لم يَعُد المزاح حكرًا على التَّفاعل المباشر بين النَّاس؛ إذ امتدَّ حضوره إلى الشَّاشات عبر المسلسلات والبرامج الكوميديَّة، التي تبدو في ظاهرها مسليَّة وجذَّابة للوهلة الأولى، إلَّا أنَّ الإفراط فيها قد يؤدِّي إلى تشويه القيم الأخلاقية، وإضعاف الحس الاجتماعي، وتحريف معنى المزاح الحقيقي المرتبط بالخلق الحسن والتَّواصل الإيجابي...
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتزداد ضغوط الحياة على الإنسان، يبرز المزاح بوصفه أحد أبسط وأرقى وسائل التَّسلية وراحة النَّفس؛ فهو يضفي السُّرور على القلب، ويخفف من التَّوتر، ويقرِّب بين القلوب إذا كان ضمن حدود الأدب والاحترام. غير أنَّ المزاح ليس حديثًا عابرًا ولا تسليةً آنية؛ وإنَّما هو خُلق له آدابه وضوابطه التي تصون صاحبه ومن حوله من الوقوع في الإساءة.
ومع ذلك، لم يَعُد المزاح حكرًا على التَّفاعل المباشر بين النَّاس؛ إذ امتدَّ حضوره إلى الشَّاشات عبر المسلسلات والبرامج الكوميديَّة، التي تبدو في ظاهرها مسليَّة وجذَّابة للوهلة الأولى، إلَّا أنَّ الإفراط فيها قد يؤدِّي إلى تشويه القيم الأخلاقية، وإضعاف الحس الاجتماعي، وتحريف معنى المزاح الحقيقي المرتبط بالخلق الحسن والتَّواصل الإيجابي.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى التَّمييز بين المزاح القائم على الأدب والخلق الرَّفيع، والمزاح المبتذل الذي تروج له بعض البرامج، والذي قد يترك آثارًا سلبيَّة على الفرد والمجتمع.
المحور الأوَّل: تعريف المزاح لغةً واصطلاحًا.
إنَّ التَّأمل في تعريف المزاح، لغةً واصطلاحًا، يكشف لنا عن أثر هذا السُّلوك وبُعده النَّفسي؛ فالمزاح في اللغة كما يذكر ابن منظور في لسان العرب: "الدُّعابةُ، وفي المحكم: المَزْحُ نقيضُ الجِدِّ؛ مَزَحَ يَمْزَحُ مَزْحًا ومِزاحًا ومُزاحًا ومُزاحةً، وقد مازَحه مُمازَحةً ومِزاحًا والاسم المُزاح، بالضم، والمُزاحة أَيضًا" (1)؛ وهو ما يُدخل على النَّفس خفَّة وسرورًا، فيكون نقيضًا للجدِّ في معناه، من دون أن يتحوَّل إلى هزلٍ فارغ. وبعبارة أخرى: المزاح، مساحة من الطَّرافة تُنعش القلوب وتبثُّ في العلاقات دفئًا وودًّا، من دون أن تمسَّ الكرامة أو تُضعف الهيبة.
أمَّا المُزاحُ اصطِلاحًا، فهو: "قَولٌ أو فِعلٌ يريدُ به صاحِبُه مُداعبةَ غَيرِه، وقد يكونُ ذلك مشروعًا أو ممنوعًا" (2). ومن هذا التَّعريف ندرك أننا أمام سلوكٍ مقصودٍ يحمل نيَّةً طيِّبة متى ما التزم صاحبه بحدود الأدب والخلق، إلَّا أنَّ المزاح قد ينقلب إلى إساءةٍ حين يتجاوز حدود الأدب والاحترام، وهنا تظهر حقيقته بوصفه وسيلةً لا بوصفه غاية، تُقاس بها حكمة الإنسان ورُقيّ طبعه. فالمزاح الممدوح هو ما كان غايته إدخال السُّرور إلى القلوب وتلطيف الأجواء، وأمَّا المذموم فهو ما يقوم على الاستخفاف بالقيم، أو السُّخرية من الآخرين، أو ما يزرع في النُّفوس الضَّغينة بدل المودَّة.
إذن، فالمزاح في حقيقته فنٌّ أخلاقي يُظهر عمق توازن النَّفس ورصانتها. والمؤمن لا يُفرِط فيه حتَّى يفقد وقاره، ولا يُفرِّط فيه حتَّى يغلظ طبعه؛ وإنَّما يجعله جسرًا يُقرِّب القلوب لا سيفًا يُباعدها، وضحكةً تُنعش الأرواح لا سخريةً تُوجِع القلوب.
وهناك فروق دقيقة تفصل بين المزاح وغيره من المصطلحات القريبة منه في المعنى، ونذكر منها ما يأتي:
1. الفَرْق بَيْنَ المُزاحِ والهَزْلِ.
