خطبة السيدة فاطمة الزهراء وثيقة فكرية واجتماعية ترسم ملامح الهوية الدينية ومخاطر التفريط بها تحت ضغط الامتثال الاجتماعي. أكّدت أنّ معيار الانتماء القيمي لا يُقاس برضا الجمهور أو انتشار المواقف، بل بثبات الإنسان على الحقّ، مهما كان حجم التحدّيات، وكشفت لنا أنّ الهويّة الدينية قد تُفقد تحت ضغط المجتمع...
بقلم: نرجس الحسيني و فاطمة مرتضى معاش
كانت في غاية السعادة حين قُبِلَت في الجامعة، فقد نالت التخصّص الذي حلمت به منذ صغرها. وحين جاء اليوم الأوّل للدراسة، امتلأ قلبها شوقًا؛ تهيّأت، وارتدت عباءتها، وانطلقت نحو الجامعة. دخلت من الباب المخصّص للنساء، فرأت الكثير من الأكياس الكبيرة موضوعةً على المقاعد بطريقة لافتة، وكأنّ فيها ملابس. تعجّبت، ثم تابعت سيرها نحو البهو الرئيسي للجامعة. أطلقت نظرة على الطالبات والطلاب، فأصابتها الدهشة: لماذا خلعت الفتيات عباءاتهن؟ نعم، هنّ محجّبات… لكن أين العباءة؟ هنا تذكّرت تلك الأكياس عند المدخل، فعرفت أنهنّ وضعن عباءاتهنّ فيها بمجرد دخولهنّ الجامعة.
في المواقف الاجتماعية المختلفة نواجه كثيرًا من الحالات التي يتنازل فيها الأشخاص عن معتقداتهم ويتلوّنون بلون المجتمع. وشعار بعضهم: «الطبيعة تجبر» أو «مَعَ الْجَمَاعَةِ والرَّاحِلَةِ تَسِير»! ولكن… لماذا يقولون ذلك؟ وهل هو شعور طبيعي وصحيح؟ وما موقف الدين من هذا الأمر؟
ونحن اليوم أمام موجةٍ نسويةٍ قويةٍ تعمل على إعادة تعريف دور المرأة وهويّتها في الحياة، وتقدّم الحجاب —خاصّة العباءة والحجاب الكامل— باعتباره عائقًا أمام تقدّمها ونجاحها. ومع هذا الضغط الاجتماعي والإعلامي المتزايد، بدأت نساءٌ كثيرات يشعرن بعدم الارتياح تجاه التزامهنّ بلباسهنّ الشرعي. فما هو الموقف الصحيح الذي ينبغي أن نتّخذه؟ وكيف يمكن للأشخاص وبالأخص للمرأة أن يثبتوا على القيم في المجتمع رغم ما يواجهون من ضغوطٍ وتحدّيات؟
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):«وَهِيَ الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ الْقُرُونُ الْأُولَى»[1]، ومن خلال معرفتها (عليها السلام) وفهم نهجها الفكري والعملي، نستطيع أن نستلهم منه منهجًا اجتماعيًا واضحًا نسير عليه في حياتنا. وتعدّ الخطبة الفدكية التي ألقتها السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المسجد بعد منعها من فدك، من أهم النصوص التي تكشف لنا هذا النهج.
إنّ خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) ليست مجرّد نصّ تاريخي، بل هي منهج فكري وروحي عميق يحمل في طيّاته دروسًا مهمّة حول القيم الدينية والاجتماعية، وسبل مواجهة الضغوط والفتن التي قد تعترض مسيرة الإنسان الإيمانية.
فـالسيدة الزهراء (عليها السلام) —في خطابها الملهم— ترسم لنا نموذجًا راقيًا في كيفية التمسّك بالمبادئ عند مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية. ورغم أنّ خطابها كان موجّهًا لأهل المدينة آنذاك، إلّا أنّ رسالته أعمق بكثير، بحيث تمتدّ دلالاته إلى يومنا هذا، وتمكّننا من الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال.
في الخطبة الفدكية، تسلّط السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) الضوء على صفاتٍ عديدة لدى المخاطَبين، كاشفةً عن أبعادٍ متعدّدة من واقع المجتمع الذي عاصرته، ومبيّنةً مواقف الناس تجاه الحقّ. فقد أشارت إلى صفات إيجابية كانت فيهم، تعبّر عن قوة شخصيتهم وصدق إيمانهم في بداية الإسلام. ولكن ــ في المقابل ــ رصدت صفاتٍ سلبية ظهرت في سلوكهم بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما آلت إليه مواقفهم من تغيّرٍ وتخاذل.
ومن خلال جمع هذه الصفات الإيجابية والسلبية للمستمعين —وهم أهل المسجد والمخاطَبون بكلامها إلى يوم القيامة— نسعى لاستخلاص نقطةٍ مهمّة. بمعنى أنّنا نريد أن نستنتج من هذه الصفات الإيجابية، مع ما وجّهته السيدة الزهراء (عليها السلام) إليهم من توبيخٍ وملامة، دلالةً أساسية يمكن أن تُوصلنا إلى الحلّ.
اما بعض الصفات الإيجابية التي تطرقت لها (عليها السلام):
«یا مَعْشَرَ النَّقیبَةِ»: «النقيبة» جمع «النقيب» بمعنى الكَفِیلُ بالقوم والمُتَعَهِّدُ لَهُم[2]، وَهُوَ رَئیسُهُم والمُطَّلِعُ على أَحوالِهِم[3]، هم كانوا اهل الشرف والريادة، فالسيدة الزهراء تشير الى انهم كانوا ذوي مقام وقيادة في نصرة الدين، وأهلَ رأيٍ وخبرة.
«اَعْضادَ الْمِلَّةِ»: اي انكم سند الامة وظهرها، لان «العضد» هو القوة والمعين والركن الذي يعتمد عليه،[4] فتمدحهم السيدة الزهراء(علیها السلام) بانهم كانوا قوة الاسلام وعماده المتين.
