تحتاج القبائل والعشائر العراقية، بل وجميع العصبيات الأخرى، لتعيد تعريف نفسها ودورها في بناء الدولة والمجتمع الى وجود القيادة السياسية الصالحة القادرة على تزويد الناس بحلم ورؤية جديدة ضمن مشروع حضاري ينهض بالأفراد والجماعات لتنصهر فيه هوياتهم الفرعية دون الغاء، وتنصب عليه جهودهم ليتسابق الجميع في الوصول اليه...

ان حفاظ القبيلة والعشيرة على دورها وتأثيرها الإيجابي، بحاجة الى إيلاء الموضوع عناية تامة؛ لأهميته وضرورته، الا ان السير في هذا الطريق النبيل يتطلب بذل جهد اجتماعي وحكومي طويل ومستمر. ومن المقترحات المفيدة لتحقيق هذا الهدف، ما يلي: 

أولا- عبرة من الماضي.

من المعلوم ان الانسان كلما رجع الى الوراء في الزمن يكون أكثر التصاقا بقبيلته وعشيرته وسائر روابطه الأولية، ولكن التاريخ يكشف لنا ان هذه الروابط استُثمرت في بعض التجارب بطريقة جيدة ساهمت في تعزيز البناء الحضاري للمجتمع. ومن ابرز هذه التجارب تجربة قبيلتي الاوس والخزرج، فكلا القبيلتين كانتا قبل الإسلام غارقتين في الثارات والصراعات المدمرة فيما بينهما، ولكن بمجرد دخولهما في الإسلام تحول حالهما بشكل كبير، حيث توقفت الصراعات، وحل السلام والاخوة والتعاون محل العداء والتقاطع والفرقة، بل اصبحتا رأس رمح في بناء دولة المسلمين الأولى، حتى قيل عنهما: "كان مما صنع الله لرسوله أن هذين الحيين: الأوس والخزرج من الأنصار كانا يتصاولان مع النبي تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن النبي غناء الا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند النبي في الإسلام حتى يوقعوا مثلها، واذا فعلت الخزرج شيئا، قالت الاوس مثل ذلك".

والسؤال المهم هنا هو: ما الذي حصل ليتحول دور الأوس والخزرج من مظهره السلبي قبل الإسلام الى مظهره الإيجابي بعد الإسلام؟ 

ان الذي حصل هو وجود القيادة الصالحة التي تقود الناس وتكتسب ثقتهم، ووجود المشروع الحضاري الذي تذوب فيه العصبيات الفرعية، وتتحول الى أدوات فاعلة في إنجازه وتحقيق أهدافه.

وعليه، تحتاج القبائل والعشائر العراقية، بل وجميع العصبيات الأخرى، لتعيد تعريف نفسها ودورها في بناء الدولة والمجتمع الى وجود القيادة السياسية الصالحة القادرة على تزويد الناس بحلم ورؤية جديدة ضمن مشروع حضاري ينهض بالأفراد والجماعات لتنصهر فيه هوياتهم الفرعية دون الغاء، وتنصب عليه جهودهم ليتسابق الجميع في الوصول اليه، كما تسابقت الاوس والخزرج في ظل القيادة النبوية، وقد يكون مشروع بناء العراق الحر القوي واحدا من المشاريع التي تحتاج الى بلورة وانضاج ليلتف حوله العراقيون، وهذه مهمة القوى السياسية والنخب المثقفة وهي المسؤولة عنها بالدرجة الأولى. 

ثانيا- وحدة القضاء العشائري. 

ونقصد به توحيد ما تسميه القبائل والعشائر بالـ(سواني) التي هي عبارة عن قانون عرفي يفصل بين الافراد والجماعات الذين لا يرغبون بحل منازعاتهم امام المحاكم الرسمية، ويتضمن فوائد جمة في تحقيق السلام وتطييب الخواطر بين الخصوم، ولكن ما يؤخذ عليه ثلاثة امور: 

الأول- انه غير موحد، اذ يختلف من منطقة جغرافية الى أخرى، بل وداخل المنطقة الجغرافية الواحدة نفسها.

الثاني- انه غير ملزم، ويتوقف تطبيقه على قبول الأطراف المتخاصمة.

الثالث- انه -أحيانا- غير عادل، ويخضع للانتقائية، بحيث ان نفس الجريمة التي تكون ديتها مليون في مناسبة ما، تصبح مائة مليون او أكثر في مناسبة أخرى، اعتمادا على شخصية الخصم، ومدى قوته او ضعفه.

