بين تعريب الأجهزة الذكية وتغريب المبادئ العربية، يقف المجتمع العربي على مفترق طرق، يمكن أن يكون التعريب فرصة لإعادة بناء الهوية الثقافية والقيمية باستخدام أدوات العصر الرقمي، أو يتحول إلى مجرد استهلاك تقني لا يرتبط بهوية المجتمع، أن القرار اليوم مرتبط بمدى وعي المجتمعات العربية وقدرتها على الموازنة بين الحداثة والاصالة...

في عصر التكنولوجيا الرقمية والتطور السريع للأجهزة الذكية، تواجه المجتمعات العربية تحديًا مزدوجًا بين تعريب التكنولوجيا الحديثة ليصبح الوصول إليها سهلاً ومناسبًا للغة والمفاهيم العربية، في مقابل استمرار تغريب المبادئ والقيم العربية الأصيلة التي تشكل هوية المجتمع وروحه، هذه الظاهرة تعكس تناقضًا بين التقدم التقني والتحولات الثقافية والاجتماعية التي يمر بها العالم العربي.

فقد شهدت السنوات الأخيرة جهودًا واضحة لتعريب أنظمة التشغيل، التطبيقات، والمساعدات الذكية، مما سمح لعدد كبير من المستخدمين العرب بالاستفادة من التكنولوجيا الحديثة بلغتهم الأم، وهذا التعريب عزّز من فرص التعلم، العمل، والتواصل، وساعد على إدخال العالم الرقمي إلى عمق المجتمع العربي، وجعل التكنولوجيا جزءًا من الحياة اليومية.

ولكن وعلى النقيض من ذلك، تعيش المجتمعات العربية حالة من التغريب الثقافي والقيمي، حيث تستخدم الاجهزة الذكية في انتشار قيم وسلوكيات غريبة غير متجانسة مع القيم العربية الإسلامية الأصيلة، وتقلّ من مكانة العائلة والجماعة والتقاليد الاجتماعية والتكافلية أمام الفردانية والمادية، وتزداد حالات التبعية الفكرية والإعلامية التي تقلل من قدرة المجتمعات على الاحتفاظ بهويتها.

وعليه نلحظ تباين بين التقدم التقني والتراجع الثقافي فالتقنية تعبر الحدود بسرعة، وتنتشر بسهولة عبر الترجمة والتعريب، ولكن القيم تحتاج إلى بناء مجتمعي وتربوي طويل المدى للحفاظ عليها، وهي أكثر هشاشة أمام تأثيرات العولمة والتغيرات الاجتماعية، هذا التباين يسبب شعورًا بعدم الاتزان بين ما هو متقدم تقنيًا وما هو متراجع ثقافيًا، وهو ما يُسمى أحيانًا بـمفارقة الحداثة في المجتمعات العربية.

وعليه نكون أمام نتائج عن هذا التناقض ظهور فجوة بين الأجيال، فنحن مع جيل من الشباب يتفاعل بسهولة مع الأجهزة الذكية والتقنيات، لكنه أحيانًا يبتعد عن القيم والمبادئ، كم أن هنالك تراجع في الحوار الثقافي وصعوبة في التوفيق بين متطلبات العصر وضرورة الحفاظ على الهوية، وانتشار مظاهر غريبة على المجتمع العربي مثل الفردانية المفرطة والاستهلاك الزائد، والتغيرات في نمط العلاقات الاجتماعية.

يمكن مواجهة هذا التحدي من خلال تعزيز التعليم القيمي والهوية وتطوير مناهج تربوية تعزز القيم العربية الأصيلة بجانب التعليم التقني، ودمج التقنية بالقيم لابتكار محتوى تكنولوجي وترفيهي يعكس الثقافة العربية والإسلامية، ويشجع على الالتزام بالقيم، كذلك في الوعي المجتمعي والإعلامي وتوعية المجتمعات بخطورة التغريب الثقافي وأهمية الهوية في زمن العولمة، بالإضافة إلى توظيف التكنولوجيا لخدمة القيم واستخدام الأجهزة الذكية والتقنيات الحديثة لنشر الثقافة والقيم، مثل التطبيقات التعليمية والدينية.

ختامًا- بين تعريب الأجهزة الذكية وتغريب المبادئ العربية، يقف المجتمع العربي على مفترق طرق، يمكن أن يكون التعريب فرصة لإعادة بناء الهوية الثقافية والقيمية باستخدام أدوات العصر الرقمي، أو يتحول إلى مجرد استهلاك تقني لا يرتبط بهوية المجتمع، أن القرار اليوم مرتبط بمدى وعي المجتمعات العربية وقدرتها على الموازنة بين الحداثة والاصالة، وبين التقنية التكنولوجية والقيم الإنسانية الأصيلة.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، استاذة في جامعة كربلاء

اضف تعليق