عندما ننظر الى التحشدات العسكرية التركية على الحدود العراقية والتوغل فيها لعدة كيلو مترات يتبادر فورا الى ذهننا وذهن كل المراقبين السياسيين الدوليين بأن هذا خرق سافر الى قواعد القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي شرعت أساسا من أجل حفظ الأمن والسلم الدوليين، ولا توجد أية ذريعة تبرر هذا الاعتداء على السيادة الوطنية للعراق كدولة مستقلة وعضو في منظمة الأمم المتحدة.
سنحاول في هذا السياق نسلط الضوء على تداعيات هذا الخرق الغير مبرر على الحدود الجغرافية من قبل دولة جارة وهي تركيا التي ترتبط بدولة العراق بروابط تاريخية وثقافية تعود الى أواخر القرن العاشر الهجري، القرن السادس عشر الميلادي وسيكون تناولنا لهذه التداعيات التي صدرت من قبل الفاعلين السياسيين في الحكومتين العراقية والتركية وصناع القرار فيهما ومن قبل منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية هذا من جانب، ومن جانب آخر سنتناول المصالح المنشودة من وراء هذا التدخل المهين لسيادة دولة لها حضورها الدولي والإقليمي المهمين.
فيما يتعلق بالتداعيات التي رافقت هذا الخرق غير القانوني، في الوقت الذي العراق يدافع عن أمنه الداخلي من خلال مواجهة قواته المسلحة البطلة وأبناء الحشد الشعبي الغيارى ضد التنظيم الإرهابي "داعش"، حيث ادعت الحكومة التركية إن هذا ليس تدخلا في شؤون العراق الداخلية ولا انتهاكا للسيادة الوطنية للدولة العراقية بل هو كما جاء على لسان رئيس الوزراء التركي احمد داود أوغلو (انه يريد زيارة بغداد بأسرع وقت ممكن، كما أضاف إن القوات التركية توجهت للعراق للحماية من هجوم محتمل من داعش وإن من فسروا وجودها بشكل مختلف ضالعون في استفزاز متعمد، على حد قوله)، من جانب آخر صرح في مؤتمر صحفي، معلقاً على استبدال بلاده لجنودها في معسكر بعشيقة قرب الموصل العراقية، "هذه المسألة لا تثيرها تركيا أو العراق، إنما أطراف تسعى لصرف الأنظار عن وجودها العسكري في العراق وتدخلها في شؤونه، ويوجد في العراق قرابة 20 فعالية تدريب تعود لدول معظمها لا تجاور العراق، واذا كانت هذه الدول لا تضر بالسيادة التركية، فهي لا تضر بالسيادة العراقية أيضاً".
وأشار داود أوغلو إلى دعم بلاده لبغداد وأربيل عبر إرسال عدة طائرات محملة بالمعدات إليهم، مضيفاً: إن تركيا قدمت الدعم للعراق منذ بدئها في محاربة تنظيم داعش الإرهابي، وعندما أصبح التنظيم عنصر تهديد أجرينا اتصالات حثيثة مع الحكومة المركزية العراقية وإدارة إقليم شمال العراق، وأجرينا مباحثات في هذا الشأن خلال زيارة السيد العبادي إلى أنقرة وخلال زيارتي إلى بغداد.
وأكد أن وحدة العراق من أكثر العناصر أساسية وأهمية بالنسبة لتركيا، مشدداً أن بلاده أكثر دولة تحترم سيادة العراق ووحدة ترابه، لو استطاعت الحكومة المركزية فرض سيادتها على كامل العراق لما استطاعت المنظمات الإرهابية كداعش وبي كا كا أي حزب العمال الكردستاني من أن تنشط في أرض العراق وتشكل تهديداً على دول الجوار والعالم.
كما قال للأسف تنظيم داعش ومنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابيتين يهددان أمننا جميعاً، لذا قدمت تركيا للعراق دعماً من البداية، ونحن ننظر إلى الحكومة العراقية بشكل مختلف عن النظام السوري الذي أعلن حرباً على شعبه. وأضاف داود أوغلو، دربنا أكثر من ألفي عراقي من قوات الحرس الوطني في الموصل، وهؤلاء سيدافعون عن أمن العراق، كما أن وزارة الدفاع العراقية زارت معسكر التدريب، وإن نشر قناعة أن تركيا تجري أنشطة سرية هناك أمر غير صحيح نهائياً.
