لا تنفصل حرية التعبير بما وصلت اليه في المدونات القانونية العالمية بعد رحلة طويلة من التشريعات والقوانين، لا تنفصل عن حرية التفكير التي لولاها لما كان للتعبير معنى.
واذا كان هذا التعبير والذي عماده الكلام، قد بدأ ذاتيا شديد الخصوصية بدأ بالفرشاة والازميل، بما وصلت الينا من رسومات على جدران الكهوف للإنسان الاول، تحكي مخاوفه ورعبه والامه، واحيانا قليلة اماله، فأنها اضحت تأخذ شكلا اخر حين اكتشف الانسان قدرته على تحريك شفتيه واخراج صوت مفهوم لمن يستمع اليه.
في كل فترة زمنية مرت بها حياة الانسان على الارض، كانت وسائل تعبيره عن نفسه شديدة الخصوصية في التعبير عن ذاتيته المتفردة، وانسانيته المقهورة من قوى الطبيعة (حيوانية ومناخية وانسانية) ايضا، في صراع مستمر، وتدافع متواصل.
وكان التعبير عن كل ذلك وسيلة دفاعية حافظت على ماتميز به الانسان عن سائر المخلوقات وهو القدرة على الكلام، بعد ان سبقتها قدرة اخرى تفرد بها الانسان ايضا وهي التفكير بما حباه الخالق سبحانه وتعالى من عقل.
بعد ان استطاع هذا الانسان تنظيم نفسه وباقي افراد نوعه الانساني في تجمعات لها ملامح مشتركة ومحددة، وبعد احساسه بالحاجة الى من يقود تلك المجموعات، نشأت النظم السياسية الاولى وتطورت بما نعرفها الان، وكل ذلك عن طريق العقل الواعي والذات المتفكرة، وبمساعدة من اللغة التي تطورت بتطور مدارك الانسان وقدراته العقلية، والحاجة المتواصلة الى ابداع مفردات جديدة تليق بهذا التطور الحاصل.
لايملك الانسان بما وصل اليه منجزه الثقافي والحضاري الا ان يكون مدينا لخاصية التفكير والتعبير، التي أبدع من خلالهما هذا المنجز الكبير، رغم الكثير من العوائق والصعاب التي اعترضت طريقهما.
في بلداننا العربية والمسلمة، ورغم التطور المذهل في وسائل الاتصال والتواصل، لازالت حرية التعبير تلاقي الكثير من العوائق في طريق تحررها من السلطات الحاكمة (سياسية -اجتماعية–ثقافية). لا تختلف في ذلك نظم حكم جمهورية او ملكية، رئاسية او برلمانية، ديمقراطية علمانية، او دينية اسلامية، فهي جميعها تنفر من حرية التعبير، وتحاصرها بشتى القوانين والتشريعات، وحتى التلفيقات الحاضرة والتي يمكن لهذه النظم ابتداعها بأشكال متعددة.
لهذا كثيرا ما تحتل تلك البلدان المراتب المتأخرة في جميع التقارير الدولية المعنية بمسائل حرية التعبير، ناهيك عن حرية التفكير المنتهكة والمصادرة اصلا، في تلك المجتمعات المقموعة، وتحت نظم حكم مستبدة.
مثلت احداث ما وصف بالربيع العربي وانتفاضات عدد من الشعوب، صحوة او يقظة مفاجئة لقدرة الشعوب على التعبير عن نفسها، لكنها سرعان ما ارتدت وانتكست الى مجازر وارهاب لغوي تجاه الاخر المختلف، وقد وجدت بقية الانظمة المستبدة في ذلك مبررا لزيادة حجم الاسوار والجدران على ما تبقى من قدرة على التعبير لدى شعوبها، حتى تلك الانظمة المجاورة لبلدان ذلك الربيع المقهور والمقموع.
احدث حملة لمصادرة تلك الحرية وقمعها هو ما حدث في ايران مؤخرا بقيام الحرس الثوري الايراني بحملة اعتقالات شملت كتابا ومثقفين وصحافيين موالين للاصلاح ونهج الاعتدال، لإثارة الخوف والرعب في المجتمع، استباقا للتأثير على الانتخابات الحاسمة التي ستشهدها إيران وهي الانتخابات التشريعية وانتخابات مجلس الخبراء المقررة في شباط/فبراير المقبل.
وهي حملة مبكرة عمد اليها الحرس الثوري نتيجة المخاوف مع اقتراب موعد إغلاق الملف النووي وحصد نتائجه المتحققة لصالح الرئيس المعتدل حسن روحاني وحلفائه الاصلاحيين، بما يعزز من قبضتهم على البرلمان ومجلس خبراء القيادة، وهو ما يثير حفيظة المحافظين.
وكانت التهمة الموجهة لهؤلاء الكتاب والمثقفين هي أنهم كانوا على علاقة بشبكة تدعمها دول غربية بهدف التسلل في الصحافة المحلية والتمهيد لثورة مخملية.
والاعتقالات تلك تعتبر رسالة إلى الرئيس المعتدل حسن روحانى وحلفائه قبيل إجراء الانتخابات المقبلة.
وقد وجه الرئيس حسن روحاني انتقادات حادة لهذه الاعتقالات، حيث نقل عنه قوله «إن المتشددين أساؤوا استخدام تصريحات خامنئي بشأن احتمال انتشار نفوذ الولايات المتحدة في إيران كذريعة للاعتقالات».
وأكد روحاني خلال اجتماع مجلس الوزراء أن «المتشددين يضخمون القضية، وقاموا باعتقالات بتهم لا أساس لها من الصحة».
لكن وكالة أنباء «فارس» التابعة للحرس الثوري اتهمت المعتقلين حتى قبل أن يوجه لهم القضاء المحافظ أي تهمة، بأنهم يعملون ضمن «مشروع ينفذه الأعداء للتسلل في البلد»، وذلك لتبرير حملة القمع التي تنفذها الأجهزة الأمنية مع اقتراب الانتخابات.
وأدانت وسائل الإعلام المتشدّدة المرتبطة بـ «الحرس الثوري الإسلامي» تصريحات روحاني، غير أن مسؤولين نافذين دافعوا عنه. وقال أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني: »اعتقال بعض الأشخاص الناشطين في مجال الإعلام… في أعقاب خطة العمل المشتركة الشاملة للبرنامج النووي الإيراني، يطرحها البعض كتصفية حسابات سياسية… إنّني أشاركهم هذا الرأي».
وجاءت الاعتقالات بعد توقيف شاعرين ومخرج سينمائي، والحكم عليهم بالسجن فترات طويلة، وبالجلد، بتهمة «الإساءة للمقدسات ونشر الدعاية ضد النظام».
والاساءة الى المقدسات هي أكثر التهم جاهزية لدى انظمة الحكم المستبدة، اذ ان كل شيء حول شرعية نظامها ومشروعيته يدخل ضمن دائرة المقدس، ليشكل ذلك جدارا واقيا ضد أي خدش او شرخ في صورتها القامعة امام مجتمعاتها. وذلك المقدس الذي تصر على الاحتماء خلفه، هو أكثر الاسلحة التي تنشر الرعب والخوف في المجتمعات المقموعة
اضف تعليق