مسألة تخطيط واعداد وإدارة الموازنات العامة من الموضوعات المهمة سيما وان الأمر يرتبط باستخدام وتوجيه المال العام والعمل على ديمومة الايرادات وتنويعها للحفاظ على استقرار الموازنة العامة وخصوصا في الدول التي ترتكن الى مورد احادي كالنفط، كما هو حال في العراق، الذي لم تتيح له الإيرادات النفطية في مرحلة اليسر المالي تحقيق فرص حقيقية للتراكم الرأسمالي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تمثله الثروة النفطية من موارد مالية ضخمة، اذ افضى الى اقتصاد مشوه يقوم على الاستهلاك المسرف الذي لا يرتبط ولا يتفاعل مع البنية الانتاجية الداخلية كون دورة الدخل مرتبطة بالخارج؛ بسبب الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد، الذي يتم تغطيته من الإيرادات المالية المتأتية من بيع النفط في السوق العالمية مما يعرضه للتقلبات التي تعصف بالسوق النفطية الدولية.
فضلا عن الفساد والهدر وعدم العقلانية في ادارة المال العام، اذ عملت وفرة المال العام مع سوء ادارته الى تعميق الاختلالات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في العراق، لذا يستلزم الأمر اعادة النظر بطريقة اعداد وتخطيط وادارة الموازنة؛ لتلافي الكثير من المشاكل ولخلق حالة من الارتباط بين الموازنة العامة والنشاط الاقتصادي ومغادرة القطيعة وفك الارتباط بينهما. لذا جاءت قراءة موازنة عام 2016 في هذا السياق ومن خلال مجموعة من الملاحظات منها عامة واخرى تفصيلية.
أولا- الملاحظات العامة
1-الموازنة العامة تعد بالطريقة التقليدية فلم يأخذ واضعوها باعتماد التقنيات الحديثة في إعدادها والابتعاد عن موازنة البنود الى الصفرية أو موازنة البرامج والأداء.
2- غياب الشفافية في إعدادها بسبب عدم وجود الحسابات الختامية للسنوات السابقة مما يضلل متخذ القرار الاقتصادي للضبابية وعدم الوقوف على حقيقة الوضع المالي اضافة الى اتساع الفجوة بين الواقع والتوقع مما يجعل من الصعب تطبيقها على ارض الواقع.
3- عدم تحديد الأهداف الاقتصادية بشكل واضح، إضافة الى أن دور القطاعات الإنتاجية الزراعي والصناعي لم يحدد بشكل ينسجم مع التحدي الذي يواجه الاقتصاد العراقي، وتطوير القطاع الخاص مجرد تمنيات سيما وان المصارف الخاصة والحكومية لا تستطيع ان تقدم الائتمان لهذا القطاع.
4- لم يتم حسم المشاكل بين الاقليم والمركز، والتي تنعكس بشكل سلبي على الوضع المالي
5- الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وانعكاساته على الوضع الاقتصادي والاجتماعي من خلال تدخله في إعداد الموازنة.
6- جولات التراخيص والجدل حول إعادة التفاوض مع الشركات النفطية لضمان عدم الاضرار بالمصلحة العراقية، سيما وان هكذا استثمار أصبح غير مجد مع انخفاض أسعار النفط اذ أصبح العراق يقدم كميات كبيرة من النفط مقابل أموال قليلة.
7- شركات الهاتف النقال وعدم التزامها بتسديد الأموال المترتبة عليها أو استثمار 70 % من إيراداتها داخل العراق، اذ وصل الأمر الى الاقتراض من قطر التي تساهم بأكثر من60% من رأس مال شركة اسيا سيل.
8- مزاد العملة وعمليات غسيل الأموال التي مارستها بعض المصارف الخاصة والتي تسببت في نزيف مليارات الدولارات التي وجدت طريقها لجيوب الفاسدين.
9- الإصلاح الاقتصادي والمالي اذ لازال في معظمه تمنيات وكلام نظري.
10-النفس السياسي للأحزاب والكتل والتقاطعات والصراع فيما بينها والذي يبتعد عن المصلحة العامة لازال هو من يهيمن على إعداد الموازنة.
11- الهيمنة النفطية على ايرادات الموازنة اذ لم تفلح الموازنات من 2003 لغاية موازنة عام 2016 في التخفيف من هذه الهيمنة، سيما وان النفط يعد سلعة اقتصادية-سياسية تتحكم بها عوامل السوق الدولية والتي هي خارج سيطرة الحكومات الوطنية.