«حَضَنَةَ الْاِسْلامِ»: اي انكم حفظة الاسلام ورعاته، لان «الحضانة» في الاصل حفظ الشيء وصيانته ورعاية ما يُخاف عليه، فتمدحهم (عليها السلام) بانهم كانوا يحفظون الدين ويحوطونه من الاخطار.[5]
«قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ»: فعل «قاتل» يدل في اللغة على المواجهة الشديدة والمغالبة بالسيف، وتشير (عليها السلام) الى شجاعتهم وصبرهم في ميادين الجهاد للدفاع عن الإسلام.[6]
«وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَ التَّعَبَ»: «الكد» هو العمل الشاق المتواصل، و«التعب» ما يلحق النفس والبدن من المشقة، اي انهم قبلوا المشقة وبذل الجهد في نصرة الدين.[7]
«اَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ»: «الكفاح» في اللغة هو المعارضة الشديدة والدفاع بقوة، اي انهم كانوا معروفين بشدة المقاومة وبذل الجهد في مواجهة الباطل، و كنتم اهل بأس وصمود في سبيل الحق.[8]
«مَعْرُوفُونَ بِالْخَیرِ وَالصَّلاحِ»: «الخير» في اللغة هو النفع والبر، و«الصلاح» هو استقامة الحال وتمامه، اي انكم مشهورون بفعل الخير وبالاستقامة على الحق، وكنتم اهل فضيلة واصلاح في المجتمع.[9]
«وَالنُّخْبَةُ الَّتی انْتُخِبَتْ»: «النخبة» هي اصفى ما يُنتقى من القوم، والفعل «انتخب» يدل على اختيار الشيء لتميزه، اي انكم الصفوة المختارة، وكنتم خيرة الناس وموضع الاختيار الالهي.
«وَالْخِیرَةُ الَّتِی اخْتیرَتْ لَنا اَهْلَ الْبَیتِ»: «الخِيَرَة» هي أجودُ ما يُنتقى، والفعل «اختير» يدلّ على الاصطفاء بعنايةٍ ودقّة. أي إنّكم كنتم الاختيارَ الحسنَ المخصوصَ بنا أهلَ البيت، وإنّكم كنتم خيرَ من اصطفاه الله لنصرتِنا ومرافقتِنا.
واما بعض الصفات السلبية لهم التي تطرقت لها (عليها السلام):
«مَا هَذِهِ اَلْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي وَاَلسِّنَةُ عَنْ ظُلاَمَتِي؟»: «الغمزة» في اللغة لمز خفي وانتقاص للحق هي علامة ضعف في نفوسهم، و«السِّنة» تدل على الغفلة والفتور[10]، فهي تصف حالة القوم الذين تهاونوا في نصرة الحق، وتغافلوا عن مظلمتها، مما يكشف خللاً في شخصيتهم وخوفهم من المجتمع.
«سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَ عَجْلاَنَ ذَا إِهَالَةٍ»: أي ان القوم أسرعوا في إحداث ما لم يكن، وانقلبوا سريعاً عمّا ألزمهم الله، فـ«سرعان» تدل على التعجل، و«الإهالة» في اللغة شحم مذاب يُسكب على الطعام[11]، فالتعبير «عجلان ذا إهالة» كناية عن التسرع الأعمى دون تفكير، مما يكشف عن خفةٍ في الرأي وضعفٍ في الوعي وشخصيةٍ غير راسخة.
«وَ لَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَ قُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَ أُزَاوِلُ»: تُبيّن السيدة الزهراء (سلام الله علیها) أنّ القوم كانوا يملكون القدرة والقوة لنصرتها، ومع ذلك تراجعوا، فـ«الطاقة» هي القدرة الكامنة، و«القوة» هي القدرة الفعلية[12]، مما يكشف أنّ ضعفهم لم يكن عجزاً، بل تقصيراً نابعاً من خللٍ في الإرادة والشخصية.
«أَلاَ قَدْ أَرَى أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَى اَلْخَفْضِ»: تصف (عليها السلام) حال القوم بأنهم مالوا إلى الراحة والدعة وتركوا مقام التضحية، فالفعل «أخلد» يدل على الميل الشديد إلى الشيء مع الإقامة عليه، و«الخَفْض» هو النعيم ولين العيش[13]. فالكلام يكشف أنّ سقوطهم لم يكن بسبب الجهل، بل بسبب رغبة داخلية في الراحة، وركون نفسي إلى الدنيا، وضعف في الإرادة والشخصية أمام متطلبات الحق.
«وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ اَلضِّيقِ بِالسَّعَةِ»: حيث أن «الدعة» تدل على الراحة والركون إلى السكون، و«السعة» تعني الرفاهية التي تفر من ضيق التكليف، تشير السيدة (عليها السلام) إلى أن القوم قد مالوا إلى الراحة والنعيم، مبتعدين عن المسؤولية، هذا يُظهر خُلوّ قلوبهم من العزم، واستسلامهم للراحة الزائفة التي تُمليها الدنيا، حيث فضّلوا الاسترخاء في ظلها على أن يحملوا عبء الجهاد والحق، فوقعوا في فخّ التواني والخوف من التكليف، بدلًا من أن يثبتوا في سبيل الحق الأبدي.
«فَمَجَجْتُمْ مَا وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ اَلَّذِي تَسَوَّغْتُمْ»: «مَجَّ» تعني التمرد على الشيء واستبعاده، و«دسعتم» يعني تضييع الحق الذي استشعروه وابتعدوا عنه أي أنّ القوم قد رفضوا ما وعوه من الحقائق وأحكام الدين، ويظهر هذا انعدام الالتزام والإصرار على الوضوح، والتمسك بما يناقض ما عرفوه من حقائق.
وبجمع هذه الصفات الإيجابية والسلبية معًا وتحليلها، نصل إلى أنّ تركيز السيدة الزهراء (عليها السلام) في مختلف المواقف الاجتماعية ينصبّ على هويّة الإنسان. وقبل توضيح ذلك، يجب أن نعرّف الهويّة وأنواعها.
