يتطلب من الجميع وبالخصوص اصحاب القرار، ولاعتبارات سياسية واقتصادية واخلاقية وانسانية؛ تحمل المسؤولية وتجنب انزلاق البلاد نحو الخيار الفنزويلي والاسترشاد بالخيار الماليزي وذلك من خلال مغادرة المحاصصة السياسية، العمل على الاصلاح الاقتصادي من خلال زيادة دور القطاع الخاص، العمل على مكافحة الفساد، الاهتمام بالبيئة الاستثمارية بشكل عام والبنية التحتية...
رغم امتلاك العراق موارد كبيرة وأهمها الثروة النفطية إلا إنه سريع الاستجابة للازمات الداخلية والخارجية وغير قادر على الصمود أمامها.
السؤال لماذا بلد مثل العراق غني بموارده لكنه غير قادر على مواجهة الازمات سواء كانت داخلية أو خارجية؟
القاعدة الرئيسية ليس كل بلد غني بموارده سيكون قادر على الصمود ومواجهة الازمات وانما البلد القوي في تركيبته الاقتصادية وبعض العوامل الاخرى هو القادر على مواجهة الأزمات والتجارب الدولية أثبتت ذلك.
فنزولا وماليزيا: تجارب متناقضة
كانت فنزويلا من أغنى بلدان العالم من حيث الثروة النفطية إذ كانت 18.5 مليار برميل عام 1960 ثم أصبحت أغنى بلدان العالم وليس من بينها، نظراً لزيادة ثروتها لتبلغ 303.118 مليار برميل من النفط الخام كاحتياطي مؤكد عام 2024، إلا انها لازالت تعاني غياب الاستقرار واستمرار المشاكل.
وبالمقابل ماليزيا لم تكن معروفة بالغنى بل انها فقيرة الموارد، حيث لم تكُن تملك سوى 410 مليون برميل كاحتياطي نفطي مؤكد عام 1960 ثم زاد هذا الاحتياطي ليبلغ في أحسن الاحوال 2.700 مليار برميل كاحتياطي نفطي مؤكد عام 2024، إلا إنها استطاعت النهوض وأن تصبح من الاقتصادات الناشئة في جنوب شرق اسيا.
ان فنزويلا أغنى من ماليزيا على مستوى الحجم، كما هو واضح من الارقام أعلاه؛ ونسبة نمو تلك الثروة التي ارتفعت في فنزويلا بأكثر من 15 ضعفاً بينما لم تتجاوز 6 اضعاف في ماليزيا، ومع ذلك الأخيرة أفضل اداءً من الاولى.
هذه التجارب تؤكد بوضوح ان قوة الدولة لا تتعلق بامتلاكها الموارد وحسب بل والأهم هو كيفية ادارة تلك الموارد بالشكل السليم الذي يجعل الاقتصاد فعّالاً بكل قطّاعاته وانشطته ومجتمعه.
عوامل النهوض والتعثر
من العوامل المهمة التي ساعدت على نجاح ماليزيا مقابل تعثر فنزويلا هو النظام السياسي، حيث اتجه نحو الديمقراطية بشكل أكبر في ماليزيا، مما جعلها تحصد المرتبة 44 من أصل 167 دولة عام 2024 في مؤشر الديمقراطية.
وفي المقابل ابتعاد النظام السياسي في فنزويلا عن الديمقراطية مما جعلها تحتل المرتبة 142 من أصل 167 دولة للعام ذاته، أي ان الاستبداد هو السائد فيها، وفي العادة الاستبداد يُحطّم الاقتصاد بينما الديمقراطية تسهم في انتعاشه.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للنظام الاقتصادي، حيث يُعد النظام الاقتصادي من العوامل الجوهرية التي تنعكس على اداء الاقتصاد سلباً وايجاباً، وفي الاغلب الاقتصاد الذي يسير وفق اقتصاد السوق (الحرية الاقتصادية) يكون أكثر قوةً من الذي يسير وفق نظام التخطيط (استبداد اقتصادي).