12-ضعف الارتباط بين الموازنة وخطط التنمية الاقتصادية إذ لم تعمل على تنويع النشاط الاقتصادي وتحقيق النمو والتنمية وديمومتهما.
13-الترهل الكبير في حجم الحكومة وجهازها الاداري اذ يبلغ عدد الموظفين قرابة 5 ملاين موظف و2 مليون متقاعد ويتقاضون 44 مليار دولار، والذي بدأ يتسع بشكل كبير بعد عام 2003 والذي لا يتناسب مع الانتقال من الاقتصاد المركزي الى اقتصاد السوق ولا يتماشى مع اقتصاد يعتاش على ايرادات النفط.
14-عدم وجود جدية من الحكومة في مواجهة الفساد المستشري الذي كان له الدور الاكبر في هدر وسرقة المليارات من الدولارات، والتي لو وضفت بشكل سليم لأدت الى تحقيق فرص تنموية كبيرة. وان عدم الجدية ترتبط بوجود الفساد السياسي.
15- عدم وجود جدية في متابعة أموال العراق في الخارج قبل وبعد عام 2003 ولا توجد معلومات عن هذه الاموال والجهات المحتجزة لها.
16- لم تظهر تفاصيل الايرادات غير النفطية لبعض الجهات والوزارات مثل ايرادات الموانئ وايرادات الطيران المدني الذي يمر عبر الاجواء العراقية.
ثانيا-الملاحظات التفصيلية
1-استندت تقديرات إيرادات النفط في الموازنة باعتماد سعر45$ للبرميل وبمعدل تسويق 3.6 منها 250 الف برميل من كردستان و300 الف من كركوك، وكل من السعر والكمية المصدرة بعيدة في أكثر الأحيان عن الواقع؛ اذ ان السعر بحدود 27-28 دولار في السوق العالمية والنفط العراقي اقل عن ذلك 5-6 دولار للبرميل، فضلا عن نفقات جولات التراخيص والتي بحدود 22 دولار للبرميل يعني المتبقي 5-6 دولار للبرميل، هذا من جهة السعر، اما فيما يخص الكميات أثبتت وقائع عام 2015 أن الأرقام المطلوب من كردستان تصديرها لن تتحقق ولن تتحقق خلال عام 2016 سيما وان اغلب الملفات بين الإقليم والمركز لن تحسم والتصعيد وتأزيم الموقف ممكن ان يحصل في أي لحظة.
مع ذلك فاذا اعتمدنا سعر 13 دولار للبرميل وهو المتبقي من سعر البرميل المصدر حسب ما أعلنته الحكومة ستكون الايرادات النفطية 360*13*3600=$ 16850
45*3600*360=58300
58300-16850=41450-
أي ان الايرادات الفعلية اقل عن الايرادات المقدرة في الموازنة بحدود 71%
2- تقديرات الموازنة 81.700803138 منها 69.773400000 تريليون دينار ايرادات النفط وبنسبة 85% و15% للإيرادات غير النفطية.
3- اجمالي النفقات 105.895722619تريليون دينار النفقات الجارية 80.149411081 تريليون دينار وبنسبة 76% من اجمالي النفقات فيما كانت النفقات الاستثمارية 25.746311538 تريليون دينار وبنسبة 24% من إجمالي النفقات.
3- العجز في الموازنة هو بحدود 24194919481 دولار في حين ان العجز عند 20 دولار للبرميل هو بحدود 62 تريليون دولار ونسبته 59% من الموازنة وعند 13 دولار سيكون 76%.
4- القروض المذكورة في الموازنة لم تذكر الجهة التي تستفيد من القرض او الغرض منه هل القرض استثماري أم استهلاكي؟ وهل هو قصير الأجل أم طويل الأجل؟ وماهي الأعباء المترتبة عن هكذا قروض؟ إضافة الى ان آلية إصدار سندات دولية وداخلية لم تكن واضحة.
5- تخويل وزير المالية بالاقتراض من الخارج فيه خطورة كبيرة سيما وانه محسوب على الاقليم ومصلحة الاقليم هي التي تمتلك الأولوية في حساباته. سيما إذا قرر الاقليم الانفصال فان اعباء القروض المستقبلية ستتحملها الحكومة المركزية ومكاسب القروض الحالية ستكون من نصيب الإقليم.
6-الفقرة ج تلزم الحكومة بإيجاد وسائل لتسديد مستحقات الفلاحين للأعوام 2014 و2015 و2016.
والسؤال ماهي طبيعة هذه الوسائل؟ يجب ان تكون الامور واضحة سيما هناك اموال مستحقة الدفع بذمة الحكومة كما ان حجم هذه الأموال لم يذكر.