الهوية وأنواعها
أ) تعريف الهويّة وأنواعها: يشير مفهوم الهويّة (identity) إلى الذات الأساسيّة والمستمرّة للفرد، وهو التصوّر الداخلي والذهني الذي يُكوِّنه الإنسان عن نفسه بوصفه «شخصًا» متميّزًا عن الآخرين، ويجيب عن سؤال: مَن هو؟ وبعبارة أخرى، الهويّة هي منظومة المعتقدات والطموحات والقيم التي تسهم في تكوين سلوك الفرد وتوجيهه.
وللهويّة أنواعٌ وأجزاء مختلفة، منها: الهويّة الفرديّة، الهويّة العائليّة، الهويّة السياسيّة، الهويّة الثقافيّة، والهويّة المهنيّة. غير أنّ الأهمَّ في بحثنا حول الخطبة الفدكيّة هما الهويّتان: الدينيّة والاجتماعيّة.
ب) الهوية الدينية: الهوية الدينية (Religious Identity) تعبّر عن شعور الانتماء إلى الدين والشعور بالالتزام والمسؤولية تجاه القيم والمعتقدات التي يحملها الإنسان ضمن المنظومة الدينية، وهي انسجامٌ بين المعرفة والسلوك والقول في الإطار الديني. وتُعدّ الهويّة الدينية أوّل وأهمّ ما يقدّم للإنسان إجاباتٍ عن أسئلته الوجودية العميقة.
والهوية الدينية في حقيقتها الآثار والانعكاسات التي يتركها حملُ الدين على الفرد. وبعبارة أدقّ، فإنّ قبول الدين بوصفه أصلاً اعتقادياً، وما يترتّب عليه من التزامٍ وشعورٍ بالانتماء، يؤدّي إلى تغيّرات جوهرية في حياة الإنسان التقيّ وفي مختلف جوانب وجوده، وهذه التغيّرات هي ما تُسمّى بالهوية الدينية.
ونحن ـ كمسلمين ـ نعتقد أنّ هذا الجانب من الهويّة هو من أهمّ أنواعها، إن لم نقل إنّه أهمُّها؛ لأنّ الدين يوفّر إجاباتٍ مقنعة لمن يواجه أسئلةً من قبيل: «مَن أنا؟» و«إلى أيّ انتماءٍ أعود؟». كما يمنح الدينُ النُّخبَ الناشئة في المجتمعات السائرة نحو التحديث اتجاهاً واضحًا ومعنى لحياتهم. والدين الإسلامي، في الوقت الذي يأمر فيه الإنسان بعبادة الله ويبيّن له كيف يعبده، يرشده أيضًا إلى كيف يعيش، ويحدّد له المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه في حياته اليومية.
وليس هذا في نظر المسلمين وحدهم، بل إنّ علماء النفس أيضاً يصرّحون بذلك، فمثلاً يرى يونغ (Carl Gustav Jung/ عالم نفس شهير) أنّ التجارب المعنوية تُعدّ من الجوانب الصحيّة الكامنة في وجود الإنسان، والتي تُسهم في توازنه النفسي وحياته الروحية. ويُنقل عنه كثيرًا قوله: «فيما يتعلّق بالمرضى الذين هم في النصف الثاني من حياتهم، أي في حدود سن الخامسة والثلاثين، لم أَرَ حتى الآن شخصًا واحدًا لم تكن مشكلته الأساسية هي العثور على رؤية دينية للحياة.» [14]
ت) الهويّة الاجتماعية: تُعرَّف الهويّة الاجتماعية (Socio-Identity) بأنّها أحد مكوّنات هويّة الفرد وذاته، وتُستمدّ من وعيه بعضويته في الجماعة، ومن اكتسابه للمعاني القيمية والانفعالية المرتبطة بهذه العضوية.
وتجعل الهويّة الاجتماعيةُ الفردَ يشعر بأنّه ينتمي إلى المجتمع أو إلى جماعةٍ معيّنة، ويتقاسم معها القيمَ والأهدافَ والسلوكيات ذاتها. ومن خلال هذا الانتماء، يكتسب الإنسان جزءًا من صورته عن نفسه، ويحدّد كيفية تفاعله وتصرفه مع الآخرين في المجتمع. وبذلك تصبح الهويّة الاجتماعية عنصرًا مهمًّا في بناء شخصية الإنسان وتوجّهه في الحياة.
تقول الآية الكريمة: «إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»[15]، ويُستفاد منها أنّ اجتماعيّة الإنسان مرتكزةٌ في أصل خلقته وتكوينه، وهو ما يدلّ على أنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبيعته. وليست الحياةُ الاجتماعيّة أو الهويّة الاجتماعيّة مجرّدَ اجتماعِ عددٍ من الأفراد في مكانٍ واحدٍ يتقاسمون المناخ أو الموارد نفسها، بل تعني وجود «ماهية اجتماعية» مشتركة تُحدِّد إطارَ وجودهم وتفاعلهم ضمن منظومةٍ واحدة.
يقول إريك فروم[16] أحد علماء النفس: «إنّ كلَّ إنسانٍ يميل إلى امتلاك هويّةٍ خاصّةٍ به، ولذلك يسعى إلى معرفة ذاته واكتشافها. وفي الوقت نفسه يرغب في أن يكون متميّزًا، فيربط نفسه بشخصٍ بارز أو بجماعةٍ ذات مكانة.»
فالإنسان لا يعيش داخل ذاته فقط، بل يعيش ضمن المجتمع، ويستمدّ جزءًا كبيرًا من هويّته منه؛ إذ إنّ الشعور بالانتماء والقبول والتقدير الاجتماعي يُعدّ من الحاجات الأساسية في نفس الإنسان.
