جرت العادة مع نهاية كل عام أن يقوم كُتاب وسياسيون بعملية جرد لأهم الأحداث التي تركت بصماتها على الوضع العام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وغالبا ما يتم استشراف المستقبل بناء على حصاد العام المنصرم. في منطقة كالشرق الأوسط وفي قضية كالقضية الفلسطينية، ونظرا لأن العالم تحول بالفعل إلى قرية صغيرة تداخلت وتشابكت فيه المصالح والعلاقات بل والتخوفات والآمال فإنه يَصعُب على أي محلل أو مختص يروم تقييم الوضع السياسي وطنيا أن يتجاهل الأحداث والمتغيرات الإقليمية والدولية، فما يجري في العالم العربي ليست أحداثا محلية خالصة بل أيضا نتيجة معادلات وحسابات وصراع مصالح دولية حتى وإن كانت الأدوات التنفيذية محلية في غالبيتها والدماء التي تسيل دماء أهل البلد والخراب خراب للوطن.

بالرغم من أن المشهد العام للعالم العربي منذ سنوات وخصوصا سنوات ما يسمى الربيع العربي لا يدعو لتفاؤل بل يمكن القول إن السنوات الخمس الماضية تتفرد كأخطر السنوات في التاريخ العربي الحديث، إلا أن عام 2015 وهو يطوي أيامه الأخيرة أرسل مؤشرات توحي بشيء من الأمل، ليس أمل بما تحقق ميدانيا أو بالقوى المتصارعة بل بانكشاف حقيقة ما يجري.

قبل أن نتلمس بشائر الأمل سنُشير لأهم الأحداث الدولية والإقليمية والوطنية خلال العام المنصرم:-

1- دخول روسيا الاتحادية لمسرح الأحداث من خلال تدخلها العسكري في سوريا أحدث تغيرا في المعادلة الدولية. التحرك الروسي أسقط تنظيرات سابقة تحدثت عن تفرد الغرب الليبرالي وخصوصا الولايات المتحدة في السياسة الدولية، وأثار الشك حول مقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما ونظرية صدام الحضارات لهانتنغتون. التدخل الروسي المسلح أكد أن العالم كان وما زال محكوما بسياسة المصالح، حيث مسلمون شيعة يتحالفون مع روسيا الأرثوذكسية، ومسلمون سنة يتحالفون مع الغرب المسيحي الكاثوليكي والبروتستانتي، والغرب الليبرالي المسيحي يتحالف ويدعم جماعات دينية إسلامية!.

2- التسوية بين إيران والغرب أو ما يسمى بالملف النووي الإيراني. حيث تم حل الإشكال بعد ثلاثة عشر عاما من التهديدات والاتهامات المتبادلة ومن توظيف هذا الملف لخدمة مصالح طرفيه على حساب المصلحة العربية والمشروع القومي العربي. حل هذا الملف يؤكد أن المصالح هي ما يحكم العلاقات بين الدول وليس الأيديولوجيات.

3- إنهاء التوتر بين تركيا وإسرائيل وعودة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها يؤكد أيضا أهمية المصالح ومحدودية الايدولوجيا كمحدد للعلاقات الدولية.

4- تزايد الأحلاف والحملات العسكرية. فبالإضافة إلى الأحلاف الغربية في العراق وسوريا وليبيا ظهر التحالف العسكري العربي الذي تقوده المملكة السعودية، والتحالف الروسي الإيراني.

5- تزايد العمليات الإرهابية في الغرب والتي تُسند لجماعات إسلامية متشددة وخصوصا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

6- انكشاف زيف الربيع العربي وحقيقة التحالف بين الغرب وعلى رأسه واشنطن مع جماعات وأنظمة بهدف إعادة تركيب منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص بما ينفي عنها هويتها العربية، وبما يستنزف قدراتها المالية.

7- وصول مشروع/مشاريع الإسلام السياسي الجهادي إلى طريق مسدود.

8- انكشاف ضعف وهشاشة القوى الوطنية الديمقراطية.

قد يبدو المشهد مأساويا على كافة المستويات، ولكن وسط هذه المأساوية ينبثق الأمل، ومصدر الأمل يكمن في انكشاف الأمور وتبدُد الأوهام. انكشاف حقيقة (الربيع العربي) وخطابه وأطرافه، وانكشاف حقيقة التدخل الخارجي في العالم العربي بحيث بات المواطن العربي يعرف أن الأحلاف والتدخلات العسكرية لا تخدم إلا أصحابها ولا علاقة لها بنشر الديمقراطية ولا بمقاومة الدكتاتورية والاستبداد، وانكشاف الأيديولوجيات الدينية.

بالنسبة للمشهد الفلسطيني، وحيث إن القضية الفلسطينية ذات صلة بالمتغيرات العربية والدولية أو تصلها شظاياها إن لم تكن أحد المستهدفين من كل ما يجري فإن تقييم حصيلة العام المنصرم واستشراف المستقبل سيُقحم في التحليل المتغيرات الدولية والإقليمية المُشار إليها بالإضافة إلى ما هو خاص بفلسطين.