7- حصة اقليم كردستان 17% من الموازنة تمثل نسبة كبيرة سيما وان هناك نسب اخرى تضاف الى هذه النسبة (مثل حصة البيشمركة من نفقات القوات البرية ونفقات تطوير الاقاليم وحصص من قروض الحكومة المركزية) ولم يتم تخفيضها ولا تتناسب مع حجم السكان وأن آلية اعطاء هذه النسبة للإقليم لم تكن واضحة هل دفعة واحدة ام على شكل دفعات؟ هل عند تحقق الايراد المطلوبة ام لا؟ سيما وان معظم الايرادات هي نفطية وتخضع لمستوى الأسعار في السوق الدولية.
8- التعرفة الكمركية وعدم امكانية التطبيق؛ بسبب رفض اقليم كردستان الالتزام، ورفض مناطق أخرى لوجود انتقائية في التطبيق، إضافة الى هيكل هذه التعرفة من حيث معدلاتها والسلع المفروضة عليها تحتاج الى أعادة نظر بحيث تنسجم مع سعر السلعة ومستوى دخل مستوردها وضررها على المجتمع، اذ من غير المنطق أن تفرض نفس معدل الضريبة على السيارات العادية والسيارات الفارهة ذات الأسعار المرتفعة، وإعادة النظر بمستوى الضريبة على المشروبات الكحولية والسكائر. اذ ان الوضع المالي اكثر صعوبة من عام 2015 فكيف تخفض الضريبة على المشروبات الكحولية من 300 %الى 100%.
ما ينبغي عمله؟
- العمل بشكل عاجل على تشكيل خلية ازمة من الحكومة والأكاديميين من ذوي الاختصاص في الشؤون المالية والاقتصادية؛ لمواجهة الأزمة المالية قبل حصول تداعيات خطيرة لا يمكن السيطرة عليها. على ان يكون من أول مهام هذه الخلية وضع موازنة طوارئ تتوائم مع ما متاح من أموال وتقليص حجم الحكومة.
- إحالة من لديه خدمة أكثر من 25 سنة على التقاعد.
- تجميد عمل البرلمان وعمل مجالس المحافظات لحين تحسن الوضع المالي، وتقليص عدد السيارات الحكومية الى أدنى حد وبيع الفائض وإعادة النظر ببيع وإيجار أملاك الدولة، وإعادة تقييم العقارات التي تم تملكها في ظروف غامضة.
- فرض ضريبة على السلع التي تدخل من إقليم كردستان في حالة عدم الالتزام بنظام التعرفة الجمركية، وتقييد الاستيراد الى أضيق الحدود.
- وضع ضوابط مشددة على خروج العملة الصعبة، واختيار آلية جديدة لاستقرار العملة بدلا من مزاد العملة.
- متابعة ومحاسبة شبكات الهاتف النقال من جانب عدم تسديد ما بذمتها من أموال أو استثمار النسبة المتفق عليها داخل العراق بدلا من اخراجها من العراق، فضلا عن عدم السيطرة على امن الاتصالات مما يستلزم من الحكومة تأسيس شركة هاتف نقال وطنية توفر المليارات من العملة الصعبة إضافة الى الجانب الأمني.
- العمل ضمن مشهد البلد المحاصر، وذلك بالبحث عن البدائل المحلية الزراعية والصناعية للاستغناء قدر الإمكان عن الاستيراد.
- مراجعة ملفات مصافي المشتقات النفطية للوصول الى اكتفاء ذاتي في إنتاجها بدلا من استيرادها من الخارج.
- العمل بشكل سريع على وضع آليات جديدة لعمل القطاع السياحي، وخصوصا السياحة الدينية التي بإمكانها ان تساهم في دعم الاقتصاد الوطني.
- اعادة النظر بقانون الملكية الزراعية للأراضي الزراعية التي تحولت الى أحياء سكنية كاملة، وتحويلها بشكل رسمي والتعامل معها كواقع حال والاستفادة من مبالغ تحويل ملكيتها الى أحياء سكنية، والتي بإمكانها لو تم التعامل معها بمهنية عالية لساهمت بحل جزء كبير من الأزمة.
- أخير حصل العراق على المراتب الأولى في تصنيف الفساد عالميا، إذ لم تثبت الحكومة أية جدية في مواجهة هذه الآفة التي تسببت في تدمير الاقتصاد العراقي ونهب أمواله، وأضحى المواطن العراقي بين سندان الأزمة المالية ومطرقة الفساد المالي وهو الذي يدفع ثمن إجراءات التقشف.
اضف تعليق