في مسار تشكّل الهويّة الاجتماعية يواجه الإنسان في كثيرٍ من الأحيان عمليّتَين متداخلتَين، تُسمَّيان «الامتثال الاجتماعي» و«مواجهة العقل الجمعي». وهاتان العمليتان تُلازمان السياق نفسه؛ إذ تؤثّران في طريقة تكيّف الفرد مع المجتمع وفي مدى حفاظه على استقلاله القيمي. ولأجل الوصول إلى جوهر الموضوع، لا بد من التوقّف عندهما باختصار.
الامتثال الاجتماعي والتعرّض للعقل الجمعي
تخيّل أنك تجلس في غرفة مع سبعة أشخاص آخرين للمشاركة في «اختبار بسيط للإدراك البصري». يعرض عليكم الباحث بطاقتين: إحداهما تحمل خطًا واحدًا، والثانية تحمل ثلاثة خطوطٍ متفاوتة الطول. مهمّتك هي تحديد أيٍّ من هذه الخطوط الثلاثة يُطابق طول الخط الموجود في البطاقة الأولى.
يبدأ الأشخاص السبعة قبلك بالإجابة واحدًا تلو الآخر، والمفاجأة أنّهم جميعًا يختارون إجابةً خاطئة بوضوح. وحين يصل الدور إليك، تظهر المعضلة: هل ستثق بعينيك وتقول الإجابة الصحيحة، أم ستخالف ما تراه وتوافق المجموعة؟ لقد تبيّن، وفق نتائج التجارب، أنّ نحو 30٪ من المشاركين يختارون الإجابة الخاطئة فقط لأنّ الآخرين اختاروها، لا لخللٍ في رؤيتهم، بل تحت تأثير الضغط الاجتماعي.
وهذا المشهد ليس مجرّد افتراض خيالي، بل يمثّل جوهر التجارب الشهيرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي سولومون آش (Solomon Asch) في خمسينيات القرن الماضي، والتي كشفت عن قوة مؤثّرة تشكّل سلوك الإنسان في حياته اليومية، وهي: الامتثال الاجتماعي (Social Conformity).
الامتثال الاجتماعي هو تغيّرٌ في سلوك الفرد أو معتقداته نتيجةً لضغطٍ حقيقي أو متخيَّل من المجموعة. وهذا السلوك الاجتماعي يُمثّل الطريقة التي نتعلّم بها كيف نكون جزءًا من المجتمع. فالامتثال الاجتماعي عنصرٌ أساسي في حياتنا الاجتماعية، إذ يساعدنا على التكيّف مع البيئة المحيطة.
ومع ذلك، قد يؤدّي هذا الامتثال أحيانًا إلى اتباع عاداتٍ غير نافعة أو اتخاذ قراراتٍ غير منطقية لمجرّد أن الآخرين يفعلونها. فنحن نمتثل للمعايير الاجتماعية بدافع الرغبة في أن نكون محبوبين ومقبولين، ولنتجنّب الرفض أو السخرية أو النبذ الاجتماعي.
لنفترض أنّك في طريقك صادفتَ مجموعةً من الناس يحدّقون جميعًا في السماء. ومن دون تفكيرٍ ستنظر أنت أيضًا إلى الأعلى. وفي إحدى الحفلات، وفي مكانٍ مخصّصٍ للدرجة الأولى، يبدأ شخصٌ ما بالتصفيق، وفجأةً تَعمّ الصالةَ كلّها موجةُ تصفيق، حتى أنت. إنها أمثلةٌ واقعيّة على الامتثال الاجتماعي، حيث يخضع الإنسان لتأثير العقل الجمعي.
العقل الجمعي (Collective Consciousness) يقول: إنّني أتصرف بطريقةٍ صحيحة ما دام سلوكي مشابهًا لسلوك الآخرين. وتحت تأثير هذا العقل الجمعي يتراجع العقل الفردي، مسلّمًا نفسه لجماعةٍ متعدّدة الأفكار، يجمعها هدفٌ واحد جرى الترويج له حتى غدا له أتباعٌ غالبًا ليسوا من أهل المنطق ولا البرهان. ويدفعهم ضعف وعيهم إلى الاعتقاد بأنّ ما يتبنّاه الكثيرون يكتسب درجةً أعلى من الصواب.
وتمتدّ هذه الظاهرة إلى مستوى تُفرَض فيه أفكارُ الجماعة على الفرد، وهو ما يُطلَق عليه «التفكير الجماعي المفروض/Groupthink» وعندما تتجه أكثرية المجتمع نحو رأيٍ أو تيارٍ فكريٍّ معيّن، يلتزم حتى أهل العقل والحكمة الصمتَ حفاظًا على سلامتهم، أو يُظهرون موافقةً شكليةً زائفة، وإلّا تعرّضوا للسحق الاجتماعي. والنتيجة هي دفن الحقيقة تحت الشعارات والصيحات، فنسمع من يقول: «هذا هو واقع المجتمع اليوم… لم يعد كما كان! أو أنّ المجتمع لم يَعُدْ يتقبل هذا!»
ونحن كمسلمين، لو تأمّلنا آيات القرآن الكريم، لوجدنا: (أكثرهم للحق كارهون)، (أكثرهم لا يعقلون)، (أكثرهم لا يعلمون)، (أكثرهم كافرون)، (أغلبهم لا يفقهون)؛ وكلّها تفنّد الزعم بأنّ الأكثرية هي الصواب دائمًا، ولا سيّما في زمنٍ أصبح فيه الإعلام في أغلب الأحيان هو المحرّك الأساس للعقل الجمعي.
وقد سمّى هابرماس هذه الظاهرة بـ «أفول العقل العام/ Decline of Public Reason»، أي حين يغدو المجتمع ممتلئًا بالأصوات، لكنّه خاليًا من الفهم. ويحدث ذلك عندما يقع الناس —بوعيٍ أو بغير وعي— تحت تأثير المكر والمؤامرات ووساوس الشيطان وأهواء النفس، فيحلّ غروب العقل العام.