في الوقت الذي صرح المتحدث باسم الخارجية التركية تانجو بلجيج قوله إن (وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو أبلغ نظيره العراقي إبراهيم الجعفري خلال مكالمة هاتفية أجريت بينهما مساء الاثنين الماضي أن تركيا أوقفت إرسال القوات إلا أنها لن تسحب الجنود الموجودين هناك بالفعل)، وهذا يعني ان تركيا تؤكد على إصرارها في السعي نحو تنفيذ أمر معين يوضح دورها الإقليمي القوي في المنطقة على حساب حرمة وسيادة جارتها جمهورية العراق.
ومن جانب آخر تسعى لتلبية مصالح لأطراف دولية وإقليمية وداخلية سنتحدث عنها لاحقا، وهذا طبعا يتعارض مع تبجحها في عملية انتهاج سياسة جديدة تجاه دوائرها الإقليمية الخمسة المعروفة والتي حددها الرئيس التركي الأسبق (سليمان ديمريل) وهي دائرة البلقان التي كانت مسرحا للحروب الصربية الدموية ودائرة القوقاز وأواسط آسيا التي كانت مسرح صراع على النفوذ بين تركيا وإيران ودائرة شرقي البحر المتوسط التي أسفرت لاحقا عن تعاون عسكري إسرائيلي ــ تركي ودائرة الشرق الأوسط التي تتمثل بالصراع العربي ــ الإسرائيلي والدائرة الإسلامية التي تعتبر تركيا نفسها بمثابة الجسر بينها وبين العالم العربي.
هذه الدوائر الخمسة سابقة التحديد أسس عليها حزب العدالة والتنمية التركي الذي وصل الى سدة الحكم في العام 2002 السياسة الخارجية التركية الجديدة وإدارة دفة المقود السياسي باتجاهها، على يد مهندس سياستها احمد داود أوغلو رئيس الحكومة الحالي وتلخصت بستة مبادئ، أولها هو التوازن السليم بين الحرية والأمن، والثاني يعتمد على تصفير المشكلات مع دول الجوار، والمبدأ الثالث يقوم على التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية، والمبدأ الرابع هو السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، والمبدأ الخامس هو مبدأ الدبلوماسية المتناغمة، أما المبدأ السادس هو إتباع أسلوب دبلوماسي جديد.
قصدنا هذا العرض الموجز لمبادئ السياسة الخارجية التركية الجديدة لنؤكد تناقض فعلها الذي شبه بالتعدي على سيادة دولة جارة مع ما تبجحت به من مبادئ رائعة المعنى في إطار العلوم السياسية والعلاقات الدولية. فيما يتعلق بتداعيات الطرف الثاني من المشكلة وهو الدولة العراقية تلخصت باستنكار حاد وقوي لما أقدمت عليه الجارة تركيا من توغل في حدودها الجغرافية من خلال البيان الذي صدر عن مجلس الوزراء العراقي والذي جاء فيه: (إن السيادة الوطنية وحدود البلاد الجغرافية خط احمر لا يسمح بالنيل منها وتجاوزها على الإطلاق، لاسيما وان الحكومة العراقية لم توقع اتفاقا، أو تسمح للجارة تركيا بتجاوز حدود بلدنا تحت أية ذريعة)، وهذا يفند ما أدعته الحكومة التركية إنها وقعت اتفاقية مع حكومة السيد نوري المالكي في العام 2012 التي تنص على السماح لها بإدخال قواتها العسكرية لمساعدة العراق بمواجهته ضد التنظيم الإرهابي داعش وتدريب أفراد الجيش العراقي، فضلا عن مجلس الوزراء الذي خول السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي حسب ما جاء في البيان الصحفي الذي صدر عن مكتبه (إن مجلس الوزراء ناقش في جلسته التي عقدت على خلفية الحدث موضوع دخول القوات التركية في الأراضي العراقية لافتا إلى أن المجلس خول رئيس الوزراء اتخاذ الخطوات والإجراءات التي يراها مناسبة بشأن تجاوز القوات التركية على الحدود العراقية وخرقها للسيادة الوطنية مع دعمه الكامل للقرارات التي اتخذها مجلس الأمن الوطني بشأن الموضوع ومتابعة تنفيذها).
إضافة الى تهديد الدكتور إبراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي نظيره التركي خلال المكالمة الهاتفية التي تمت بينهما في حالة عدم سحبهم لقواتهم:
(بتقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن والتحرك نحو المجتمع الدولي في حال عدم سحب القوات قبل انقضاء المهلة)، فضلا عن (ان مجلس النواب قرر تضييف وزيري الخارجية والدفاع لمناقشة الموضوع بحسب بيان لنائب رئيس المجلس همام حمودي أوضح ان التضييف يهدف الى بيان ملابسات وتفاصيل العدوان التركي على الأراضي العراقية والإجراءات الحكومية المتخذة إزاء ذلك، مؤكداً على تشكيل لجنة برلمانية مختصة لمتابعة قضية شراء تركيا للنفط العراقي من داعش).