"أنَّ الهَزْلَ يقتضي تواضُعَ الهازِلِ لِمن يَهزِلُ بَيْنَ يدَيه، والمُزاحَ لا يقتضي ذلك؛ فالمَلِكُ يمازِحُ خَدَمَه وإن لم يتواضَعْ لهم تواضُعَ الهازِلِ لِمَن يَهزِلُ بَيْنَ يدَيه، والنَّبيُّ (صلَّى الله عليه (وآله) وسلم يمازِحُ ولا يجوزُ أن يُقالَ: يَهزِلُ. ويقالُ لمن يَسخَرُ: يَهزِلُ، ولا يُقالُ: يَمزَحُ" (3).
2. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والاستِهزاءِ.
"المُزاحَ لا يقتضي تحقيرَ مَن يمازِحُه، ولا اعتقادَ ذلك؛ فالتَّابعُ يمازِحُ المتبوعَ من الرُّؤساءِ والملوكِ، ولا يقتضي ذلك تحقيرَهم ولا اعتقادَ تحقيرِهم، ولكِنْ يقتضي الاستئناسَ بهم، والاستهزاءُ يقتضي تحقيرَ المُستهزَأِ به، واعتقادَ تحقيرِه" (4).
3. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والطُّرْفةِ.
"الطُّرْفةُ: ما يُستطرَفُ ويُستملَحُ. يقالُ: أطرَفَ الرَّجُلُ: جاء بطُرفةٍ، والجَمعُ: طُرَفٌ. ورَجُلٌ طريفٌ: هَشٌّ. فالطُّرفةُ وَسيلةٌ من وسائِلِ المُزاحِ"(5).
4. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والفُكاهةِ.
"يقالُ: رَجُلٌ فَكِهٌ: مُنبَسِطُ النَّفسِ مَزَّاحٌ صاحِبُ دُعابةٍ. وفاكَهْتُ القَومَ مُفاكَهةً بمُلَحِ الكلامِ والمُزاحِ. والمفاكَهةُ: المُمازحةُ (6). وقيل للمُزاحِ: فُكاهةٌ؛ لِما فيه من مسَرَّةِ أهلِه، واستِمتاعٍ به" (7).
وتُظهر هذه الفروق أنَّ الألفاظ المتقاربة في ظاهرها تحمل معاني مختلفة، تكشف عن دقَّة اللغة في تصوير مقاصد السُّلوك؛ فـالمزاح يختلف عن الهزل بأنَّ الأوَّل لا يُسقط الهيبة ولا يستلزم التَّواضع المفرط، ولذلك جاز من الأنبياء والملوك، بينما الهزل فيه خِفّة ومساس بالمقام.
ويفترق المزاح عن الاستهزاء بأنَّ المزاح يقوم على الأُنس والمحبَّة، أمَّا الاستهزاء فمبناه التَّحقير والإهانة، وإن تشابها في ظاهر الكلام. أمَّا الطُّرفة فهي وسيلة من وسائل المزاح، تُستخدم للإضحاك أو الإمتاع؛ لكنَّها تبقى جزئيَّةً ضمن دائرة المزاح الأوسع.
وأخيرًا، الفكاهة صفة في النَّفس تدلّ على انبساط الطَّبع وحب السُّرور، بينما المزاح فعلٌ أو موقفٌ عارض يصدر من الإنسان في لحظةٍ معيَّنة. وبذلك يتبيَّن أنَّ المزاح خُلُقٌ منضبط، يعبِّر عن صفاء النَّفس وحسن المعاشرة، متى ما كان بريئًا من السُّخرية والمساس بالكرامة.
المحور الثَّاني: فوائد المزاح.
وفيما يلي نستعرض أهمَّ ثمار المزاح الممدوح وآثاره الإيجابيَّة في النَّفس والعلاقات الإنسانيَّة:
أوَّلًا: مفتاح القلوب.
من ثمار المزاح المعتدل أنَّه يزرع المودَّة في القلوب، ويُحبِّب الإنسان إلى النَّاس؛ لأنَّه يخاطب الجانب الودود في النَّفس البشريَّة، فيقرِّب البعيد، ويصلح ما تكدَّر من العلاقات؛ فالكلمة الممزوجة بالمزاح اللطيف تفتح باب التَّواصل الصَّادق الذي قد لا يُفتَح بالكلام الجادّ وحده.
إنَّ الإنسان بطبيعته يميل إلى مَن يُضحكه من دون أن يُهينه أو يتجاوز حدَّ الأدب؛ ولذلك يدخل المزاح المعتدل القلوب بلا استئذان؛ لأنَّه يعبِّر عن طيبة القلب ولين الطَّبع وحُسن المعاشرة. فهو لا ينتزع الضحك قسرًا، ويمنحه برفقٍ ورحمة، فيشعر الآخر معه بالأمان النَّفسي.
وليس غريبًا أن يكون المزاح الطيِّب من أسباب محبَّة النَّاس وارتياحهم؛ إذ النُّفوس لا تميل إلى العبوس الدَّائم ولا إلى الصَّرامة المطلقة، وتحب من يجمع بين الجدِّ والمرح، والهيبة والبسمة، في توازنٍ يدل على نضج الشَّخصيَّة ورحابة الصَّدر.
