأخذت دولة المسلمين مكانها التنويري في الصدارة، وبدأت تصحح أخطاء المجتمع الجاهلي الذي انبثقت فيه أولا، وتصاعدت مع الوقت، فتبلور عنها منظومة جديدة من التفكير والسلوك، تستند على قيم جديدة أقرب الى المدنية من سواها، على العكس تماما، من حالة التردّي والتراجع والنكوص التي يعيشها المجتمع الإسلامي الآن في معظم بقاع الأرض.
لقد كان مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله، محصّنا بالقيم المدنية، وقد استقبل ذلك المجتمع على الرغم من تعقيده، جميع القيم الجديدة برحابة صدر، واستبدل بها جميع القيم الفاشلة، ونعني بها قيم التشرذم والتفرقة والتصادم، فصار المجتمع الإسلامي في عهد الرسالة النبوية، مجتمعا مدنيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، حيث توحَّدت كلمة المسلمين، وبدأت صور التعاون والتراحم والتعايش تظهر جلية في جميع علاقاتهم المادية او الأخلاقية او الشعورية، فكانت الأقليات تشعر بالامان، وكان اليهودي ضامنا لرزقه وحقوقه في المجتمع المسلم، لسبب واضح أن القيم الجديدة التي جاء بها نبي الاسلام، لا تقبل التفرقة بين انسان وانسان، وكان مبدأ (الـ لا إكراه)، نافذة فكرية مبدئية تمنح للانسان الفرد وللمجتمع خيارات مفتوحة، تضمن له حياة افضل.
وصارت الحرية، والتعايش، والتكافل، وضمان الرأي، قيماُ ومبادئ زرعتها الرسالة النبوية في تربة المجتمع (المتناحر سابقا)، ليتحول الى مجتمع نقيض لما كان عليه من تعصّب وعماء، بفضل القيم الجديدة، أما السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، هل هناك تشابه بين المجتمع الاسلامي الآن وبين المجتمع الاسلامي في عهد الرسالة النبوية الشريفة؟، ولا شك أن الاجابة ستجيء مما هو عليه الآن واقع المسلمين من تناحر وتفرقة وتضارب، فانعكس ذلك على الافراد والجماعات الاسلامية المشتتة في بلدان وأصقاع عديدة من العالم، ليصبح المسلمون بعيدين كل البعد عن مواصفات وملامح المجتمع الناجح، كونهم صاروا اكثر انشغالا بالتفرقة ومواردها، من التقارب والتلاحم ومواكبة مستجدات العصر؟.
أما الاسباب فهي واضحة ومعروفة، ولا تحتاج الى كثير من العناء والذكاء والاستقراء لمعرفتها، فالمسلمون اليوم يختلفون بصورة جذرية عن المجتمع الاسلامي في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما أنهم لا صلة لهم بالمجتمعات المدنية من حيث التشابه في السلوك والتفكير، على العكس مما كانوا عليه، حينما كانت شعوب وامم الارض كلها تتعلم منهم وتقتفي خطواتهم في العلم والمعرفة، وتجعل منهم قدوة لها في التحضّر واحترام الانسان والسموّ بقيمته ومكانته وصيانة حرمته وحقوقه.
إن قيم المجتمعات الناجحة هي وحدها تكفل عودة المسلمين الى الصدارة، والى اتخاذ الدور الانساني الذي يليق بهم، فالتسامح/ الحرية/ التعايش/ اختلاف الرأي/ الوعي/ التكافل.. ادارة السلطة بلا غطرسة، كلها قيم تذهب بالمسلمين الى النجاح، ولا ينحصر الامر بالفرد او المجتمع وطبيعة الافكار والسلوك الذي يميزه عن سواه، وإنما ينسحب ذلك على السلطة ايضا ورموزها وقادها والكيفية التي تدار بها السلطة، بمعنى أدق.. إن النجاح لا يكمن في سلوك المجتمع وفق قيم متطورة، انما يضاف إلى ذلك، السلوك المتحّضر للسلطة التي تقود المسلمين، كما كان يحدث تماما في عصر الرسالة النبوية الشريفة.
فالمجتمع الاسلامي كان يضم في جوانحه فكرا وسلوكا انسانيا متطورا، يتعاضد معه فكر وسلوك متطور لادارة السلطة بطريقة تدفع بالدولة والمجتمع الى المدنية أكثر فأكثر، حيث صيانة الحقوق، والمساواة والعدل وتكافؤ الفرص، والحرص على الكفاءات، والابتعاد الكلي عن سياسات الاقصاء، والاحتفاء بالمواهب، وحفظ حقوق الآراء المختلفة، كل هذه العناصر كانت متوافرة في مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله، واذا أراد المسلمون اليوم العودة الى الدور الذي يليق بمبادئهم وافكارهم ودورهم الرائد في التنوير البشري، فما عليهم سوى احياء جوهر وصورة المجتمع المدني الناجح، من خلال اتخاذ الخطوات الفعلية لتحقيق هذا الهدف الجوهري.
وهذه مسؤولية النخب كافة وقادتهم، علما ان المسؤولية متدرجة، فالقادة السياسيون يتحملون وزر المسؤولية أولا، تليهم القيادات والنخب الاخرى، فكلها تشترك في مسؤولية صناعة المجتمع الاسلامي الناجح، من خلال اتخاذ الخطوات الإجرائية العملية بعد التخطيط الدقيق، لنقل المسلمين من التراجع الى التقدم لاتخاذ موقعهم الريادي المعروف.
اضف تعليق