ما يحدث على الساحة السياسية في العراق يعكس حالة تأهب إعلامي وسياسي ونفسي لصد اندفاعة القوى الإقليمية التي تسعى للحلول محل إيران، ولو جزئياً، من خلال أدوات إعلامية وتحالفات انتخابية تكتيكية تستغل حاجة بعض القوى للدعم، وربما للمال السياسي، بهدف تعظيم الحظوظ الانتخابية وتغيير المعادلات تدريجياً...
يتحدث بعض العراقيين عن مشروع سياسي تركي-قطري يتحرك بقوة في العراق هذه الأيام. وتبدو أولى علاماته من خلال دخول البلدين على خط الانتخابات البرلمانية المقبلة في تشرين الثاني، بهدف إحداث تغيير في الخارطة السياسية، استجابةً لفكرة ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الإيراني، نتيجة التغيرات الجيوسياسية التي فرضتها تداعيات حرب غزة، وسلسلة الانكسارات التي شهدتها المنطقة. لكن هل يوجد بالفعل مشروع تركي- قطري متكامل في العراق؟
ربما ليس من السهل الجزم بوجود “مشروع متكامل”، لكن ثمة مؤشرات واقعية تدعم فرضية وجود تحرك مشترك، تُعضّده جهود ثنائية نشطة تعمل على احتواء المتغيرات في أكثر من بلد عربي، في استثمار مباشر لما جرى في سوريا.
لا شك أن تركيا وقطر ترعيان النظام السياسي الجديد في سوريا، وتسعيان لتأهيله وتقويته وتوسيع دائرة قبوله عربياً ودولياً. ووفقاً لرأي بعض الخبراء، فإن رؤية الدولتين تأتي ضمن مساعي أنقرة لملء الفراغ، الذي خلّفته إيران بعد الضربة المؤلمة التي تعرضت لها في سوريا ولبنان والعراق وسائر المنطقة.
تراجع النفوذ الإيراني في العراق يبدو نتيجة طبيعية للتراجع الإقليمي العام، وتجلياته كثيرة، منها بروز أصوات عراقية باتت تتحدى الرؤية والمشروع الإيراني، الذي استند طوال السنوات الماضية إلى مظلة “المقاومة” بمزيج شيعي- سني، ذي طابع أيديولوجي صراعي ضد أمريكا وإسرائيل. هذه الاستراتيجية تعرضت لانكسار كبير، في وقت نجح فيه الأتراك بترسيخ مشروعهم السياسي والعسكري في سوريا، ما شجعهم على التمدد أكثر عبر جماعات عراقية محلية مناوئة لإيران.
وقد لوحظ مؤخراً تصاعد في النبرة الطائفية، وتنامي الدعوات لتغيير سياسي في العراق لصالح مشروع سني موازٍ للمشروع الشيعي الذي قادته إيران. الإغراء الذي تولد بعد انهيار النظام في سوريا، وسيطرة تنظيمات ذات توجه سلفي-عسكري على مفاصل الحياة هناك، أيقظ أحلامًا مشفوعة برؤية سياسية جديدة، تعمل على الدفع بمشروع موازٍ، مستفيدة من الحراك الانتخابي العراقي والتحالفات العابرة للطوائف، لتضع تركيا وقطر في موقع نفوذ قوي، خصوصاً مع رعايتهما لقوى “الإسلام السياسي السني”، التي تعرضت لضربات قاسية، كان آخرها في الأردن.
رغم خسارات قوى الإسلام السياسي (السنية والشيعية) بعد تداعيات حرب غزة، وانهيار “نظرية وحدة الساحات”، إلا أن التنافس الإيراني- التركي لم يهدأ، بل تصاعد وفق حسابات معقدة. هذا التنافس لن يتوقف، رغم استقرار العلاقات الرسمية بين البلدين، لأن سياساتهما المتقاطعة توحي بأن الأتراك مرتاحون لما يجري، ويسجلون نقاطاً على حساب إيران.
فأنقرة نجحت في تثبيت نفوذها في سوريا بعد تفاهمات غير معلنة مع تل أبيب، رغم الخلافات الإعلامية. والمفارقة أن من يقود مهمة التنسيق لتقاسم النفوذ بين تركيا وإسرائيل هي جمهورية أذربيجان “الشيعية”، ما يفتح الباب لقراءة مغايرة للانقسامات المذهبية.
جميع دول المنطقة اليوم في سباق متسارع لتثبيت مواضع نفوذها استعداداً للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة جني الأرباح للبعض، وحساب الخسائر للبعض الآخر. المنطقة بأسرها تشهد تحولات جذرية، فكما هو الحال في سوريا، يشهد لبنان بدوره حركة داخلية متسارعة لترتيب البيت السياسي، من خلال تحرك متناغم تقوده الولايات المتحدة والسعودية، فيما باتت إيران خارج دائرة التأثير هناك. حتى أن سفيرها في بيروت، مجتبى أماني، طُلب منه عدم التدخل في الشأن اللبناني، لأنه كتب تغريدة تُحذّر من دعوات نزع سلاح “حزب الله”.
يبدو أن الوقت قد حان لاستثمار هذه المتغيرات في العراق مع انطلاق الاستعدادات لبناء التحالفات الانتخابية. فالتغيير المنشود لن يكون ممكنًا إلا عبر الآليات الديمقراطية. المعركة على العراق تاريخية وستبقى ساخنة، لأهميته الجيوسياسية وكونه ساحةً رئيسة للاستقطاب الإقليمي والدولي.
هذا التغيير المتسارع في العراق، تغذيه أيضاً سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء من خلال استخدام “العصا والجزرة” أو سياسة “حافة الهاوية” مع إيران، خصوصاً بعد استئناف المفاوضات حول الملف النووي، أو من خلال إضعاف حلفاء إيران عبر ضربات عسكرية وعقوبات مستمرة، كما هو الحال في اليمن، بهدف تقليص مساحة النفوذ الإيراني إلى أدنى مستوى ممكن.
قوى الإسلام السياسي، التي تعيش اليوم لحظات حرجة وتتعرض لهجمات قوية، تجد نفسها مضطرة إلى التراجع والتأمل في المستقبل. أما المحسوبون على تركيا، فيشعرون أنهم أمام لحظة مفصلية لا يريدون تفويتها. في حين يعيش المحسوبون على إيران مرارة التراجع، وهم في طور إعادة التموضع، وقد يكون التأقلم مع المستجدات السياسية أحد أبرز ملامحه، يتجلى ذلك في مساعٍ للاندماج بالمؤسسات الرسمية، وبلورة استراتيجية إعلامية جديدة تهدف إلى بناء وعي جماهيري يتماهى مع التحولات الجارية.
ما يحدث على الساحة السياسية في العراق يعكس حالة تأهب إعلامي وسياسي ونفسي لصد اندفاعة القوى الإقليمية التي تسعى للحلول محل إيران، ولو جزئياً، من خلال أدوات إعلامية وتحالفات انتخابية تكتيكية تستغل حاجة بعض القوى للدعم، وربما للمال السياسي، بهدف تعظيم الحظوظ الانتخابية وتغيير المعادلات تدريجياً. ولهذا السبب يُفهم تصاعد خطاب بعض الزعامات، ولهجة بعض القنوات، وحالة الاستنفار الطائفي، وتسريبات حرب الظل، وخطابات التصعيد.
كل ذلك لا يجري في العراق وحده، بل يأتي ضمن مشهد إقليمي شامل، تفرضه ارتدادات حرب غزة، ومضاعفاتها. فليس من أحد بمنأى عن “عاصفة التغيير”، التي تضرب المنطقة.
اضف تعليق