إنَّ المزاح المعتدل يترك في النُّفوس أثرًا عميقًا؛ لأنَّ من يُحسن المزاح هو في الحقيقة من يُحسن فهم النَّاس، ويعرف متى يبتسم، ومتى يصمت، ومتى يُدخل السُّرور من دون أن يُسقط المهابة. وهكذا يصبح المزاح بابًا إلى المحبَّة، ومفتاحًا للقلوب، ومظهرًا من مظاهر الحكمة في التَّعامل مع الآخرين.
ثانيًا: نسيم منعش.
من مزايا المزاح الحسن أنَّه يُحوِّل المجالس الجافَّة إلى واحات من البهجة، ويغمر النُّفوس بأنسٍ يُرمِّم ما تتركه الحياة من تعبٍ ووحشة. فهو نسيمٌ لطيف يهب على العلاقات، فينعشها، ويجدِّد حيويَّتها، ويقوّي أواصرها.
لقد خُلق الإنسان ميَّالًا إلى الأنس والمشاركة، يحتاج إلى من يُخفف عنه همَّه، ويفتح له نافذة من الفرح وسط ركام الهموم، والمزاح المعتدل هو السَّبيل النَّبيل لذلك. فعندما يمازح المؤمن أخاه بكلمة لطيفة أو ابتسامة صادقة، فإنَّه يعبِّر عن محبَّته الخالصة ووفائه الصَّادق.
وقد كان الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) في ذروة الجدِّ والوقار، ومع ذلك كان يفيض على النَّاس ببشاشته، فيمازحهم بلطفٍ يؤنس قلوبهم ويقربهم إليه. ويشاركهم ضحكهم، ويُشعر كلَّ واحدٍ منهم أنَّه محبوبٌ عنده ومكرَّمٌ في عينه، فكان مزاحه تربيةً في ثوبِ رحمة، ودروسًا ناطقة في كيفيَّة الجمع بين العظمة والأُنس، وبين الهيبة والودّ. ومن طرائف مزاحه الشَّريف ما روي أنًّ"رجلًا قال للنَّبي (صلَّى الله عليه وآله): احملني يا رسول الله، فقال: إنَّا حاملوك على ولد ناقة، فقال: ما أصنع بولد ناقة؟
قال (صلَّى الله عليه وآله): وهل يلد الإبل إلَّا النوق.(8)!
وعن زيد بن أسلم زيد بن أسلم أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) قال لامرأة وذكرت زوجها: أهذا الذي في عينيه بياض؟
فقالت: لا ما بعينيه بياض، وحكت لزوجها فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها" (9).
ثالثًا: تجديد الحيويَّة.
مهما علت النَّفس البشريَّة واشتغلت بالجدِّ والسَّعي؛ فإنَّها لا تخلو من لحظات إرهاقٍ وضيق، تحتاج فيها إلى نسمة ترفيهٍ تُعيد إليها توازنها، وتغسل عنها غبار التكرار ورتابة الأيَّام. والمزاح المعتدل هو بمثابة نسمةٍ باردةٍ تمرّ على قلبٍ أنهكه الجِدُّ، تُنعشه من دون أن تُفسده، وتفتح له باب الانطلاق بعد طول انشغال. فهو يحرِّر النَّفس من ضغط الجديَّة المفرطة، كما تُحرِّر الابتسامةُ الوجهَ من عبوسٍ طال، فيتجدد النَّشاط ويُستعاد الإقبال على الحياة بروحٍ أخفّ وأكثر صفاءً.
ولذلك كان المزاح في سيرة النَّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطَّاهرين (عليهم السلام) أداةً تربويةً راقيةً لتجديد النَّفس لا لإسقاط وقارها، يمارسونه بين الحين والآخر ليُخففوا عن النَّاس ثقل الحياة وهمومها؛ إذ إنَّ من لا يُجيد التَّرفيه عن نفسه بلطفٍ واعتدالٍ يُتعب روحه ويُرهق قلبه حتَّى تكلّ وتملّ.
أتت امرأة عجوز إلى النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): لا تدخل الجنَّة عجوز فبكت. فقال: إنَّك لست يومئذٍ بعجوز؛ قال الله (تعالى): (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (10)" (11). وهكذا، يصبح المزاح الحسن كالسقاء الذي يروي أرض القلب العطشى، فيعيد إليها رطوبتها واستعدادها للعطاء. فالقلب المتعب لا يُثمر، والنَّفس المرهَقة لا تُبدع، والمزاح الرَّصين هو دواؤها الذي يُعيدها إلى الحياة، فينثر على أيَّامها نور البسمة ونسيم الفرح الطَّاهر.
رابعًا: فتح القلوب المغلقة.