ولأكون منصفًا، فإنّ العقل الجمعي ليس ذا أثرٍ سلبيّ دائمًا؛ فهناك العديد من الشعائر الدينية التي تتقوّى بفعل تأثيره، كخدمة الناس لزوّار الحسين (عليه السلام) في زيارة الأربعين، أو المسير مشيًا إلى زيارته (عليه السلام)، أو الصلاة الجماعة، أو سائر الشعائر المرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام). فقد ثبت أنّ تفاعل الناس بعضِهم مع بعضٍ يؤدّي إلى نموّ هذه الشعائر واتّساع انتشارها.
الهوية الدينية Vs الهوية الاجتماعية؛ أيهما؟!
يُستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ الهويّات الاجتماعيّة الأصيلة ينبغي أن تُطلَب في دائرة الاعتقاد، لا في الدوائر الاجتماعية أو الإعلامية. ومن هنا جاء قوله تعالى: «إِنّا خَلَقْناكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثىٰ وَجَعَلْناكُم شُعوبًا وَقَبائلَ لِتَعارَفوا، إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقٰاكُم»[17]، فهذه الآية تُبيّن أنّ الهويّة الاجتماعية وُجدت ليحصل التعارف بين الناس ويتمايزوا، أمّا معيار التفاضل الحقيقي فهو التقوى؛ إذ بها تتحقّق الهويّة الإيمانيّة التي يُكرِم اللهُ أصحابها.
ومن ثمّ، فإنّ الهويّة الحقيقية التي يتشكّل بها كلّ فردٍ أو مجتمعٍ إنما تُستمدّ من مجاله الاعتقادي والإيماني، ويتجلّى ذلك في صورة التقوى الدينية.
يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام): «مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ أَصْلَحَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلنَّاسِ»[18]، بمعنى أنه الهوية الدينية الصحيحة تغذي الهوية الاجتماعية لدى الانسان. والمعنى أنّ الهويّة الدينية السليمة تُصلح تلقائيًا علاقةَ الإنسان بالمجتمع، وتُغذّي هويّته الاجتماعية وتوجّهها.
ونستطيع أن نستنبط من كلام السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) أنّ على الإنسان أن يكون حذراً ويقظًا؛ إذ إنّ له هويتين: هوية دينية وهوية اجتماعية. فالإنسان، وبشكل غير واعٍ، يميل إلى مواكبة المجتمع والانسجام معه. غير أنّ الخطر يكمن حين يبلغ هذا التماهي حدًّا يقتضي من الفرد التخلّي عن دينه وهويته الدينية حفاظًا على الانسجام الاجتماعي؛ وهنا تُدين السيدة فاطمة (عليها السلام) هذا السلوك بشدّة، وتبيّن أنّ المشكلة لم تكن في أنّهم غير متديّنين أو سيّئي السلوك، بل في أنّهم كانوا مؤمنين، لكنّهم لم يمتلكوا القدرة على مخالفة التيار الاجتماعي حين تعارض مع هويتهم الدينية.
تقول (عليها السلام) إنّ هويتكم الدينية كانت جيدة وكاملة؛ فقد كنتم تقفون خلف النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وتساعدونه في نشر الإسلام، وكنتم مسلمين صالحين، وكانت مسألة خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) واضحةً وجليةً لكم كالشمس. لكنّها تلومكم اليوم لأنكم ضحيتم بهويتكم الدينية لصالح هويتكم الاجتماعية.
فهويةُ كلّ واحد منكم كانت ثابتة ما دامت أوضاع المجتمع مستقرة ولا عدوّ يهدّدكم. أمّا الآن، بعد استشهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وتغيّر الأوضاع، وتولّي الأعداء للسلطة، وبدء المؤامرات لإبعاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد قدّمتم هويتكم الاجتماعية على هويتكم الدينية.
يقولون: نحن متديّنون، لكن نريد أن نكون مثل باقي الناس! ونقول لهم: نعم، لا بأس، ولكن بشرط أن نرى أوّلًا إلى أيّ اتجاه يسير الناس، وبشرط ألّا يُفقد هذا التماهي والامتثال هويتي الدينية. فالهوية الاجتماعية أمرٌ صحيح، ونحن نؤمن به، ولكن بشرطٍ واضح: ألا تجعل الإنسان يتخلى عن هويته الدينية.
والهوية الاجتماعية جزءٌ من جوهر الإنسان؛ فالمرء يحب أن يكون محبوبًا ومقبولًا في المجتمع، ولا أحد يرغب في أن يكون منبوذًا. ولكن، هل أضحي بهويتي الدينية من أجل ذلك؟
لذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعمّار: «يَا عَمَّارُ! إِنْ رَأَيْتَ عَلِيّاً سَلَكَ وَادِياً وَسَلَكَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِي رَدًى وَلَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ هُدًى.»[19]
ويقول الامام السجاد (عليه السلام): «لَوْ مَاتَ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ، لَمَا اسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَعِي.»[20]
والرسالة هي: إن كان المجتمع لا يدفعك نحو الارتقاء والكمال والقيم، فلا تكن أسيرًا له ولا خاضعًا لضغوطه. وإن أردتَ أن تخرج إلى المجتمع، فكن مستعدًّا لتحمّل مسؤولية إبراز القيم وإحيائها.
ألم عدم الامتثال الاجتماعي
تقول السيدة فاطمة (سلام الله عليها): إنكم متديّنون، ولكن يصعب عليكم أن تكونوا مختلفين عن المجتمع، وهذا الأمر يُؤلمكم. ولذلك، في كثير من الأحيان —وخاصة في مراحل النموّ والتربية والثبات الديني— يجد الإنسان نفسه ممزّقًا بين الداخل والخارج؛ فالقيم والهوية الدينية الراسخة في داخله تدعوه إلى جهة، بينما يدعوه الخارج (المجتمع) إلى أمرٍ آخر مخالف أو معارض. وعندما يواجه الإنسان مخالفة الجماعة، يقع دماغه بين حاجتين أساسيتين:
1- الحاجة إلى أن يكون على حقّ.
2- الحاجة إلى أن ينتمي.