كما شملت التداعيات العراقية بشأن هذا الاعتداء الغاشم على حدود العراق رفض واستنكار الرأي العراقي العام بكافة أطيافه من أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني إضافة الى الاستنكار الإقليمي لهذا التجاوز التركي على سيادة العراق حيث أعلن رئيس البرلمان الإيراني السيد علي لاريجاني الأحد 6 ديسمبر/كانون الأول في كلمة أمام النواب الإيرانيين، إن التدخلات غير الشرعية في الصراعات بالشرق الأوسط ليس من شأنها سوى أن تساعد على انتشار الإرهاب في المنطقة، وحذر لاريجاني من خطورة نشر قوات أجنبية في المنطقة من أجل تحقيق أهداف بعيدة عن الهدف المعلن الذي هو محاربة الإرهاب، وقال إن "الهدف الوحيد للتدخل التركي في العراق والذي حصل على الرغم من معارضة الحكومة العراقية هو تبرير ممارسات الإرهابيين في الموصل ولن تكون له تبعات أخرى سوى تصاعد التوتر في المنطقة، كل هذه التداعيات التي أفرزها هذا التدخل العسكري التركي من طرفي المشكلة نتج عنها التساؤل التالي: هل ستحدث مواجهة عسكرية بين العراق وتركيا؟؟.
أما فيما يخص المحور الثاني من مقالنا وهو يتضمن الأهداف وتعدد المصالح الحقيقية التي تسعى إليها تركيا من وراء هذا التدخل السافر، وهذا واضح وضوح الشمس ولا يصعب على المحللين والمراقبين الدوليين كثيرا في وضع النقاط على الحروف في ضوء التحديات التي واجهة السياسة الخارجية التركية التي انتهجها حزب العدالة والتنمية ومنها تحديات داخلية تبنتها النخب السياسية الجديدة في تركيا بعد ان تراجعت السياسة الخارجية التركية الجديدة مضطرة عن الخطاب السياسي التقليدي للنخب البيروقراطية الاتاتوركية، مع ذلك اعتبرت احتلال العراق في العام 2003 تحديا مباشرا لأوليات سياستها الخارجية الإقليمية التي تشكلت في ظل مبدأ سياسة المشاكل الصفرية، إضافة الى التحديات الإقليمية التي تمثلت بأحداث الربيع العربي التي انطلقت في العام 2011 والتي شكلت تحديا حقيقيا لإستراتيجية السياسة الخارجية التركية في الوقت الذي كانت تسعى فيه تركيا لتكثيف علاقاتها مع دول الجوار العربي في محاولة منها لتحقيق نموذج التكامل الإقليمي وعمدت الى إلغاء تأشيرة الدخول مع عدد من الدول العربية، فضلا عن الانتقادات المستمرة التي يوجهها الغرب الى تركيا بسبب تغيير بوصلة سياستها.
وبعد تجلي هذه التحديات الداخلية والخارجية والإقليمية وصلت تركيا الى مفترق حرج وهو هل ستستجيب الى هذه التحديات ام تواصل السعي الى أقصى مدى لفرض قوتها في الشرق الأوسط؟ وهذا مايجعل تركيا تسعى بسرعة أكبر مما كانت عليه لتحقيق أهدافها وتطبيع سياستها الخارجية الجديدة وحسب رؤيتها ان العراق هو الأرض الخصبة التي تتحمل برنامجها في احتلال سياسة المكان الإقليمي، خاصة وإنها تعتبر مشكلتها على الحدود مع العراق لم تنتهي خصوصا مايتعلق بمدينة الموصل التي كانت تعتبرها ضمن حدودها قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى حتى استطاعت ان تنتزعها بريطانيا من الأتراك بعد ان حصلت على إعلان رسمي من قبل عصبة الأمم المتحدة والذي نص على ان مدينة الموصل هي من ضمن أراضي الجمهورية العراقية في العام 1925، وهذا طبعا منذ ذلك الحين جعل تركيا في حالة عدم استقرار في علاقتها مع العراق رغم التبادل الاقتصادي والتجاري الذي ساهم بشكل فاعل بانتعاش اقتصادها، إذن ماوراء تحركها العسكري الذي شمل عدة فرق عسكرية من النخبة وعشرات الدبابات والسلاح الثقيل بكافة أنواعه عدة مصالح وأهداف أولها تحريك قضية الحدود مع الموصل، إضافة الى دعم قوات البيشمركة الكردية في مواجهتها مع فرسان الحشد الشعبي ومطاردة حزب العمال الكردستاني في الموصل الذي تعتبره عدوها الأول وربما تساهم في ضرب التنظيم الإرهابي داعش ولكن دون تحديد مستوى هذا المساهمة.