ومن فوائد المزاح الممدوح أنَّه يستميل القلوب ويفتح مغاليقها برفقٍ وحنان، فالكلمة اللطيفة الممزوجة بابتسامة صادقة قادرة على أن تفتح في النَّفس بابًا لا تفتحه المواعظ الجافَّة ولا الخطابات الجادة؛ ولذلك، كان المزاح المعتدل في حياة النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) مدرسةً في فنِّ كسب القلوب؛ حيث جمعوا بين جدّية الرِّسالة ولطف المعاملة، فاستأثروا بمحبَّة النَّاس قبل إفهامهم الأحكام، وحبَّبوا الدِّين في النفوس قبل تكليفهم بما يوجبونه؛ فالقلوب تُفتَح بالرَّحمة والابتسامة والرُّوح الطيِّبة، وهذا جوهر رسالة المزاح النَّبيل في الإسلام.
المحور الثَّالث: شروط المزاح.
حتَّى يكون المزاح سلوكًا محمودًا، لا بدَّ أن يخضع لمجموعةٍ من الضَّوابط التي تُبقيه في دائرة الحلال والفضيلة، وتمنعه من الانزلاق إلى ما يُفقده نبله؛ وأهم هذه الضَّوابط:
1. أن يكون خاليًا من المحرَّمات.
لأنَّ الكلمة وإن قيلت على سبيل المزاح قد تُسجَّل في صحيفة الأعمال بوصفها ذنبًا يُساءل عنه الإنسان يوم القيامة. وقد وضع النَّبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) قاعدةً ذهبيَّة في هذا الباب بقوله: "إنّي لأمزَحُ ولا أقولُ إلَّا حَقّاً" (12).
إنَّها قاعدة تختصر أحكام المزاح في الإسلام: الصدق حتَّى في الضحك، فلا يُستباح الكذب وغيره من المحرَّمات من أجل الإضحاك، ولا يُنال من كرامة أحد تحت ذريعة المزاح.
وما أجمل أن يكون المزاح مرآةً للحقِّ لا ستارًا للباطل، وأن يظلَّ الإنسان في أوقات اللطف كما هو في مواطن الجدِّ: صادقًا، نقيًّا، محترمًا للنَّاس وحرمة الكلام؛ فالمزاح الذي يلتزم بالصِّدق يزرع البسمة من دون أن يزرع النَّدم، ويُفرح القلوب من دون أن يُكدَّرها.
2. أن يكون مدخلًا للسرور لا وسيلة للسخرية أو الاستهزاء.
فالمزاح الحقُّ هو ما يقرّب النَّاس، وليس ما يجرح مشاعرهم أو يُضعفهم نفسيًا. عَنْ يُونُسَ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "كَيْفَ مُدَاعَبَةُ بَعْضِكُمْ بَعْضاً؟"، قُلْتُ: قَلِيلٌ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنَّ الْمُدَاعَبَةَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّكَ لَتُدْخِلُ بِهَا السُّرُورَ عَلى أَخِيكَ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يُدَاعِبُ الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ" (13).
وفي هذه الرِّواية، يظهر بوضوح أنَّ غاية المزاح هي إدخال البهجة والسُّرور على الآخرين، وأنَّه جزء من حسن الخلق والرِّفق بالنَّاس؛ فالرسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله) كان يمزح بأسلوب لطيف، يفرح به القلب من دون أن يسخر من أحد أو يحقِّر كرامته.
ومن هذا الشَّرط نتعلَّم أنَّ المزاح مشروع حين يبتغي سرور الآخرين وليس إهانتهم، فالكلمة الطيِّبة والابتسامة الصَّادقة قد تكون أبلغ أثرًا من كلِّ خطاب طويل؛ لأنَّها تُقوّي المحبَّة بين النَّاس، من غير أن تُخلَّ بالاحترام أو الوقار.
3. عدم التَّطرّق إلى الفحش أو الكلام البذيء.
فالمزاح الحقّ لا يحتاج إلى إساءة أو ألفاظ نابية ليكون مضحكًا أو ممتعًا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُحِبُّ الْمُدَاعِبَ فِي الْجَمَاعَةِ بِلَا رَفَثٍ" (14).
وهذا يوضِّح أنَّ المزاح يجب أن يظلَّ بعيدًا عن كلِّ ما فيه إساءة أو فساد للذوق، سواء بالكلام أو الإيحاء. فالمزاح بلا فحش يجعل الضحك وسيلةً للتقريب بين النَّاس، لا للإيذاء أو التَّحقير.
4. أن لا يؤدِّي إلى خوف أو رعب لدى الآخرين.
المزاح الحقّ يهدف إلى إدخال السُّرور والرَّاحة، لا لإثارة القلق أو التَّوتر. وقد ورد في سيرة النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) مثال يوضح ذلك، حين قال أبو الحسَنِ - وكانَ عَقَبيّاً بَدْريّاً -: كُنَّا جُلوسًا معَ رسولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله)، فقامَ رجُلٌ ونَسِيَ نَعلَيهِ، فأخَذَهُما رجُلٌ فوَضَعهُما تَحتَهُ، فرَجعَ الرَّجُلُ فقالَ: نَعْلَيَّ، فقالَ القَومُ: ما رأيناهُما، فقالَ: هُوَ ذَه، فقالَ [رسولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وآله]: فكيفَ برَوعَةِ المؤمنِ؟!
فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما صَنعتُهُ لاعِبًا، فقال: فكيفَ برَوعَةِ المؤمنِ؟! -مَرَّتينِ أو ثلاثًا-"(15).
فحتَّى في الألعاب والمواقف الطَّريفة، كان النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) يراعي مشاعر النَّاس ويضمن أن يكون المزاح مصدرًا للفرح والطَّمأنينة لا للاضطراب أو الرَّهبة.
إنَّ إدراك هذا الشَّرط يُظهر لنا أنَّ المزاح الحقَّ يمزج بين الطَّرافة والاحترام، بين الدعابة والأمان النَّفسي، بحيث يشعر من حولك بالرَّاحة والانسجام، ويبتعد تمامًا عن أي شعور بالخوف أو الانزعاج. وهذا ما يجعل المزاح المعتدل أداةً تربويَّة واجتماعيَّة راقية، تزيد الألفة بين النَّاس وتقرّب القلوب بأسلوب لطيف وراقي.
5. عدم الإفراط فيه.
الاعتدال في المزاح يضمن أن يبقى القلب منشرحًا من دون أن تفقد الكلمة وقعها أو أن تتراجع الهيبة. والمزاح الزَّائد قد يثير الملل أو الانزعاج، وقد يفقد الإنسان القدرة على التَّمييز بين الجدِّ والمرح، بينما المزاح المعتدل يجمع بين البهجة والاحترام، ويدعم العلاقات الإنسانيَّة، ويترك أثرًا طيبًا في النُّفوس بلا إساءة أو اضطراب.
وبعد استعراض هذه الشُّروط والآداب، يمكننا أن نفهم أنَّ المزاح المشروع هو ذلك المزاح الذي يقوم على الحكمة واللطف والاعتدال؛ فقد قالوا في تعريفه: " المُبَاسَطَة إِلى الغَيْرِ على جِهَةِ التّلَطُّف والاستِعْطَافِ دونَ أَذِيَّة، حتّى يَخْرُجَ الاستهزاءُ والسُّخَرية"(16).
المحور الرَّابع: أضرار المزاح.
على الرَّغم أنَّ المزاح وسيلة للسرور والبهجة، إلَّا أنَّه إذا خرج عن شروطه التي ذكرناها، فقد يتحوَّل من نعمة إلى أذى، ويترك أثرًا سلبيًا على النَّفس والمجتمع؛ ومن هذه الآثار:
1. يذهب البهاء.
لقد نبَّهنا النَّبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) إلى خطورة المزاح غير المنضبط، فقال: "لا تَمزَحْ فيَذهَبَ بَهاؤكَ، ولا تَكذِبْ فيَذهَبَ نورُكَ" (17).
وفي هذه الكلمات النبويّة البليغة يتجلَّى درسٌ عميق، مفاده أنَّ المزاح إذا تجاوز حدَّه، أو اختلط بالكذب والفُحش، سلب الإنسان بهاءه ونوره؛ أي تلك الصِّفات الرَّفيعة التي تُزيّن النَّفس وتُشرق في السُّلوك والمعاملة. فالبهاء ليس جمال المظهر فحسب؛ وإنَّما هو جمال الرُّوح وصفاء القلب، وأمَّا النُّور فهو نقاء النَّفس الذي يهدي صاحبه إلى الحقِّ والخير.
وهكذا، يصبح المزاح غير المنضبط عاملًا مفسدًا للذوق والسُّلوك؛ لأنَّه قد يُفقد الإنسان قدرته على التَّمييز بين الجدِّ والمرح، ويزرع في النُّفوس القسوة أو الغفلة أو التَّهاون بالحقائق. فالإنسان الذي يمزح بلا حدود قد يفقد احترامه لنفسه وللآخرين، ويخسر جزءًا من إشعاعه الرُّوحي الذي يميّزه، وقد ينعكس ذلك على علاقاته الاجتماعيَّة وسلوكه اليومي، فيصبح المزاح أداة للضَّرر بدل أن يكون وسيلة للفرح والمودَّة.
عن الإمام علي (عليه السلام): "آفَةُ الْهَيْبَةِ الْمِزَاحُ" (18).
وعن الإمام الصَّادق (عليه السلام): "كَثْرَةُ الْمِزَاحِ تُسْقِطُ الْهَيْبَةَ" (19).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): "كَثْرَةُ الْمِزَاحِ تُذْهِبُ الْبَهَاءَ وَيُوجِبُ الشَّحْنَاءَ" (20).
وتوضح هذه النصوص أن المزاح يمتد ليؤثر على مكانة الإنسان الاجتماعيَّة ووقاره بين النَّاس؛ فالمزاح المفرط قد يجعل الآخرين يستهينون بالشَّخص، ويقلل احترامهم له، ويضعف صورته في عيون المجتمع.