فقد اعتمدت ماليزيا الحرية الاقتصادية كآلية لتسيير الاقتصاد مما جعلها تحتل المرتبة 44 من بين 176 دولة عام 2024، بينما لم تعتمدها فنزويلا مما جعلها تحتل المرتبة 174 من أصل 176، بمعنى ان الدولة هي من تهيمن على الاقتصاد من خلال النفط بحكم ضخامة احتياطياتها منه كما اتضح أعلاه.
ان توفر البنية التحتية للنقل البري والجوي والبحري وارتفاع جودتها يسهم بشكل كبير في زيادة متانة الاقتصاد نظراً لانعكاسها على كلفة الانتاج بشكل مباشر، إذ أن سرعة وانسيابية وصول السلع والخدمات والقوى العاملة ورؤوس الاموال وغيرها، يعني كلفة أقل وزيادة القدرة التنافسية.
وحسب مقياس المنتدى الاقتصادي العالمي تم وضع مؤشر يقيس جودة البنية التحتية لكل نوع من أنواع النقل، وهو (1 غير متطورة) و (7 شامل وفعّال وفقاً للمعايير الدولية)، ونظراً لاهتمام ماليزيا بها حصلت ماليزيا في المتوسط على درجة لا تقل عن .5.5 من 7 حسب المقياس، بينما فنزويلا لم تتجاوز درجتها في المتوسط 2.5 من 7 حسب المقياس.
كذلك الفساد يؤثر بشكل كبير على اداء الاقتصاد، حيث تحتل ماليزيا المرتبة 57 بينما تحتل فنزويلا المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي عام 2024، بمعنى ان ماليزيا أكثر شفافية من فنزويلا التي تعتبر في طليعة الدولة الأكثر فساداً.
بمعنى آخر، ان البلد الذي يعتمد الديمقراطية سياسياً والسوق اقتصادياً ويمنع الفساد ويكافحه ويوفر بنية تحتية سيكون اقتصاده جيداً حتى لو كان فقير الموارد، كما هو حال ماليزيا.
بينما البلد الذي يعتمد الاستبداد سياسياً والدولة اقتصادياً ولم يمنع الفساد ولم يكافحه ويهمل البنية التحتية، سيكون اقتصاده سيئاً حتى لو كان أغنى بلدان العالم من حيث الموارد.
العراق ماليزيا أو فنزويلا
اتجه العراق بعد عام 2003 دستورياً نحو الديمقراطية سياسياً والسوق اقتصادياً لكن هذا التحول لم ير النور خصوصاً على المستوى الاقتصادي وذلك لحصول متغيرات على المستوى السياسي وان كانت شكلية أكثر مما هي جوهرية.
حيث تم اختيار دستور عام 2005 بناءً على استفتاء الشعب وتم اجراء الانتخابات الاتحادية والمحلية واستمرار التداول السلمي للسلطة والعمل وفق مبدأ الفصل بين السلطات وتأسيس السلطات المستقلة كالبنك المركزي والقضاء والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة الاتحادية.
هذه من أهم مكونات الديمقراطية التي عمل العراق على تطبيقها لكن هل أسهمت في تحسين اداء الديمقراطية؟ بالتأكيد لا وهذا لا يعني عدم أهميتها كونها من مستلزماتها ولا يمكن التخلي عنها.
ولكن المشكلة تم التعامل مع الديمقراطية شكلياً لا جوهرياً أي اعتبارها نظام حكم وحسب دون التعامل معها كنظام حياة يبدأ من الاسرة مروراً بالعشيرة والمدرسة والحزب وانتهاءً بالدولة.
حيث لازالت أغلب القرارات وعلى مختلف الجهات والمستويات يتم اتخاذها وفقاً لرئيس الهرم وليس وفق التشارك والحوار مع قاعدة الهرم والأسوأ ان القاعدة لا تؤمن بانها مصدر السلطة التي تقوم عليها الديمقراطية في الأساس، مما جعل العراق يقع في المرتبة 126 من أصل 167 دولة في مؤشر الديمقراطية عام 2024.