وهذه الأمور الثلاثة تُضعف قوة واحترام القضاء العشائري، وتخلق ارباكا وفوضى، فضلا عما ينتج عن ذلك من اضرار على وحدة المجتمع. لذا يُفترض ان تبادر الزعامات العشائرية الى إيجاد حل لهذا الموضوع، بالعمل على توحيد القضاء العشائري في عموم العراق، او على الأقل تقسيم البلد الى مناطق جغرافية محددة يكون لكل منها قضاء عشائري خاص بها، وتكون احكامه مكتوبة ومعلنة ويعرفها الجميع داخل المنطقة الجغرافية وخارجها، كما يتساوى امامه الجميع، فيعرف كل فرد الجزاء العرفي المفروض على الجرائم من جانب، ولا يشعر بالظلم عند تطبيق هذا الجزاء سواء كان جانيا ام مجنيا عليه.

 ولا يقتصر توحيد القضاء العشائري على جهد الزعامات العشائرية فقط، بل هناك -أيضا-حاجة ملحة لوجود جهد حكومي داعم، وربما يكون إيجاد محاكم خاصة تعنى بالقضاء العشائري، كما كان معمولا به في ظل المادة (87) من القانون الأساس لسنة 1925 خطوة حكومية مهمة لتوحيد القضاء العشائري وضمان تطبيقه بعدالة وحزم.

ثالثا- تجنب الانقسام والتشظي.

 تكمن قوة القبيلة او العشيرة في وحدتها، ولكن ما يؤسف له ان هذه الوحدة تتعرض للخطر مؤخرا؛ لأسباب كثيرة يرتبط معظمها بقضية الزعامة، فيما يرتبط البعض الاخر بأسباب سياسية ناجمة عن اختلاف الولاءات السياسية داخل القبيلة او العشيرة، فضلا عن اختلاف توجهات الأجيال الشابة عن توجهات الإباء والاجداد.

لقد جعل هذا الحال الكثير من الزعامات العشائرية تنظر له كأمر طبيعي، ولكن الواقع هو انه حالة مرضية تتطلب معالجة، ومعالجتها تقترن بأمرين: 

الأول- وضع عرف ثابت وصارم في تولي الزعامة من قبل قيادات القبائل والعشائر العراقية، بحيث ان أي مدعي باطل للزعامة يواجه بالرفض وعدم القبول الاجتماعي، إضافة الى عدم ربط متطلبات الزعامة بشروط المال والسلطة فقط، بل لابد من الاهتمام بشروط الاستحقاق والحكمة. 

والثاني- قيام الحكومة العراقية بمتابعة هذا الموضوع وتحديد جهة رسمية تدقق أسماء الزعامات العشائرية، وفقا لشروط محددة، بحيث أن أي طرف مخالف لهذه الشروط يتعرض للمساءلة والمحاسبة.

رابعا- أقل سياسة وأكثر اجتماعا.

 والمقصود بذلك هو ان القبيلة او العشيرة هي وحدة اجتماعية ثابتة ومستمرة، بينما السياسة متغيرة ومتقلبة، ومن مصلحة الأولى عدم الوقوع في اغراء الثانية فتتحول من الثبات والاستمرار الى التغير والتقلب، فيصيبها ذلك بداء قاتل يحد من قدرتها في القيام بدورها. وهذا يقتضي من زعماء القبائل والعشائر العراقية التفرغ أكثر لشؤون قبائلهم وعشائرهم والقيام بالدور المتوقع منهم اجتماعيا، وعدم تبديد طاقاتهم في أمور سياسية تبعدهم عنها وتزيد من تشتتها وانقسامها.

خامسا- تفعيل الدور الإيجابي للمجلس العشائري.

ويتحقق هذا الهدف من خلال جعل المجلس العشائري مدرسة حقيقية لتعلم القيم الإيجابية المتوارثة، والتنبيه على المشاكل الاجتماعية الطارئة وسبل حلها، وإيجاد مبادرات للربط بين أجيال الماضي والاجيال الجديدة، لاستعادة دور هذا المجلس في جذب الافراد اليه، وعدم اقتصار حضورهم فيه على المناسبات المتباعدة او عند الحاجة لحل النزاعات والمشاكل.

هذه المقترحات الخمسة وغيرها هي المقترحات هي حصيلة تأمل ومراقبة مستمرة من قبل كاتب هذه السطور لوضع القبيلة والعشيرة العراقية، ولكنها -قطعا-بحاجة الى دراسة وتطوير واشتراك اكبر عدد من الأطراف ذات العلاقة في النقاش بشأنها، لتفعيل دور القبيلة والعشيرة في بناء مجتمع عراقي قوي ومتماسك على مستوى القيم والسلوك. 

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

..........................................

- للاطلاع على القسم من المقال:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/42196

اضف تعليق