وغالبًا ما يختار الدماغ الحاجة الثانية، لأنّ الطرد الاجتماعي يولّد توتّرًا وشعورًا بالخطر. وبمعنى آخر: إنّ الإنسان مبرمجٌ عصبيًّا على اعتبار الإقصاء الاجتماعي تهديدًا للبقاء. وقد ثبت علميًّا أنّ الطرد الاجتماعي والشعور بالنبذ يسبّبان ألمًا حقيقيًا؛ فقد أظهرت دراسات التصوير الدماغي أنّه عندما يشعر الإنسان بالإهانة أو الإقصاء الاجتماعي، ينشط الجزء نفسه من الدماغ الذي ينشط عند الألم الجسدي. وبعبارة أبسط: حكمُ الناس على الإنسان مؤلمٌ بقدر ألم احتراق اليد. ولهذا السبب يكون ضغط المجتمع —في كثير من الأحيان— أقوى من الضغط الأخلاقي.
هذه المعرفةُ الذاتية ضرورية، ليدرك الإنسان أن ضغط المجتمع قد يدفعه إلى اتباع تيار الناس بدلًا من الاستجابة لندائه الديني الداخلي. فإذا واجه إهانةً أو إقصاءً من بعض الأشخاص، فإنّ دماغه يأمره تلقائيًا بألّا يفقد انتماءه للمجتمع وألّا يُطرَد منه؛ ولكن هنا بالضبط يجب على الإنسان أن يثبت ويقاوم. ولهذا يُبتلى الناس في آخر الزمان ويُغربَلون، ويقلّ عدد الثابتين؛ لأنّ الثبات على القيم يشبه في شدّته ألمَ الاحتراق.
وأحيانًا، لكي نقف على طريق الحقّ والقيم، لا بدّ أن نتذوّق هذا الألم ونشعر بحرارته. ويجب عليّ أن أحلّل نفسي: هل أفكاري، وأسلوب حياتي، واختياراتي، وأخلاقياتي قائمة على الحقّ، أم أنني مجرّد تابعٍ للتيارات السائدة والموجات الاجتماعية؟ وهل أسمح بأن تتعرّض قيَمي للضرر في فضاءٍ افتراضي أو في مجتمعٍ غير ديني وغير ملتزم بالقيم؟ أم أنّني سأختار أن أحافظ على هويتي الدينية باليقظة والثبات دون أن أتغيّر؟
موجة (لاحجاب) في المجتمع وموقفي أنا؟!
يشكّل الاعتقاد بالحجاب والالتزام به جزءًا من الهوية الدينية لدى النساء. وبما أنّنا نعتقد أنّ مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي أسوتنا، فإنّ الخطبة الفدكية قد ذكرت وصفًا دقيقًا لحجابها (عليها السلام):
فـ«لَاثَتْ خِمَارَهَا» أي شدت المقنعة وربطتها على رأسها، و«اشْتَمَلَتْ بِجِلْبَابِهَا» أي جعلت الجلباب —وهو العباءة والإزار— شاملاً لها من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، و«تَطَأُ ذُيُولَهَا» أي أنّ حجابها كان طويلًا يستر قدميها حتى كانت تطأه عند المشي. وفي رواية أخرى: «تَبَرْقَعَتْ بِبُرْقُعِهَا»[21] أي سترت حتى وجهها. [22]
فإذا كان حجاب أسوتنا في الدين هو العباءة، القريبة في وصفها من العباءة العراقية اليوم، فلماذا ننظر إلى المجتمع لنعرف كيف يجب أن تتحجب بناتنا ونساؤنا؟ وهل ينبغي أن نهتمّ بموجات «الحجاب الاستايل» ووصفات مواقع التواصل الاجتماعي؟ لا ننسى أن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) قالت في الخطبة الفدكية: لا تضحّوا بالهوية الدينية من أجل الهوية الاجتماعية.
أختي العزيزة، لماذا تنظرين فقط إلى تلك اللحظة التي يسخر فيها منكِ عشرة أشخاص أو يوجّهون إليكِ كلمة؟! انظري ـ في المقابل ـ إلى تلك المرأة التي، حين ترى سيداتٍ محجّباتٍ مثلكن، تقول: الحمد لله، لا تزال هناك نساءٌ متمسكات بالحجاب.
وتقول إحدى الأخوات الملتزمات: «عندما أكون في بيئة بعيدة عن التدين، ثم أرى امرأةً محجّبةً بالحجاب الشرعي الكامل، أشعر بالراحة والطمأنينة فورًا.» فلماذا لا أكون أنا مصدر القوة والتثبيت للمسلمين وللنساء في البيئات غير المنسجمة مع القيم؟ ولماذا أظنّ أنّ جميع النساء قد تخلّين عن الحجاب؟ هذه قيمة تُمحى في المجتمع، وأنا يجب أن أكون من يحفظها ويثبتها. حجاب السيدة الزهراء (عليها السلام) في جهة، وحجاب المجتمع كلّه في الجهة الأخرى! فقد انحدر المجتمع، وتُرِكَ حجاب الزهراء عليها السلام.
أحيانًا نظنّ أن تبليغ الدين والالتزام بالقيم بصورة كاملة يقتصران على العلماء وأهل العلم وحدهم؛ لكن الحقيقة أنّ كلّ واحدٍ منا يجب أن يكون مُبلّغًا للدين. ولا أظنّ أننا يوم القيامة سنملك عذرًا نقدّمه بين يدي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)؛ بأننا لم نكن نعلم أو أنّ المجتمع كان فاسدًا، فمثل هذه الأعذار لن تُقبل. ففي الرواية أنه إنَّ اللّه تعالى يقولُ للعبدِ يَومَ القيامَةِ: «عَبدي، أ كنتَ عالِما؟ فإنْ قالَ: نَعَم، قالَ لَهُ: أ فلا عَمِلْتَ بما عَلِمْتَ؟! و إنْ قال: كُنتُ جاهِلاً، قالَ لَهُ:أ فلا تَعلّمْتَ حتّى تَعْمَلَ؟! فيُخْصَمُ، فتِلكَ الحُجَّةُ البالِغَةُ.»[23]
وهذا يعني أنّ الجهل لا يُعدّ عذرًا معتبرًا، فكيف إذا كان الإنسان عالمًا بالحقّ ثم يسلّم نفسه لتيّارات المجتمع؟!