2. تشتيت التَّفكير.
الإفراط في المزاح يلهي الإنسان عن التَّفكير الرَّصين والتَّدبّر الواعي، ويُشتِّت تركيزه، فيفقد جزءًا من صلابته الذهنيَّة وحكمته في التَّعامل مع الأمور. وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: "مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً" (21).
وهذه المقولة العميقة تذكِّرنا بأنَّ المزاح، حين يخرج عن حدوده يؤثر على قوَّة التَّفكير ووضوح الرُّؤية؛ فالعقل السَّليم يحتاج إلى توازن بين الجدِّية والمرح، وبين الجدّ والدعابة، والإفراط في المزاح يضعف هذا التَّوازن ويحدّ من قدرة الإنسان على اتِّخاذ القرارات الصَّائبة والتَّعامل مع الحياة بوعي.
وبذلك، يظهر أنَّ المزاح قد يكون سيفًا ذا حدين: يفرح القلب ويبهجه حين يكون معتدلًا، ويضعف القوَّة الذهنيَّة ويشتت الفكر حين يتحوَّل إلى عادة بلا ضابط أو حد.
3. بذور الضَّغائن.
قد يؤدِّي المزاح غير المنضبط إلى إثارة العداوات وزرع الضَّغائن في القلوب؛ فالكلمة، وإن بدت لطيفة أو مرحة، قد تترك جرحًا عميقًا إذا تجاوزت حدَّها أو أسيء فهمها. ولهذا حذَّر الإمام عليٌّ (عليه السلام) من الإفراط في المزاح، فقال: "لَا تُمَازِحَنَّ صَدِيقاً فَيُعَادِيَكَ وَلَا عَدُوّاً فَيُرْدِيَكَ" (22)، وعنه (عليه السلام):
"لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ" (23)، وعنه (عليه السلام): "دَعِ المِزاحَ؛ فإنّهُ لِقاحُ الضَّغينَةِ" (24)، وعنه (عليه السلام): "إِيَّاكُمْ وَالْمِزَاحَ؛ فَإِنَّهُ يَجُرُّ السَّخِيمَةَ، وَيُورِثُ الضَّغِينَةَ، وَهُوَ السَّبُّ الْأَصْغَرُ" (25).
توضح هذه الأقوال أنَّ المزاح غير المعتدل قد يتحول إلى أداة للفتنة والخصام؛ لأنَّ المزاح الزَّائد أو الجارح يترك أثرًا سلبيًا في النَّفس، فيتكوَّن الحقد الصَّغير أو السَّخيمة التي قد تتفاقم مع الوقت. فالمرء قد يضحك في البداية؛ لكنه يحمل في قلبه شعورًا بالإهانة أو الاستياء، فينمو تدريجيًا حتَّى يصبح مصدر نزاع وخلاف.
وهذا يبيِّن أنَّ المزاح أداة تأثير قويَّة على العلاقات الاجتماعيَّة، وإذا خرج المزاح عن حدوده، فقد يضعف روابط المودَّة بين الأفراد، ويزرع بذور الخصام في المجتمعات، ويؤثِّر على الصَّفاء النفسي، كما حذر الإمام (عليه السلام)؛ لذلك، يصبح الضَّابط الأساسي للمزاح الوعي بحساسية النُّفوس واحترام مشاعر الآخرين، والحرص على أن يكون مصدرًا للبهجة لا للعداوة، وسبيلًا لتوطيد العلاقات لا لهدمها.
4. الاستخفاف بالمازح.
حين يخرج المزاح عن حدوده يصبح أداةً للتقليل من قدر الآخر؛ وقد جاء عن الإمام علي (عليه السلام) تحذيران صريحان بهذا المعنى: " وَلَاتُمَازِحْ فَيُجْتَرَأَ عَلَيْكَ" (26)، و"مَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ"(27).
تبيِّن هذه الأقوال أنَّ المزاح غير المضبوط قد يجعل النَّاس يستهينون بالشَّخص ويجرؤون عليه، أو يشعر الممزوح بأنَّه مسلوب الاحترام، فيتكوَّن شعور بالحرج أو الاستياء. وهكذا، يصبح المزاح غير المعتدل مصدر توتر للعلاقات، وإحباط للنَّفس، بينما المزاح المشروع يقوي المودَّة ويزيد الألفة بين النَّاس؛ لأنَّه يقوم على الاحترام المتبادل واللطف والاعتدال، فلا يتحوَّل أبدًا إلى أداة اجتراء أو استخفاف.
المحور الخامس: من أضرار المقاطع الفكاهيَّة.
