حري بشبابنا اليوم أن يتخذوا من هذا الإمام العظيم قدوة وأسوة، يستلهمون من سيرته العزم لبناء مستقبل مشرق لأنفسهم ولأمتهم. هي دعوة مفتوحة لكل شاب لأن يكون "جواداً" في طاقته، "تقياً" في سلوكه، "عالماً" في تخصصه، و"واثقاً" بربه وبنفسه. إنها خارطة طريق لتحويل الشاب من رقم عادي في...

مقدمة: ظاهرة الإمامة المبكرة وتحدي العمر

يمثل الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، الإمام التاسع من أئمة أهل البيت، ظاهرة فريدة في تاريخ الإسلام والإنسانية، تجسدت في توليه مقاليد الإمامة والقيادة الروحية والعلمية للأمة وهو في سن مبكرة (سبع أو تسع سنين). هذه الظاهرة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت "معجزة السماء في الأرض"، ورسالة بليغة للأجيال، وخاصة للشباب، بأن النضج، والوعي، والقدرة على القيادة والتأثير، ليست رهينة بطول العمر أو تعاقب السنين، بل هي نتاج البناء الذاتي، والعلم اللدني، والارتباط بالله تعالى.

إن حياة الإمام الجواد (عليه السلام) القصيرة في مدتها (استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره)، والعريضة في عطائها، تقدم للشباب اليوم "خارطة طريق" متكاملة لبناء الذات، وتكوين الشخصية الرسالية التي تمتلك هدفاً ورسالة في الحياة.

أولاً: كيف يستفيد الشباب من سيرة الإمام الجواد (عليه السلام)؟

يستفيد الشباب من سيرة الإمام الجواد (عليه السلام) عبر إسقاط تجربته الرائدة على واقعهم المعاصر من خلال عدة محاور رئيسية:

1. كسر حاجز "العمر" والقدرة على القيادة

إن أول درس يقدمه الإمام الجواد للشباب هو الثقة بالنفس والقدرة على الإنجاز. فقد واجه الإمام تشكيكاً من بعض وجوه المجتمع وحتى من بعض كبار السن في العائلة العباسية بسبب صغر سنه، لكنه أثبت أن "القيمة بالجوهر لا بالمظهر".

وعندما اعترض العباسيون على المأمون لعزمه تزويج الإمام الجواد من ابنته لصغر سنه، رد عليهم المأمون قائلاً: "ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم! وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه".

والعبرة ان الشباب مدعوون لعدم الركون إلى فكرة "ما زلت صغيراً"، بل عليهم المبادرة لتحمل المسؤوليات الكبيرة، فالنضج العقلي والروحي هو المعيار الحقيقي. وكما احتج الإمام الجواد (عليه السلام) بنبوة يحيى وعيسى (عليهما السلام) وهما صبيان، فإن الشباب يمتلكون طاقات كامنة تحتاج إلى تفجيرها بالعلم والعمل.

2. التفوق العلمي كأداة للتمكين

لم يفرض الإمام الجواد احترامه بالسيف أو المال، بل "بالعلم". لقد تصدى لأعقد المسائل الفقهية 

وحين سأله يحيى بن أكثم: "ما تقول في مُحْرِم قتل صيداً؟"، ففصّل الإمام المسألة تفصيلاً دقيقاً أذهل الحاضرين، قائلاً: "قتله في حِلٍّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ عمداً قتله أم خطأ؟..." إلى آخر التفريعات التي أظهرت سعة أفقه وعمقه العلمي.

ورسالة الإمام للشباب هي أن "العلم" هو السلاح الأقوى لفرض الوجود وبناء المستقبل. لا يمكن للشاب أن يكون قائداً أو مؤثراً دون تخصص دقيق وثقافة موسوعية.

ثانياً: العبر التي تكون مرشداً ونوراً لحياتهم

من خلال استقراء سيرة الإمام (عليه السلام) في المصادر، نخلص إلى عبر جوهرية تنير درب الشباب:

1. الزهد في مغريات السلطة والترف

عاش الإمام الجواد في عصر الدولة العباسية التي كانت تفيض بالأموال والترف، وكان صهراً للخليفة المأمون، ومع ذلك لم يتلوث بزخارف السلطة.

وعندما رآه الحسين المكاري في بغداد محاطاً بالتعظيم، ظن أن الإمام لن يعود إلى المدينة، فقرأ الإمام أفكاره وقال له: "يا حسين، خبز الشعير وملح الجريش في حرم جدي رسول الله (ص) أحب إلي مما تراني فيه".

يعلمنا الإمام أن لا ننبهر بالمظاهر المادية الزائلة، وأن نحافظ على هويتنا ومبادئنا مهما كانت المغريات، فالقيمة الحقيقية في القناعة والارتباط بالأصل لا بالقشور.

2. الصبر على الأذى وكتمان الغيظ

رغم الحفاوة الظاهرية، كان الإمام يعيش تحت رقابة صارمة وضغوط سياسية، وزوجته (ابنة المأمون) كانت تنقل أخباره وتشكوه، ومع ذلك قابل هذا الأذى بصبر جميل وحكمة، حتى قضى شهيداً مسموماً. هذا الصبر هو درس للشباب في تحمل ضغوط الحياة والتحديات الاجتماعية.

ثالثاً: الأدوات والأساليب لبناء أهداف وطاقة إنتاجية

نستخلص من حياة الإمام الجواد (عليه السلام) مجموعة من الأدوات التي تمنح الشباب الطاقة للعمل والإنتاج:

1. "البرمجة العبادية" وتنظيم الوقت

كان للإمام برنامج عبادي دقيق، ونوافل يؤديها، وأدعية يناجي بها ربه، مما يمده بطاقة روحية هائلة. فقد ورد أن الإمام كان كثير النوافل، وكان له تعقيبات ودعوات خاصة في الصباح والمساء، مثل: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً...". هذه المحطات الروحية هي "محطات وقود" للشباب لمواجهة ضغوط الحياة المادية.

