العالم كله يشهد صعودا للشعبويات، لاتختلف عن ذلك الديمقراطيات العريقة عن دول الرفاه وعن الديمقراطيات المتعثرة او الانظمة المستبدة.
وانت تشهد هذا الجدل الدائر منذ سنوات عديدة بين فئات واسعة من المجتمع العراقي وبين الطبقة السياسية التي تحكمه وتدير شؤونه، ويشتد هذا الجدل حاليا أكثر من أي وقت وهو قد يؤسس لصعود شعبوي عراقي يطيح بما اريد له ان يؤسس لديمقراطية واعدة في المنطقة.
قد يكون مبررا هذا الصعود امام التحديات الامنية والاقتصادية والسياسية التي يمر بها العراق منذ العام 2003، لكن الخوف ان تعيدنا تلك الشعبوية الى ماخرجنا منه عن طريق تلك التضحيات الجسيمة، الاحتلال وتهديم اسس الدولة، ونعود الى ما كانت عليه الشعبويات ايام ازدهارها في حقبة المد القومي الناصري وماتبعه من شعبويات في كثير من البلدان.
ماهي الشعبوية؟
يمكن تعريفها كإيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية. حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات، الأرقام و البيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه.
ومن أكبر النتائج الكارثية للشعبوية هو قدرتها على اقناع عدد كبير من الشعب وغالبا ما يشكلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء.
تشتق كلمة الشعبوية من كلمة أخرى ملتبسة هي "الشعب". وهي تعني نظرية الروائيين الشعبيين الذين يصورون بواقعية حياة عامة الشعب، ويفترض الخطاب الشعبوي التوجه المباشر إلى "الجماهير" وفق تقويم إيديولوجي للنيات والنتائج.
في منطقة الشرق الأوسط أخذ "الشعب" دور «الرعيّة» وممارسة طقوس الطاعة والخضوع بإذعانٍ مطلقٍ للراعي/الحاكم، الذي يسعى بدوره إلى تعزيز تسلط نظام الحكم عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة، والإبقاء على الجهل في صفوف "الشعب"، والحفاظ على مزاجٍ سائدٍ يخضع للعادات والأعراف.
ظهرت الشعبوية في ثلاثينات القرن العشرين وخاصة في أمريكا اللاتينية، حيث برزت الوجوه الأكثر شعبية نتيجة سياسات حكومات ضعيفة وفاسدة، والأكثر شهرة هي التجربة التي خاضها الزعيم خوان دومنغو بيرون والخطابات النارية لزوجته ايفيتا.
توالت الحركات الشعبوية في سياق البيرونية ولكن باسم مبادئ متناقضة وصولا إلى الزمن الراهن: في الإكوادور حيث أقترح الرئيس عبد الله بوكرم بين 1996 - 1997 تشكيل "حكومة من الفقراء" وهو محاط بأكبر أثرياء البلاد، أو أيضا مع الرئاسة "الاجتماعية" لهوغو شافيز في فنزويلا، فلقد نجح في توحيد وتوجيه موجة شعبية عاتية كانت ترفض فساد الطبقة السياسية وتتحرك للتغيير.
واستحكمت السياسات الشعبوية الجاذبة للجماهير في العالم العربي منذ أواخر الأربعينات ووصلت أعلى مستوى لها مع بروز الآيديولوجية الناصرية في مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر. وعلى عكس ما هو حال باقي التجارب الأخرى، انجذب للناصرية الكثير من المثقفين بل وحتى رجال الأعمال أكثر من الجماهير الفقيرة.
تتراوح معاني الشعبوية بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية: مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم لمفردة "الشعب"، وادعاؤهم أنهم صوت وصدى وضمير هذا "الشعب"، فضلاً عن احتكارهم لتمثيله من دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر.
والخطاب الشعبوي هو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية. ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي.
ويرى الباحث الفرنسي بيير أندريه تاغييف أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع الديماغوجية. فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه. ويقول الباحث بأن للشعبوية عددا من الخصائص الأولية. أولها أنها تمثل ثورة ضد النخبة. وهي تزعم أن السياسة هي شيء سهل ويمكن إدراكها بالنسبة للجميع وأن اعتبارها معقدة يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار. ويرى تاغييف أن معظم جمهور الخطاب الشعبوي من الأميين والفقراء خصوصا في المناطق الحضرية، وهي الشريحة التي وصفها كارل ماركس بنبرته النخبوية المترفعة بـ «البروليتاريا الرثة» أو بقاع المجتمع.
تعد إحدى المشاكل المرتبطة بظهور الحركات الشعبوية هي إمكانية انزلاقها إلي العنصرية والتحيز، حيث تحمل جماعة ما، بدون أسس عقلانية، مسئولية المشاكل التي يواجهها المجتمع.