أهم الأحداث التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال عام 2015:-

1- تزايد حملات المقاطعة الدولية للممارسات الإسرائيلية وخصوصا فيما يخص الاستيطان، ومزيد من الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة.

2- فشل حكومة التوافق الوطني والعودة لحكومتين وسلطتين متعاديتين.

3- تراجع الحديث عن المصالحة وجهود المصالحة و تكريس الانقسام.

4- مزيد من ضعف السلطة الفلسطينية وتفككها.

5- زيادة حالات الفقر والبطالة والتضييق على الحريات وخصوصا في قطاع غزة.

6- عودة الفساد واستشرائه في قطاع غزة والضفة الغربية، بسبب الانقسام وضعف السلطة الوطنية.

7- الانتفاضة الفلسطينية أو انتفاضة السكاكين والدهس.

وسط كل ذلك تأتي الانتفاضة الفلسطينية لتمنح بصيص أمل، بل كل الأمل بالمستقبل، حيث تؤكد الانتفاضة أن الشعب الفلسطيني لم يعد ينتظر معادلات أو مشاريع دولية جديدة، ولا ربيعا عربيا، ولا أحلافا عسكرية، بل لم يعد ينتظر انجاز مصالحة الأحزاب والفصائل الخ، ليدافع عن أرضه ومقدساته، وأن الشعب قرر أن يأخذ المبادرة ويواجه الاحتلال بالممكن والمتاح حتى بالصدور العارية. لقد اكتشف الشعب الفلسطيني زيف الأيديولوجيات والشعارات وقرر أن يُعيد بنفسه القضية الوطنية لأصولها وجذورها كقضية وطنية لشعب يواجه الاحتلال، وأن السعي للسلام والالتزام بالشرعية الدولية لا يتعارض مع الحق بالمقاومة والدفاع عن النفس.

بالرغم من المواقف المُزرية للمتخاذلين والمشككين بجدوى الانتفاضة وقدرتها على تغيير معادلة الصراع مع إسرائيل، فإن الانتفاضة وبعد ثلاثة أشهر وضعت إسرائيل في موضع صعب أمنيا وأخلاقيا وسياسيا، فكما كشفت هشاشة الجبهة الإسرائيلية الداخلية فإنها كشفت الوجه الإرهابي لإسرائيل، وشجعت الحملات الدولية لمقاطعة إسرائيل، وأكدت استحالة العيش المشترك مع الاحتلال.

نعم هناك أمل مصدره أن 12 مليون فلسطيني في الوطن والشتات لم تنكسر إرادتهم أو يتزعزع صمودهم وما زالوا متمسكين بالوطن وبالثوابت الوطنية بالرغم من كل المحن التي يتعرضون لها وبالرغم من كل الضربات التي يتعرضون لها في الداخل والخارج. ليس هذا كلام عواطف وشعارات بل حقيقة يُدركها الصهاينة قبل غيرهم. يدركونها من خلال فشلهم مع مليون وسبعمائة ألف فلسطيني داخل الخط الأخضر لم تستطع إسرائيل أن تستوعبهم أو تدمجهم في كيانها فسعت لمناورة يهودية الدولة لتحمي وجودها مما تعتبره خطرا من أصحاب الأرض الذين يؤكدون أن انتماءهم للهوية والثقافة الوطنية الفلسطينية أكبر من انتمائهم للجنسية الإسرائيلية التي فُرِضت عليهم قسرا. ويدركونها من خلال فشل كل الإغراءات والتسهيلات التي يقدمونها لحولي ثلاثة مليون فلسطيني في الضفة والقدس في ثني هؤلاء عن تمسكهم بوطنيتهم وبأرضهم أو دفعهم للهجرة للخارج، حقيقة تدركها إسرائيل من خلال فشلها في أن تفرض على مليون وثمانمائة ألف فلسطيني محاصرين في قطاع غزة أن يتخلوا عن وطنيتهم، وحقيقة فشل سبع وستون عاما في إقناع أو إجبار 6 مليون فلسطيني في الشتات على التخلي عن حقهم في العودة لوطنهم فلسطين.

انقضى عام ليضاف إلى أربعة وستين عاما من تراجيديا الغربة والشتات والصمود والنضال الفلسطيني، تسقط مشاريع ومؤامرات لتصفية القضية ومشاريع ومؤامرات أخرى في الطريق، تظهر أحزاب ونخب سياسية وتختفي أخرى، تصل لطريق مسدود مشاريع مقاومة حزبية أو تسويات سياسية، ويبقى الشعب الفلسطيني الرقم الصعب الذي لن تُكسر إرادته لا قوة بطش الاحتلال ولا تخاذل وفشل النخب السياسية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق