أكثر من خمسة عقود مرت على فتوى للشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق، تبيح التعبد على المذهب الجعفري. يومها كانت البلدان العربية والمسلمة تعيش فورة من حركات التحرر الوطني وتنتفض ضد استعمارات من جنسيات مختلفة، يطغى عليها اللونان الفرنسي والانكليزي.
أضف الى ذلك، التطلعات القومية في مشاريع بناء الدول الوليدة تماهيا مع النموذج القومي الاوربي في دول ما بعد الحرب العالمية الثانية، وان كانت الدولة القومية العربية قد انتهت الى شكل من اشكال الانقلابات والانقلابات المضادة.
في مثل تلك السنوات، لم يكن الدين بتمظهره السياسي السلطوي حاضرا بقوة، رغم وجوده كفاعل اخلاقي وثوري في الفضاء العام للبلدان العربية والمسلمة، حيث شاركت العديد من الحركات ذات اللون الديني في ذلك الطيف الثوري الواسع، وكانت كل جماعة اسلامية تندمج في النسيج الوطني العام لبلدها، طالما ان الهدف واحد لكل الجماعات الوطنية الاخرى، وهو التحرر من الاستعمار والحصول على الاستقلال.
وفي مثل تلك السنوات بأفكارها التحررية بشتى اتجاهاتها، ظهرت دعوات التقريب بين المذاهب الاسلامية، وسبقتها دعوات الى الحوار والتعارف على الاخر كجزء اصيل من هذا النسيج المجتمعي. وكانت الدعوات دينية خالصة لا غبار سياسي عليها يمكن ان يغطي ملامح الصدق فيها.
فظهرت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي اسسها الشيخ محمد تقي القمّي بمشاركة محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق صاحب تلك الفتوى، والذي بعث بنسخة منها الى الشيخ القمي لحفظها في دار التقريب.
ولان دوام الحال من المحال، مع التغيرات السياسية الكثيرة التي عصفت ببلداننا منذ نهاية الستينات وحتى اليوم، بدءا بهزيمة حزيران وزيارة السادات لإسرائيل وليس انتهاء بالثورة الايرانية، كل هذه الاحداث وغيرها، منحت فرصة لبروز نوع من السياسة تنطلق من الدين، لكنه ليس بالضرورة الجوانب المنفتحة منه على الاخر، بل عملت على الانغلاق على نفسها وهي تواجه حكومات بلدانها وبلغ بها الانغلاق حد تكفير تلك الحكومات امتدادا الى تكفير مجتمعاتها، وبالضرورة تكفير الاخر المختلف دينيا عنها.
ولعل مصر و"مشيخة الازهر" فيها، كانت أكثر تلك البلدان في هذا التحول الحاد من الانفتاح على الاخر (شلتوت) الى تكفير الحكومة والمجتمع (قطب).
ربما ساهم في ذلك من الطرف المقابل، ظهور (شيعية سياسية) اخذت تبشر بنموذجها الثوري الذي لا يقف عند اعتاب حدود دولتها (ثورة ايران) بل اصبحت تطمح ان تمد نفوذ تلك الشيعية الجديدة الى وراء الحدود المجاورة وربما حدودا جغرافية ابعد من ذلك، فالطموح الثوري لا يقف عند اعتاب الجيران القريبين.
وربما ساهمت الحرب العراقية الايرانية آنذاك في استدعاء نموذج العدو القومي الغريب (الفرس) واعادة احياءه من جديد، مع طغيان لمشاعر قومية كانت المجتمعات العربية تجد المعبر عنها وعن تطلعاتها الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين. ولم تقف صورة هذا العدو عند حده القومي، بل انسحبت تدريجيا الى دينه (المجوس).
ولم تكن مصر وقتها بعيدة عن هذا المشهد، وهي التي تقف الى جانب العراق في حربه مع ايران، وهي التي شكلت مع العراق والاردن واليمن اشبه ما يكون بحلف رباعي وثّقته عدسات الكاميرا في صورة اصبح ابطالها خارج الحياة او خارج السلطة.
بعد العام 2003 وصعود شيعية سياسية جديدة الى سدة السلطة والحكم في العراق، بعد ظهور شيعية دينية – مجتمعية رديفة في نفس العام، وهي التي سمحت بصعود تلك الشيعية السياسية عبر صناديق الانتخاب، اصبح كل ما يمت للشيعة مصدرا للخطر بالنسبة للاخر السنّي، لا يختلف في ذلك أي مجتمع عن حكومته، ساهم في ذلك ربما هذا التوجه من الشيعية السياسية العراقية نحو الجارة ايران، لتتشكل مع مرور الزمن صورة للشيعة في العراق او أي بلد عربي اخر يتواجد فيه الشيعة ليس بعيدا عن تلوينها بملامح ايرانية، تكون تلك الصورة ظلا لتلك الملامح او انعكاسا لها.
ثم لتاتي الازمة السورية وقبلها التحذير الاردني من الهلال الشيعي لتكمل رسم الصورة وتشكيلها. ولم تكن "مصر – مرسي" يومها بعيدة عن هذا التشكيل الجديد لصورة عدو يتم صناعته عبر المهرجانات والخطب الحماسية لجماعات الاخوان المسلمين وباقي التيارات السلفية، ليصل ذروته في قتل وسحل الزعيم الروحي لشيعة مصر حسن شحادة وعدد من رفاقه.
مشيخة الازهر وهي التي يتم تعيينها بقرار حكومي، وهي التي ترى نفسها الممثل العقائدي الشرعي لسنّة العالم والمدافعة عن روح هذا التسنن ضد عدو نجحت الوهابية والحركات السلفية في تخليقه، اعتمادا على طموحات ثورية لاتقف عند حد (ايران) او جرح غائر في المخيال الاسلامي في عاصمة الخلافة الاسلامية (بغداد)، واستفحال الازمة السورية، اضافة الى الاحداث في لبنان او اليمن او البحرين، كل ذلك دفع بهذه المشيخة وبعد اكثر من خمسة عقود على انفتاحها الى تصديق ما رسمته فرشاة الاخرين، لعدو متوهم يحمل كل شرور العالم على التسنن والمجتمعات السنية.
في احدث توجه لنشر الكراهية والتعصب ضد الاخر ينشر الازهر الشريف اعلانا عن مسابقة ثقافية تحت عنوان (نشر التشيع في المجتمع السني: اسبابه، مخاطره، كيفية مواجهته) ويذكر في ديباجة الاعلان مانصه: (ايمانا بدور الازهر الشريف التنويري والتثقيفي والحضاري يسر مشيخة الازهر الشريف ان تعلن لأبنائها طلاب البحوث الاسلامية بمراحلها المختلفة وكلية العلوم الاسلامية للوافدين عن المسابقة الكبرى حول الموضوع).
لا أدرى عن أي تنوير او تثقيف او تحضّر يتكلم الازهر، حين يفتح بوابات التعصب والكراهية ضد الاخر المختلف مذهبيا عنه، وهو الذي لا يفرق بين ما تقوم به السياسة من استغلال للديني لأجل مصالحها، وبين الدين الذي يرفض ان تسرق السياسة روحيته ونبله.
ستكون منطلقات تلك البحوث هي ما الت اليه نتائج صراع النفوذ السياسي بين الدول وسحبها كمروحة واسعة تغطي مجتمعات شيعية بكاملها، مع تشويه لتلك المجتمعات وعقائدها.
اضف تعليق