تظهر هذه الحركات بشكل عام أثناء فترات الاضطراب والتغيير، سواء كانت أزمة اقتصادية لها تداعيات اجتماعية واسعة، أو بسبب سيطرة نخبة فاسدة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصة علي حساب المصلحة العامة، كما قد تظهر في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية. وكثيرا ما تصعد هذه الحركات قيادات سياسية جديدة تتميز بالكاريزما والجاذبية، تنجح في إقناع أنصارها بأن وصولها إلى الحكم سوف يؤدي إلى تحقيق الإرادة الشعبية الحقيقية.
في مقاله "حزب الشاي والسياسة الخارجية الأمريكية"، يرصد والتر رسل ميد، أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير، الجذور التاريخية للحركة الشعبوية الأمريكية، والتي تعود إلى المرحلة الاستعمارية. وبحسب ميد، عادة ما تعاود هذه الحركات ظهورها عند انتشار شعور عام بالاستياء من النخبة المميزة اجتماعيا واقتصاديا، مع تفاقم الشكوك تجاه دوافع وممارسات النخبة الحاكمة. وينسب هذا التيار الشعبوي الأمريكي المسمي "بالجاكسونية" إلي الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، الذي استغل الزخم الشعبوي السائد في عام 1830 في إعادة تنظيم النظام الحزبي، وتوسيع رقعة المشاركة الشعبية في الانتخابات.
تعتمد الجاكسونية رؤية تتميز بالإيمان الشديد بالتفرد والتميز الأمريكي، وبرسالة الولايات المتحدة العالمية. يقوم النظام العالمي، وفق هذه الرؤية، على التنافس بين دول تسعي في المقام الأول لتحقيق مصالحها الخاصة. ولهذا، فهي لا تؤمن بإمكانية قيام نظام عالمي ليبرالي. وفي حالة وقوع أي اعتداء على الولايات المتحدة، فإن أنصار هذا التيار يؤيدون القيام بحرب شاملة، هدفها إلحاق الهزيمة الشاملة بالعدو وتحقيق استسلامه غير المشروط.
وعبر التاريخ، واجه الرؤساء الأمريكيون مشكلة في إقناع هذا التيار بدعم سياساتهم الخارجية. واجه الرئيس فرانكلين روزفلت هذه المشكلة، عندما كان يحاول تحقيق الدعم الداخلي للتدخل ضد قوي المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن كان وقوع الاعتداء الياباني على بيرل هاربور قد قدم له مخرجا في ذلك الوقت. وقد لجأ الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، ووزير خارجيته دين أشيستون، إلى خلق "فزاعة" الخطر الشيوعي لحشد الدعم لسياسات تهدف إلى مساعدة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مشروع مارشال علي سبيل المثال. وفي إطار الدفاع عن الولايات المتحدة ضد الخطر الشيوعي، ساند التيار الجاكسوني ميزانيات الدفاع العالية، والتدخل الأمريكي العسكري في الخارج. وقد استغلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة فكرة التنافس مع الاتحاد السوفيتي لحشد الدعم لعديد من السياسات التي أسهمت في تشكيل نظام عالمي ليبرالي يضم الدول غير الشيوعية.
وبعد 11 سبتمبر 2001، سادت قناعة بأن الولايات المتحدة تتعرض لخطر داهم وشديد. لذلك، فإن الرأي العام كان على استعداد لبذل المال والدماء لدرء هذا الخطر. وقد كان أمام إدارة الرئيس جورج بوش الابن الفرصة لتبني سياسة خارجية نشيطة لدعم نظام عالمي ليبرالي في ظل هذا الدعم الشعبي. وسوف يتناقش المؤرخون لسنوات طويلة قادمة حول الأسباب التي أدت بهذه الإدارة لتفويت هذه الفرصة.
يرى ميد أنه من الصعب التنبؤ بتداعيات هذا الزخم الشعبوي الجديد، والذي يتجسد في حركة "حفل الشاي" على السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن يمكن القول إن هناك إجماعا في هذا التيار على أن أمن الولايات المتحدة الداخلي لا يمكن تحقيقه بدون نشاط أمريكي واضح في الخارج. وكلما زاد شعور الجاكسونيين بالخطر، سواء من الصعود الصيني أو من الإرهاب، سوف يزيد إصرارهم على توفير الإمكانيات، وتكوين التحالفات لمواجهة هذا الخطر.
وبرغم المصاعب التي يشكلها صعود هذا التيار بالنسبة للدور الخارجي الأمريكي، فإن ميد يري أن النسخة المعاصرة من التيار الجاكسوني تعتبر أقل عنصرية وتحيزا من التيار الانعزالي الذي تعاملت معه إدارة الرئيس ترومان منذ عدة عقود، وأكثر انفتاحا على ثقافات ورؤى مختلفة. كما يؤكد ميد أنه حتى لو فقدت حركة "حفل الشاي" زخمها، فإن أصواتا شعبوية معارضة أخرى سوف تظهر. ولذلك، فمن واجب صانعي السياسات داخل الولايات المتحدة وخارجها دراسة وفهم هذا التيار الذي أصبح يشكل قوة رئيسية في الحياة السياسية الأمريكية.
اضف تعليق