وقد نبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى هذا المعنى في خطبتها الفدكية بقولها: «أَفَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ؟!»؛ وهو توبيخٌ موجّه لمن جعلوا مرجعيّة المجتمع مقدّمةً على مرجعيّة الوحي.
فهذا الانحراف لا يحدث إلا عندما تتقدّم نظرةُ الناس على نظرة الله، وحينها يغدو الالتزام الدينيّ عبئًا؛ لأنه لا يصدر عن قناعة داخلية، بل يأتي استجابةً لضغط خارجي. وعندما يتحوّل الفرد إلى فاعلٍ اجتماعيّ لا همّ له إلا استرضاء الجمهور ومجاراة أهواء المتفرّجين، يفقد أصالته الداخليّة ويُبتلى بالفراغ الوجودي.
خطوات هادية
1-الصبر: هناك رواياتٌ كثيرة تحثّنا على الصبر والاستقامة في المواقف التي نتعرّض فيها للضغط الاجتماعي، ليظلّ الإنسان ملتزمًا بهويته الدينية، ومن هذه الروايات:
قال الامام الباقر (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ إِيَّاكُمْ وَاَلتَّعَرُّضَ لِلْحُقُوقِ، وَاِصْبِرُوا عَلَى اَلنَّوَائِبِ، وَ إِنْ دَعَاكُمْ بَعْضُ قَوْمِكُمْ إِلَى أَمْرٍ ضَرَرُهُ عَلَيْكُمْ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ لَكُمْ فَلاَ تُجِيبُوهُ.[24]»
يُؤكّد الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه العبارة أنّ الصبر على النوائب شرطٌ أساس في ثبات الهويّة الدينية؛ فالمؤمن قد يتعرّض لضغوط اجتماعية تُجبره على خيارات تضرّ بدينه وهويّته. وهنا يدعو الإمام إلى رفض كل دعوة يكون ضررها على الدين والنفس أعظم من نفعها، لأنّ الصبر أمام هذه المغريات والضغوط هو امتحان الولاء للحق وثبات الهوية الإيمانية.
وايضا في رواية اخرى عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ جَمَعَ اَللَّهُ اَلْخَلاَئِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ، يُسْمِعُ آخِرَهُمْ كَمَا يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ، يَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُ اَلصَّبْرِ فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَتَسْتَقْبِلُهُمْ زُمْرَةٌ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَا كَانَ صَبْرُكُمْ هَذَا اَلَّذِي صَبَرْتُمْ فَيَقُولُونَ: صَبَّرْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ، وَ صَبَّرْنَاهَا عَنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ. قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ: صَدَقَ عِبَادِي، خَلُّوا سَبِيلَهُمْ لِيَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ آخَرُ، يُسْمِعُ آخِرَهُمْ كَمَا يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ، فَيَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُ اَلْفَضْلِ. فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَتَسْتَقْبِلُهُمْ زُمْرَةٌ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ، فَيَقُولُونَ: مَا فَضْلُكُمْ هَذَا اَلَّذِي نُودِيتُمْ بِهِ فَيَقُولُونَ: كُنَّا يُجْهَلُ عَلَيْنَا فِي اَلدُّنْيَا فَنَحْتَمِلُ وَ يُسَاءُ إِلَيْنَا فَنَعْفُو. قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ (تَعَالَى): صَدَقَ عِبَادِي، خَلُّوا سَبِيلَهُمْ لِيَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ (عَزَّ وَ جَلَّ)، يُسْمِعُ آخِرَهُمْ كَمَا يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ، فَيَقُولُ: أَيْنَ جِيرَانُ اَللَّهِ (جَلَّ جَلاَلُهُ) فِي دَارِهِ فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَتَسْتَقْبِلُهُمْ زُمْرَةٌ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَا ذَا كَانَ عَمَلُكُمْ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا فَصِرْتُمْ بِهِ اَلْيَوْمَ جِيرَانَ اَللَّهِ (تَعَالَى) فِي دَارِهِ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَتَحَابُّ فِي اَللَّهِ (عَزَّ وَ جَلَّ). وَنَتَبَاذَلُ فِي اَللَّهِ، وَنَتَوَازَرُ فِي اَللَّهِ. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ: صَدَقَ عِبَادِي خَلُّوا سَبِيلَهُمْ لِيَنْطَلِقُوا إِلَى جِوَارِ اَللَّهِ فِي اَلْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى اَلْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: فَهَؤُلاَءِ جِيرَانُ اَللَّهِ فِي دَارِهِ، يَخَافُ اَلنَّاسُ وَلاَ يَخَافُونَ، وَ يُحَاسَبُ اَلنَّاسُ وَلاَ يُحَاسَبُونَ.»[25]
تُبرز هذه الرواية مكانة الصبر بوصفه معياراً أساسياً للتمييز بين المؤمنين يوم القيامة، إذ يكشف صبرهم على الطاعة، وابتعادهم عن المعصية، واحتمالهم للأذى الاجتماعي أنّهم أصحاب هويّة إيمانية ثابتة لا تهتز أمام ضغط المجتمع. فالصبر في الدنيا ليس تحمّل الألم فقط، بل هو إعلان انتماءٍ دينيٍّ واعٍ يُتوَّج في الآخرة بدخول الجنّة بغير حساب.
2- تجنّب البيئات والسلوكيات المنتجة للمعصية والبعيدة عن قيم الدينية: إنّ من أهم سبل الحفاظ على الهوية الدينية أن يتجنّب المؤمن البيئات التي تُضعِف قيمه وتدفعه نحو التنازل التدريجي عن مبادئه. فالسلوك الإنساني يتأثّر بطبيعة الوسط الاجتماعي المحيط به، وقد يتحوّل الضغط الجمعي شيئاً فشيئاً إلى قوّة قاهرة تُغيّر المواقف والاتجاهات دون وعي.