2. "الإدارة المالية" والتكافل الاجتماعي (الجود)

لقب بـ "الجواد" لكثرة عطائه. لم يكن عطاؤه عشوائياً، بل كان يدير الأموال والحقوق الشرعية التي تصله لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين ووكلائه.

فالشاب المنتج هو الذي لا يعيش لنفسه فقط، بل يخصص جزءاً من طاقته وماله لخدمة المجتمع. هذا العطاء يولد شعوراً بالمسؤولية والرضا النفسي، وهو محرك أساسي للإنتاج.

3. "التواصل الفعال" وبناء شبكة العلاقات (نظام الوكلاء)

رغم الإقامة الجبرية في بعض الفترات، أدار الإمام شبكة واسعة من الوكلاء (مثل علي بن مهزيار) في مختلف الأمصار.

والشباب بحاجة لتعلم مهارات التواصل وإدارة الفرق، وعدم العمل بعزلة، بل ضمن شبكة علاقات هادفة تخدم الرسالة.

رابعاً: الرسالة والمبادئ في مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)

زخرت مرويات الإمام الجواد (عليه السلام) بحكم ومواعظ تمثل "دستوراً أخلاقياً" للشباب. ومنها:

- شروط نجاح المؤمن (مثلث النجاح)

قال الإمام الجواد (عليه السلام): "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه" 

الرسالة من الحديث: النجاح ليس جهداً فردياً فحسب، بل هو مزيج من:

* الاتصال بالله (التوفيق).

* الضمير الحي والرقابة الذاتية (واعظ من نفسه).

* المرونة وتقبل النقد (قبول ممن ينصحه).

- إدارة الوقت ومحاربة التسويف

من حكمه: "تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة".

آفة الشباب الكبرى هي تأجيل الطموحات (الدراسية، المهنية، الروحية). الإمام يعتبر التسويف سبباً لـ "الحيرة" وضياع الهدف. الحزم والمبادرة الفورية هما مفتاح الإنجاز.

خامسًا: كيف يتحول الشباب إلى شخصيات لها رسالة في الحياة؟

لكي يتحول الشاب من فرد عادي إلى شخصية رسالية على نهج الجواد (عليه السلام)، عليه اتباع الخطوات التالية:

1. البناء المعرفي الرصين: لا رسالة بلا علم. على الشاب أن ينهل من علوم عصره كما نهل الإمام من علوم الشريعة، ليكون حجة في مجاله.

2. تحديد الهدف الأخروي: أن تكون كل حركة وسكنة مرتبطة بالله. شعار الإمام في خاتمه كان "العزة لله"، وهذا يعني أن يستمد الشاب عزته من مبادئه لا من المظاهر الزائفة.

3. خدمة الناس: أن يكون الشاب "جواداً" بطاقته، بوقته، وبعلمه. الشخصية الرسالية هي شخصية خادمة للمجتمع، تفرج الكرب وتعين الضعيف، كما كان الإمام يقضي حوائج الناس حتى قيل إنه "باب المراد".

4. الثبات على المبدأ: واجه الإمام تيارات فكرية منحرفة (كالواقفية وغيرهم) وتيارات سياسية ضاغطة، لكنه ثبت على الحق. الشاب الرسالي لا يميل مع كل ريح، بل يمتلك "بصيرة" تميز الحق من الباطل.

خاتمة

إن الإمام الجواد (عليه السلام) هو النموذج الأمثل "للشباب الرباني". إنه الدليل الحي على أن العظمة ليست بالسنين، وأن القيادة ليست بالمنصب، بل بالعلم، والتقوى، والإرادة الصلبة. وحري بشبابنا اليوم أن يتخذوا من هذا الإمام العظيم قدوة وأسوة، يستلهمون من سيرته العزم لبناء مستقبل مشرق لأنفسهم ولأمتهم.

إن سيرة الإمام الجواد (عليه السلام) هي دعوة مفتوحة لكل شاب لأن يكون "جواداً" في طاقته، "تقياً" في سلوكه، "عالماً" في تخصصه، و"واثقاً" بربه وبنفسه. إنها خارطة طريق لتحويل الشاب من رقم عادي في المجتمع إلى "رقم صعب" وشخصية ذات رسالة خالدة.

من مواعظ الامام الجواد (عليه السلام)

- (أفضل العبادة الإخلاص)

- (نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر)

- (ثلاث خصال تجلب فيهن المودة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواء على قلب سليم)

- (ثلاثة من كن فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكل على الله تعالى عند العزيمة)

- (ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى: كثرة الاستغفار، وخفض الجانب، وكثرة الصدقة)

- (الناس إخوان فمن كانت إخوته في غير ذات الله، فهي عداوة)

- (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس)

- (عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقة، وعنوان صحيفة السعيد حسن الثناء عليه)

- (عز المؤمن غناه عن الناس)

- (كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه)

- (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر)

- (كفى بالمرء خيانة إن يكون أمينا للخونة)

..........................................

المصادر والمراجع المعتمدة:

1. أعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، المجمع العالمي لأهل البيت.

2. حياة الإمام محمد الجواد (دراسة وتحليل)، باقر شريف القرشي.

3. الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، الشيخ محمد حسن آل ياسين.

4. الإمام محمد الجواد (عليه السلام) معجزة السماء في الأرض، الدكتور محمد حسين علي الصغير.

5. الإمام محمد الجواد (عليه السلام) سيرة وتاريخ، السيد عدنان الحسيني.

اضف تعليق