الفكاهة، سواء كانت شخصيَّة أو جماعيَّة، تحمل بين طيَّاتها جانبين: جانب مشرق يُدخل السُّرور والرَّاحة، وجانب مظلم يمكن أن يكون هجوميًا ومدمِّرًا. وعندما تنتقل الفكاهة من المزاح المعتدل إلى التَّمثيل المسرحي أو المسلسلات والمقاطع الفكاهيَّة التي تفتقر للحدود الشَّرعيَّة، فإنَّ آثارها السلبيَّة تتضخم بشكلٍ أكبر؛ لأنَّها تصل إلى جمهور واسع وتؤثِّر على السُّلوكيات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة.
1. أوَّل هذه المخاطر، أنَّها قد تتحوَّل إلى عدوان اجتماعي؛ فكثير من المقاطع الفكاهيَّة تعتمد على المبالغة في الأخطاء أو العيوب الشَّخصيَّة للآخرين، أو على استغلال تحيّزات الجمهور، ممَّا يجعل الضحك وسيلة للإهانة والتَّقليل من شأن الآخرين، لا مجرد تسلية. ومثل هذا النَّوع من الفكاهة يشبه المزاح الضار الذي حذَّر منه الإمام عليٌّ (عليه السلام)، فهو يزرع الضَّغائن ويضعف الرَّوابط الاجتماعيَّة.
2. يمكن أن تكون الفكاهة في هذه الأعمال مسيئة ومتحيزة، سواء عن قصد أو غير قصد، عبر السخرية من الأقليات أو النِّساء أو كبار السن، أو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة. وهذه النكات التي تُقدَّم على شكل تمثيل كوميدي، على الرَّغم أنَّها قد تُظهر بوصفها فكاهة أو تسلية، تنمي الانحيازات والكراهية في النُّفوس، وتجعل الجمهور يقبل سلوكيات مسيئة باعتبارها "مضحكة" أو "مقبولة".
3. تستخدم بعض المسلسلات والمسرحيات التَّلاعب النَّفسي لإضحاك المشاهدين، عبر تقديم مشاهد مبالغ فيها أو مؤذية، بهدف إثارة الضحك على حساب الآخرين، سواء كانوا شخصيات حقيقيَّة أو رمزيَّة. وهذا يشبه المزاح الذي يجرّأ على الممازح ويستخف به، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام)، ويؤثِّر سلبًا على حسِّ التَّعاطف والاحترام المتبادل.
4. قد تُشجِّع هذه الأعمال على التَّخلي عن المسؤوليَّة عن الأخطاء والسلوكيات الخاطئة، من خلال تحويل كلِّ شيءٍ إلى مادة فكاهيَّة، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو المجتمع. فيضحك النَّاس على الأخطاء، ويقبلون الأعذار الواهية، ما يضعف قيمة المسؤوليَّة والمحاسبة ويقوّض الانضباط الأخلاقي.
5. يمكن أن تؤدِّي الإفراط في الفكاهة، سواء من الذَّات أو الآخرين، إلى الإضرار بالصحة النَّفسيَّة، مثل الاكتئاب والقلق، وتشويه العلاقات الاجتماعيَّة. كما يحدث أحيانًا في بعض المشاهد الكوميديَّة التي تجعل الشَّخص يبدو أقل شأنًا أمام الآخرين، وتزرع شعورًا بالإهانة، على الرَّغم من أنَّها تبدو للآخرين "مرحة".
لذلك، من الضَّروري التَّمييز بين الفكاهة الهادفة التي تُدخل السرور على القلوب وتبعث في النفوس التفاؤل، وبين الفكاهة الهابطة في بعض الأعمال الإعلاميَّة والفنيَّة، التي تتجاوز حدود الأدب والذَّوق العام، فتُفسد الذَّوق وتُضعف القيم الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة.
إنَّ الحدود في المزاح والفكاهة درعٌ واقٍ يحمي النَّفس والعلاقات والمجتمع من أضرارٍ خفيَّة قد لا يُدركها المشاهد إلَّا بعد فوات الأوان. وقد ضرب الإمام زين العابدين (عليه السلام) أروع مثال في السموّ الأخلاقي وضبط النَّفس أمام الاستفزاز، كما رُوي عن الإمام الصَّادق (عليه السلام) أنَّه قال: "كانَ بالمدينةِ رجلٌ بطَّال يضحك النَّاس منه، فقال: قد أعياني هذا الرَّجل أن أضحكه - يعني عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) - قال: فمرَّ عليٌّ (عليه السلام) وخلفه موليان لهُ، فجاءَ الرَّجلُ حتَّى انتزع رداءه من رقبتهِ، ثمَّ مضى، فلم يلتفت إليه عليٌّ (عليه السلام)، فاتبعوه وأخذوا الرِّداء منهُ، فجاءوا بهِ فطرَحوهُ عليهِ، فقال لهم: منْ هذا؟
فقالوا له: هذا رجل بطال يضحكُ منه أهلُ المدينة.
فقال: قولوا له: إنَّ لله يومًا يخسرُ فيهِ المبطلونَ" (28).
المحور السَّادس: أحكام شرعيَّة حول المزاح.