إنّ تجنّب المواطن التي تُروَّج فيها المعصية وتُكسر فيها الضوابط الدينية هو خطوة وقائية أساسية؛ لأنّ الهوية لا تُنتزع دفعةً واحدة، بل تُخترق عبر التنازلات الصغيرة التي يفرضها المحيط المنحرف. تتبع الصفحات غیر المناسبة لقيمنا، الصداقة مع الأشخاص الذين يتنازلون بكل سهولة وحضور حفلات او أماكن تضعف نفسية الانسان امام الضغط الاجتماعي، كلها تكون مصاديق عملية لذلك.
أَوْحَى اَللَّهُ تَعَالَى إِلَى شُعَيْبٍ اَلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ وَ سِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ فَقَالَ يَا رَبِّ هَؤُلاَءِ اَلْأَشْرَارُ فَمَا بَالُ اَلْأَخْيَارِ فَأَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ اَلْمَعَاصِي فَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي.[26]»
أوحى الله تعالى لنبينا شعيب (عليه السلام): «أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ» فقال شعيب (عليه السلام): «يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟» فأوحى الله عزوجل:« دَاهَنُوا أَهْلَ اَلْمَعَاصِي فَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي.[27]»
إنّ الخطأ الأكبر لهؤلاء الأخيار أنّهم لم يقفوا موقفاً صارماً أمام المنكر، بل سايروا أهل المعصية طلباً للقبول الاجتماعي. وبصمتهم ومداهنتهم تلاشت الحدود بين الحقّ والباطل، فضاعت هويتهم الدينية تحت ضغط المجتمع.
۳-إعادة بناء معايير تحديد الحق بناءً على العلم والتقوى، لا على أساس الأكثرية
يجب أن نؤسس معاييرنا في تحديد الحق على أساس العلم والورع، وليس على أساس عدد الأشخاص الذين يتبعون مسارًا معينًا، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في حكمته المشهورة: «وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.»[28] تُظهر كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ الجهل يجعل الإنسان مجرّد تابعٍ للجموع، يميل مع كل اتّجاه دون بصيرة، ولذلك لا يستطيع الثبات أمام ضغوط المجتمع. أما من يستضيء بنور العلم ويتحصّن بالوعي الديني، فإنه يملك معياراً صلباً يميّز به الحقّ من الباطل، فلا تزعزعه الأكثريات ولا تغريه أمواج التقليد الاجتماعي. للحصول على الوعي الديني يجب قراءة الكتب الحديثية لنفهم الجذور لقيمنا، ودخول الدورات العقائدية الموثوقة لنا ولأولادنا لترسيخ هذه المبادئ.
ختام
تُعدّ خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وثيقة فكرية واجتماعية تتجاوز حدود الزمن، إذ ترسم ملامح الهوية الدينية ومخاطر التفريط بها تحت ضغط الامتثال الاجتماعي. إنّ خطبة الزهراء (عليها السلام) ليست حدثاً تاريخياً يُروى، بل منهج هداية لكلّ زمان. فالسيدة الزهراء (سلام الله عليها) أكّدت أنّ معيار الانتماء القيمي لا يُقاس برضا الجمهور أو انتشار المواقف، بل بثبات الإنسان على الحقّ ومبادئه الإلهية، مهما كان حجم التحدّيات، وكشفت لنا أنّ الهويّة الدينية قد تُفقد تحت ضغط المجتمع، وأنّ الإيمان يُختبر حين يصبح الثبات على الحقّ غربة. وهي تسألنا اليوم: هل نقدّم رضا الله أم رضا الناس؟ هل نثبت على قيم السماء وإن خالفنا أهل الأرض؟
ومن أعظم رموز الهويّة الدينية التي أبرزتها (عليها السلام): حجاب الوقار والعفّة، حجاب كان للزهراء عباءةً تصون روحها قبل جسدها؛ وفي إطار الهوية الدينية، يبرز مفهوم الحجاب بوصفه ممارسة قيمية تعبّر عن الانتماء للمنظومة الأخلاقية الإسلامية، لا مجرّد مظهر خارجي. وقد اختزلت الزهراء (عليها السلام) هذا المفهوم في عباءتها التي جسّدت صون المرأة لكرامتها الروحية والاجتماعية. فهل نقوى اليوم على حمل عباءة الزهراء كعهدٍ يُحمَل لا كثوبٍ يُرتدى؟ وهل نصبر على الأذى لنكون امتدادًا لرسالتها؟
ومن جهة أخرى، يرتبط الحفاظ على الهوية الدينية ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الانتظار المهدوي الذي يمثّل حالة وعي ومسؤولية حضارية؛ فانتظار الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ليس موقفاً سلبياً أو زمنياً، بل مشروع إصلاحي مستمر يقوم على الصبر، وتنمية الوعي، ومقاومة الذوبان في التيارات المنحرفة. فالمنتظر الحقيقي هو الذي يمارس دوره في تمهيد المجتمع للعدل الإلهي عبر التمسّك بالقيم رغم الضغوط الاجتماعية.
وعليه، فإنّ خطبة الزهراء (عليها السلام) تُقدّم نموذجاً عملياً لكيفية ترجيح الهوية الدينية على الاعتبارات الاجتماعية، وإنّ مَن أراد القرب من السيدة فاطمة (سلام الله عليها)، فطريقه أن يحفظ هويته من موج الناس، وأن يصبر على الغربة في سبيل الحقّ؛ لأنّ العزّة الحقيقية ليست في تصفيق الناس، بل في رضوان الله. فلنجعل من الزهراء (سلام الله عليها) نبراساً يحمينا من غروب العقل العام، ومن الذين ينصرون حجّة الله قبل ظهوره بصبرهم وثباتهم، فيكون لنا شرف أن نُكتب في ديوان أهل الصبر والفضل وجيران الله في دار الخلد.



اضف تعليق