أرحيم، رجل في منتصف الخمسينات من عمره، يحن كثيرا لثمانينات القرن الماضي، حيث عاش شبابه فيها، مع أنها سنوات تحت ضغط رهيب، بسبب رعب الطاغية "صديم"، لكن أرحيم لم يكن يهتم بالسياسة، كاهتمامه بشراء قميص جديد، أو الحصول على رواية عالمية، حتى لو وصل ثمنها خمس دنانير، فكان سخيا في سبيل متعته.
إلى إن جاءت السنوات العجاف في التسعينات، الكل تحت آلة التجويع الجماعي، فصدام يحارب الشعب من جهة، والأمم المتحدة تقرر فرض حصار اقتصادي، والمحنة تقع على رأس أرحيم.
بعدها بـ 13عام، حصلت انفراجة تاريخية، بسقوط طاغية بغداد، سارع أرحيم للاحتفال على طريقته، بإحراق صور القائد الضرورة أين ما وجدها، في احتفال مهيب، مازلنا نتذكره، حيث كان أرحيم يصفق بشكل حماسي، مع ارتفاع النار، وتحول صدام إلى مجرد دخان.
ومرت الأيام الديمقراطية متقلبة، كان أرحيم بين الفرح والحزن، إلى إن ثبتت الأيام بحالة واحدة لا تتغير، وهي الحزن!
هذا الشهر كانت مصاريف أرحيم كثيرة، بسبب موسم الشتاء، وما يحمله من كم أضافي، من الاحتياجات البيتية، حتى انه لم يستطع شراء صبغ لشعره الأبيض، ولم يتمكن من شراء (قمصلة) جلدية، لمقاومة برد الشتاء، فالراتب لا يكفي، مع ارتفاع أسعار السوق، وتوسع الطلبات، ومن جهة أخرى جهود الحكومة الغريبة، الساعية لتقليل الرواتب، وهذا ما استفز رحيم كثيرا.
ماذا يريد مني العبادي وجماعته، من مستشارين السوء، فمع أنهم يستلمون رواتب بعشرات الملايين، قرروا إن يستقطعوا من راتب أرحيم، كأني انا سبب الأزمة الاقتصادية، وعليهم إن يبدأوا مسيرة التقشف، من راتب أرحيم، وراتبي هزيل بالكاد أعيش به حياتي البائسة، الله ينتقم من الساسة المتمنطقين، (جملة سمعها أرحيم في مسلسل تاريخي، واخذ يشتم بها كل من لا يعجبه).
تذكر أرحيم انه لم يدفع لحد الان اشتراكه، في مولدة الكهرباء الأهلية، خمسون إلف دينار، وإلا سيقوم صاحب المولدة، بقطع الكهرباء عن بيت أرحيم، محنة الكهرباء التي لا تزول، فوقف متضرعا رافعا يديه، الهي العن الوزير "أوحيد"، الذي سرق الأموال العراقية، وأقام بها عرس ابنه المدلل، في الأندلس العجيبة، الهي والعن معه كل من ساعده، من مدراء ووكلاء وحاشية.
صمت قليلا أرحيم، يفكر في كيفية تسديد الخمسين إلف، لصاحب المولدة ولا يهتدي لحل، فموعد الراتب بعيد، ولا يستطيع إن يستدين، لان ديونه كبيرة، فلا مفر من العيش بظلمة ليل لا ينتهي، ضحك بقهقهة عالية، وصاح: وبرج حظي اليوم يقول لي "ابتسم فأنت تعيش حياة سعيدة"، يمكن إنه برج لأرحيم آخر وليس إنا؟
قبل الخروج، أراد تلميع حذائه، ثم رمى فرشة التلميع نحو الأرض، بقهر شديد، فقط تذكر ان شارع الحي، عبارة عن بركة من الطين، كم أنت سعيدة أيتها الفرشاة، فلن تتعبي بتلميع أعجوبة الأحذية القديمة، فالشارع كفيل بإزالة جهودك، شارع الحي يرفض ان يكون طبيعيا، فلقد جن بسبب الحفر المتكرر، من قبل المقاولين، وتحول لمسخ مخيف، يسعى لجعل ملابسنا متسخة دوما.
خرج أرحيم من بيته، فغرقت ساقه في مستنقع الماء والطين، قرب دكان الحاج أبو رياض، وقال له: يا حاج سجل شكري لأمانة العاصمة، على جهودها معنا، في مشاركتنا إزعاج زوجاتنا، حيث ستجبر زوجتي على غسل "البنطرون" مرة أخرى، فضحك أبو رياض وأرحيم، ضحكات مدوية، وقال أبو رياض: الحكومة وأمانة العاصمة في خدمة أرحيم.
أكمل أرحيم رحلته نحو وظيفته بملابسه المتسخة، لقد صدق برج الحظ، فانا اليوم اضحك كثيرا، لكن كما قال الشاعر، وبعض الضحك أمٌر من البكاء.
اضف تعليق