وتناقلت التسريبات أخبار حول الرواية التركية الرسمية التي تفيد بأن هذه التعزيزات العسكرية تأتي في إطار تبديل مناوبات للجنود والمدربين الأتراك في معسكر الزليقان شمال بعشيقة في الوقت الذي نقلت صحيفة حرييت" التركية المعارضة، بأن التحركات العسكرية التركية في محافظة نينوى تأتي ضمن اتفاق بين أربيل وأنقرة على منح تركيا قاعدة عسكرية دائمة في منطقة بعشيقة التي تبعد 30 كم عن مدينة الموصل وتتبع لها، حيث تم توقيع الاتفاق بين كل من البرزاني ووزير الخارجية التركي السابق، المسؤول الحالي عن ملف الشرق الأوسط والتحالف الدولي ضد التنظيم في الخارجية التركية، فريدون سينيرلي أوغلو، خلال زيارة قام بها المسؤول التركي إلى أربيل في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وهذا ما يؤكد النوايا السيئة التي تضمرها تركيا لوحدة العراق والتي كانت تنادي مرارا وتكرارا بان وحدة وتماسك نسيج الشعب العراقي وسيادته الوطنية يهمها بالدرجة الأولى لكن سرعان ما كشفت هذه النوايا أمام الرأي العام الشعبي والرسمي العراقي والإقليمي على حد سواء من جراء هذا التدخل الذي سرعان ماشجبته واستنكرته الحكومة العراقية والشعب العراقي بكامل أطيافه.
الخلاصة
بعد ان لاحظنا اختلاف التداعيات من خلال تصريحات المسؤولين وصناع القرار الأتراك والعراقيين والحجج التي تضمنتها هذه التداعيات نخلص الى قضية مهمة وهي إن ملف تقسيم العراق مازال محط حوار وجدل دول الجوار الإقليمي تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية التي هي من وضعت هذا الملف في الوقت الذي تدعم فيه إقليم كردستان العراق الذي ينادي بالانفصال عن الحكومة المركزية، هذا الموضوع تناغم مع التدخل التركي في العراق تحت ذرائع مختلفة، والذي تريد تعلن من خلاله للمجتمع الدولي على ضرورة أن يكون لها دور ورأي فيما يجري على الساحة العراقية من صراعات سياسية الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية لم تدِن التحرك العسكري على الحدود العراقية لعدة أسباب، منها إبقاء العراق ضعيف القوى مما يؤدي الى تحريك ملف التقسيم، لان كما هو معروف ان الولايات المتحدة الأمريكية تسعى الى تحقيق مصالحها من خلال خلق الأزمات ورغم إنها هي التي سعت الى إضعاف العراق وبهذا اكدت فشلها الذريع، لكنها لو وجدته عراق موحد وقوي سوف لن تستطيع تحريك ملف التقسيم.
إذن ما يجري في الساحة العراقية من صراعات مختلفة جعل العراق محط أنظار الطامعين وفي مقدمتهم دول الجوار، لذلك سارعت الى الموصل لتكون البديلة لداعش في حالة القضاء عليه بدلا من أن يحررها البيشمركة وعند ذاك تضمها حكومة إقليم كردستان للإقليم.. وعليه صمام الأمان لحل ما يدور في العراق في الدرجة الأساس هو التوحد العراقي بكافة أطيافه ومذاهبه وكياناته السياسية ومنظماته المدنية والشعبية للوقوف بوجه هذه السيناريوهات التي تهدف أولا وآخرا الى تقسيم العراق واستلام الغنائم، رغم انه لم يبق فيه ما يسرق سوى البترول والبترول هو أيضا تقاسمته القوى المتنافسة على خيرات الجسد العراقي، في منطق نظريات العلاقات الحديثة اجمع الباحثون على إن لا يمكن لدولة تتوحد بمساعدة دولة أخرى ما لم تنهض هي بنظامها السياسي وتركيز موقعها الاستراتيجي الإقليمي والدولي وتوحيد صفوف شعبها واستنهاض الحس الوطني لدى كل مواطن ليقف صفا واحدا أمام أي اعتداء خارجي.
اضف تعليق