كل شيء كان طبيعيا في باريس في ليل الجمعة الثانية من شهر تشرين الثاني والجميع كان يمارس أعماله اليومية المعتادة دون أن يضع أحدهم في الحسبان إن مدينتهم قد تكون هدفا لتفجيرات إرهابية يكون ضحيتها الأبرياء كالعادة، متناسين ما جرى في السابع من كانون الثاني الماضي عندما هاجم إرهابيون مقر مجلة شارلي ايبدو وتسببوا بمقتل 12 شخصا وجرح 11 آخرين، وتزامن هذا الحادث مع قيام مسلح باحتجاز رهائن في متجر يهودي شرقي العاصمة أدى إلى مقتل خمسة أشخاص على الأقل بينهم منفذ العملية.
لكن هذه المرة عمد الإرهابيون إلى التخطيط لتنفيذ عملية جديدة لكنها بحجم أكبر بكثير من سابقاتها من دون أن يفكروا بتداعياتها وردود فعل الفرنسيين تجاهها، وتحقق لهم ذلك بهجمات منسقة في أكثر من مكان شملت ملعبا لكرة القدم وقاعة للعرض المسرحي ومطاعم ونوادي ليلية، أدت هذه الهجمات إلى مقتل ما يقارب130 شخصا وجرح ما يزيد عن 180 آخرين.
وصف البعض تفجيرات باريس بأنها النسخة الأوربية من تفجيرات 11 أيلول في الولايات المتحدة، تلك التفجيرات التي استشاطت أمريكا حكومة وشعبا غضبا منها فدفعتها إلى احتلال أفغانستان وإسقاط حكومة طالبان لأنها كانت وراء التفجيرات، فكيف ستكون ردة فعل الفرنسيين تجاه تفجيرات عاصمتهم، ففرنسا دولة قوية بقدراتها الاقتصادية والعسكرية وكدولة كبرى ستسعى لرد اعتبارها وحفظ ماء وجهها ولن تألوا جهدا في الانتقام من داعش الذي أعلن مسؤوليته عن التفجيرات، وقد أعلنها الرئيس الفرنسي صراحة بأنه "يتعهد بالقضاء على داعش" ولهذا ففرنسا وان كانت مترددة من قبل في محاربة داعش بقوة لكنها الآن ستدخل الحرب بزخم كبير بعد أن دفعتها التفجيرات الأخيرة إلى خط المواجهة في محاربة الإرهاب.
يبدو أن داعش قد اعتقدت إن استهداف فرنسا قد يدفعها إلى التراجع عن قرارها بإرسال حاملة الطائرات (شارل ديغول) إلى البحر المتوسط لمحاربة داعش، وقد يكون هذا العمل الإرهابي بمثابة انتقام من فرنسا لدعمها التحالف الدولي لمحاربة داعش، أو إنها تحاول أن تردع دولاً أخرى وتمنعها من الدخول في التحالف الدولي وإلّا سيكون مصيرها كمصير فرنسا،، وأياً كانت النوايا فقد قدمت لنا تفجيرات باريس معطيات ودلائل على إن داعش مازالت تمتلك القدرة على المناورة وضرب الأعداء في عقر دارهم متجاوزة كل التدابير الأمنية والاستعدادات والخطط العسكرية، ومن جانب آخر تسعى داعش إلى إثبات أنها رغم مرور أكثر من سنة على استهدافها من قبل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، إلا إنها لم تضعف ولم تتراجع بل ازدادت قوة وإصراراً على مواصلة الحرب، وبالتالي تشجيع الكثير من الشباب للانضمام لصفوفها.
من المؤكد إن تفجيرات باريس ستكون لها نتائج واضحة على الشأن السياسي الفرنسي داخليا وخارجيا، فالرأي العام الفرنسي سيتجه نحو التشدد لمواجهة الإرهاب، وستزداد شعبية اليمين المتطرف المتمثل بحزب الجبهة الوطنية بزعامة (مارين لوبان) الذي يتميز باتخاذه مواقف متشددة ضد اللجوء والهجرة، ومن الممكن أن يغير الرأي العام الفرنسي قناعاته ويضغط على حكومته باتجاه اتخاذ سياسات عنصرية ضد المسلمين، وهنا سيكون المهاجرون وطالبو اللجوء من العرب والمسلمين من أول المتضررين من تفجيرات باريس بعد أن أعلن (هولاند) عن غلق الحدود الفرنسية، كما سيواجه الكثير من المسلمين المقيمين في فرنسا خطر الإبعاد والطرد من فرنسا لأسباب عنصرية إذ تعتزم السلطات الفرنسية طرد أئمة وغلق مساجد على أراضيها بدعوى "التحريض على الكراهية" وتصادمهم مع قيم الجمهورية الفرنسية، وهذا على خلفية هجمات باريس الأخيرة.
خارجيا أصبحت الحكومة الفرنسية في الخط الأول من الحرب على داعش، رغم إنها وجهت أولى ضرباتها الجوية لداعش في 19 ايلول 2014 لكن مشاركتها في الحرب ضد داعش آنذاك كانت لدواعي مصلحية وأجندات سياسية والتزامات دولية، لكن من المتوقع بعد تفجيرات باريس أن ترمي فرنسا بكل ثقلها في الحرب ضد داعش حفاظا على هيبتها وإثباتاً لقدراتها على هزيمة أعدائها ولهذا فأن التغيير المتوقع في الموقف الفرنسي قد يعجل من القضاء على داعش، وتبقى مسألة الإصرار الفرنسي على رحيل بشار الأسد من الحكم محل نظر ولا نجد ما يمنع من تراجع فرنسا عن هذا الإصرار إذا ما أيقنت فرنسا إن الأمن الفرنسي ممكن أن يتحقق في حالة دعم الأسد في مقاتلة داعش وهزيمته حتى لو اغضب ذلك السعودية التي تربطها بفرنسا علاقات تجارية كبيرة في مجال التسليح والاستثمار.
لكن هنا الأولوية للأمن على حساب المصالح التجارية والالتزامات السياسية، فضمان الأمن يجعل الحكومات تتجاوز المألوف وتبحث في فن الممكن لذلك سيتعاون (هولاند) إذا اقتضت الضرورة مع إيران وروسيا والعراق وحتى مع بشار الأسد من اجل تنفيذ وعده للفرنسيين بالقضاء على داعش والانتقام لضحايا فرنسا، فهذه الدول تمتلك الجديّة في مقاتلة داعش على العكس من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية التي مازالت تستخدم داعش وتوظفها كورقة للضغط على حكومات معينة لإجبارها على السير في الطريق الذي تحدده هذه الدول.
وخلاصة القول إن داعش وان كانت قد نجحت في زعزعة الأمن الفرنسي واختراق الخطط الأمنية لأقوى دولة أوربية، لكنها فشلت في استقراء الأفعال المستقبلية التي ستترتب على تفجيرات باريس التي لا نستبعد أن تضع داعش أمام خيارات محدودة وصعبة للغاية قد تحجم من مساحة نفوذها وتضيق على حركة أتباعها وأنصارها وربما تؤدي في النهاية إلى هزيمتها.
اضف تعليق