لذلك الديمقراطية في العراق شبيها بسيارة حديثة تسير على طريق غير معبد بل ومليء بالحفر والمطبات.
أما على المستوى الاقتصادي، فلازال الاقتصاد العراقي أسير الدولة والنفط، حيث تسيطر الدولة على الاقتصاد من خلال امتلاكها لأغلب عناصر الانتاج وخصوصاً الارض (تملك 80% منها) ورأس المال سواء امتلاك النفط او القطاع المصرفي حيث لا تقل نسبة الائتمان النقدي المباشر الممنوح من المصارف التجارية الحكومية عن 80% في حين لا تزيد عن 20% من المصارف التجارية الاهلية.
كذلك من خلال الانفاق الحكومي، فعلى الرغم من اتجاه العراق نحو اقتصاد السوق الذي يحتم زيادة مساحة القطاع الخاص لا زال دور الدولة يتعاظم من خلال الانفاق الحكومة حيث ارتفع حجم الموازنة العامة من 38 تريليون دينار عام 2006 الى قرابة 150 تريليون دينار(فعلية) عام 2024 حسب بيانات البنك المركزي.
كما يهيمن النفط على أغلب المؤشرات الرئيسية وخصوصاً الناتج المحلي الاجمالي حيث لا تقل نسبته فيه عن 37% بالأسعار الجارية 52% بالأسعار الثابتة عام 2024 (بيانات تقديرية اولية سنوية) حسب بيانات البنك المركزي، وشكلت الايرادات الفعلية النفطية قرابة 89% من الايرادات العامة، ولا تقل مساهمة الصادرات النفطية عن 98% من الصادرات السلعية.
وبخصوص الفساد، ورغم تحسن البلد في مؤشر مدركات الفساد العالمي الا إنه لايزال يعاني منه حيث لايزال يحتل مرتبة متقدمة وهي 140 من بين 180 دولة عام 2024 في مؤشر مدركات الفساد العالمي.
أما موضوع البنية التحتية فلا تتوفر بيانات محدثة عنها، ولكن من خلال المشاهدة والملاحظة يتضح انها غير متطورة انعكست على كلفة الانتاج والاستثمار واداء الاقتصاد برمته.
يتضح من العرض أعلاه، أن العراق يسير وفق الخيار الفنزويلي سياسياً واقتصادياً ومؤسساتياً وعلى مستوى البنية التحتية ايضاً.
تحمل المسؤولية
مما يتطلب من الجميع وبالخصوص اصحاب القرار، ولاعتبارات سياسية واقتصادية واخلاقية وانسانية؛ تحمل المسؤولية وتجنب انزلاق البلاد نحو الخيار الفنزويلي والاسترشاد بالخيار الماليزي وذلك من خلال العمل على الاتي:
اولاً: مغادرة المحاصصة السياسية والعمل على رؤية سياسية وطنية تخدم تحقيق المصالح العليا للبلاد.
ثانياً: العمل على الاصلاح الاقتصادي من خلال زيادة دور القطاع الخاص من ناحية وتفعيل مساهمة القطاعات الاقتصادية الاخرى دون الاقتصار على النفط.
ثالثاُ: العمل على مكافحة الفساد ومنع ظهوره من خلال تقوية المؤسسات المعنية.
رابعاً: الاهتمام بالبيئة الاستثمارية بشكل عام والبنية التحتية بشكل خاص، لأجل تخفيض تكاليف الانتاج وزيادة الارباح وهذا ما يسعى له المستثمر المحلي والاجنبي.
خلاصة القول، ان عدم تحمل المسؤولية من قبل الجميع يعني ذهاب العراق نحو الخيار الفنزويلي والنتيجة تعرض الجميع للخطر، بينما عدم ترك المسؤولية يعني تحسين اداء البلاد بشكل عام والاقتصاد بشكل خاص وتجنب المخاطر.



اضف تعليق