إنَّ الأحكام الشَّرعيَّة المتعلقة بالمزاح لم تُشرَّع عبثًا؛ بل جاءت لتضع لهذا السُّلوك الجميل ضوابط تحفظ روحه وتمنع انحرافه عن مساره التَّربوي. فالمزاح في نظر الإسلام هو فنّ أخلاقي يجب أن يُمارس في إطار من الأدب والاحترام. ومن هنا جاءت التَّشريعات لتوازن بين حاجة الإنسان إلى السُّرور، وبين واجبه في حماية كرامته وكرامة الآخرين. فكما أنَّ الشريعة ترعى أدقّ تفاصيل حياة الإنسان، فقد أولت اهتمامًا أيضًا لما قد يراه البعض بسيطًا أو عابرًا، كالمزاح، لما له من أثر بالغ في بناء العلاقات أو هدمها، وفي تهذيب النَّفس أو انحرافها.
ومن هذا المنطلق، جاءت فتاوى سماحة المرجع الدِّيني السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظلّه) لتُبيّن بوضوح المعايير الشَّرعيَّة للمزاح المشروع، وتضع حدودًا تضمن أن يبقى وسيلةً للأنس لا للإثم، وللمودَّة لا للإساءة.
ومن بين الأسئلة التي وُجّهت إلى سماحته في هذا المجال:
- هل يجوز للرَّجل أن يلاطف أو يمازح أو يضحك مع الخادمة التي تعمل في بيته؟
- هل يجوز المزاح بينَ الرَّجل والمرأة الأجنبية عبرَ وسائل التَّواصل الحديثة (كالواتساب وغيره)؟
- هل يجوز ممازحة المرأة الأجنبية كالزَّميلة في العمل -مثلًا-؟
فأجاب سماحته (دام ظله):
الجواب: ينبغي اجتنابه لما جاء في الحديث الشَّريف من أن محادثة المرأة والرَّجل الأجنبيين من مصائد الشَّيطان والعياذ بالله (29).
- ما حكم المزاح (عمل المقالب) مع الأصدقاء أو غيرهم، والذي يصل إلى حد تخويف وترويع الطَّرف الاخر؟
الجواب: مع كون المزاح لم يراع فيه الموازين الشَّرعية ومريبًا أو فيه ضررًا بالغًا فهو حرام (30).
وهذه الأحكام الشرعيَّة واضحة جدًا في توجيه سلوك المؤمنين نحو المزاح المشروع والآمن، وهي تنسجم تمامًا مع ما ذكرناه سابقًا من شروط المزاح وفوائده وأضراره. ويمكن تلخيص بعض الفوائد على هذه الأحكام الشرعيَّة:
أوَّلًا: المزاح بين الرَّجل والمرأة الأجنبيَّة سواء في البيت أو في العمل أو عبر وسائل التَّواصل الحديثة، محظور شرعًا ويُعد من مصائد الشَّيطان. وهذا الحكم يعكس حكمة الإسلام في الحفاظ على حدود العلاقات بين الجنسين، وحماية الأفراد من الانزلاق إلى ما يضر بالحياء أو يفتح الباب للشبهات. فالمزاح المشروع يجب أن يكون ضمن حدود الشَّرع والآداب، بعيدًا عن أي تلاعب أو إغراء.
ثانيًا: المزاح الثَّقيل أو المقالب التي تصل إلى تخويف الآخرين محرَّم شرعًا؛ لأنَّه يتجاوز حدود المرح البريء إلى الإيذاء النَّفسي والجسدي. وهذا النَّوع من المزاح يخالف ما أرشد إليه أهل البيت (عليهم السلام)، بأنَّ الهدف من المزاح يجب أن يكون إدخال السُّرور لا التَّسبب بالضَّرر أو إذلال الآخرين.
وباختصار، فإنَّ هذه الأحكام تؤكد أنَّ الحدود الشرعيَّة هي حماية للنفس والمجتمع من الأذى، وتوجيه للمزاح ليكون وسيلة للتواصل الإيجابي والبهجة الصَّادقة، لا أداة للإساءة أو الانزلاق إلى المحرَّمات.
ومن كلِّ ما سبق يظهر لنا أنَّ المزاح فنّ يجمع بين الأدب والخلق الحسن. فهو جسر يقرّب القلوب، ونسيم ينعش النُّفوس، ووسيلة لزرع المودَّة بين النَّاس من دون المساس بالهيبة أو الاحترام. وأمَّا المزاح المفرط أو الخارج عن حدود الشَّرع والأخلاق، فيتحوَّل إلى أداة للضرر النَّفسي والاجتماعي، ويزرع القسوة والضَّغائن ويضعف الرَّوابط الإنسانيَّة.
فلنجعل مزاحنا وسيلةً للبهجة، وضحكاتنا جسورًا للتقارب، ولْنغرس في نفوسنا ومحيطنا جوهر المزاح الحقيقي: لطف يزدان بالحكمة وفرح يترك أثره العميق في القلب قبل أن يُرسم على الوجوه.



اضف تعليق