بعكس ما يعتقده الكثيرون في العراق، فليس للعراق أي أولوية في سلم اهتمامات الإدارة الأمريكية الحالية. وعلى الرغم من الرضا العام عن حكومة السوداني وأدائها في أوساط الرسميين الأمريكان-للآن على الأقل- الا أن هناك ملاحظتين مهمتين. الأولى هي أن هناك تغييرات قادمة في المناصب الرسمية المؤثرة في السياسة الأمريكية في المنطقة عموماً ومنها العراق...
بعد أن حرمني خطاب القائد الضرورة الذي أمتد -كالعادة- لساعتين أو أكثر في الليلة السابقة من متابعة مباراة دوري أبطال أوروبا، قلت لزميلي في الكلية التي كنت أدرس فيها في صباح اليوم التالي: لقد حرمني خطاب القائد من متابعة المباراة ليلة أمس. فوضع بسرعة سبابته على فمه مشيراً الى صورة القائد قائلاً: يمعود نصي صوتك لا يسمعونا وننحبس!!
تذكرت هذا المشهد في أول يوم لي في واشنطن في الأسبوع الماضي حيث كل الأصوات تنخفض عندما تأتي سيرة القائد بالسلب، في حين أنها ترتفع حينما يكون الكلام بالإيجاب عما أحدثه ترامب من ثورة كبرى في طريقة عمل الإدارة الأمريكية في الداخل والخارج.
منذ 2004 زرتُ واشنطن عشرات المرات لكنها المرة الأولى التي اشهد فيها مثل هذه الأجواء المشحونة بالضبابية والخوف من المستقبل والإستقطاب الشديد بين مناصري الإدارة الجديدة ومعارضيها، والذي يشبه كثيراً الإستقطاب الطائفي عندنا فيما يتعلق بالمشروع السياسي الذي يقود البلد. نعم كنتُ أشاهد والمس تصاعد الإستقطاب الجمهوري-الديموقراطي في واشنطن وبين أوساطها النخبوية، لكنه بات إستقطاباً ترامبياً-لا ترامبي من جهة وانتقل من النخب الى المستوى الشعبي من جهة أخرى. فحتى سائقو التاكسي باتوا مستقطَبين وغير متأكدين مما يحصل حولهم.
بعد أن أنهيت محاضرتي في معهد واشنطن عن الرأي العام العراقي والسوري تجاه ما يحصل في منطقتنا، قال لي صديقي الذي كان يرأس منطقة الشرق الأوسط في أحد أهم المنظمات الإنسانية في واشنطن، لسنوات طويلة، أنه وجميع زملائه قد تم تسريحهم دون تعويضات وباتوا لا يعرفون ماذا يخبئ المستقبل لهم. في مثل هذه الأجواء المشحونة كنتُ أبحث عن أجوبة لأسئلتي عما تنوي الإدارة الجديدة فعله في منطقتنا بخاصة وأني كنت أسمع صدى طبول الحرب بوضوح عبر منصات إعلامية مختلفة وعبر أصوات سياسية مختلفة أيضاً. وبعد نقاشات وحوارات معمقة مع باحثين ومختصين بمنطقتنا أستطيع تلخيص ما استنتجته بالنقاط ادناه:
امن قومي
1.ترامب الذي يمسك بكل خيوط اللعبة وكل تلابيب القرار لا يريد الحرب ولا ضرب ايران، وهو في ذلك قريب من الجناح الذي يقوده أبنه ومستشار الأمن القومي في أدارته. ومع أن هناك جناح آخر أكثر تشدداً يدق طبول الحرب الا أن ترامب قد أعطى التعليمات لمبعوثه (ويتكوف) للمضي قدماً لآخر مدى في سبر غور الإيرانيين ورغبتهم في تجنب الحرب.
لكن يجب على الإيرانيين أن يدركوا أن ترامب لن يطيل التفاوض من جهة، ولن يقبل بأقل من تدمير البرنامج النووي الإيراني العسكري من جهة أخرى، وأن خياره العسكري مطروح كبديل من جهة ثالثة. هنا يجب ملاحظة أن ترامب مهتم كثيراً بالحصول على جائزة نوبل للسلام ليكون خامس رئيس أمريكي يحصل عليها بعد أن كان أوباما آخر من حصل عليها في عام 2009. لذلك فسيحاول المضي بأتجاه «صفقة» تضمن له هذا الهدف أن أمكن ذلك.
يبدو أن دول الخليج العربي بلا استثناء تدفع هي الأخرى بهذا المسار السلمي للمفاوضات الأمريكية-الإيرانية. فهي تريد أن تتجنب التصعيد العسكري، لكنها تريد في ذات الوقت أن تضمن أن إيران وحرسها الثوري في المنطقة لم يعودوا يمتلكوا ذات النفوذ عبر شبكات ميليشياتهم التي تهدد أمن تلك الدول.
وبعد أن تم تحييد قوة وتأثير حزب الله في لبنان كثيراً، فأن العمل يجري حالياً على تحييد قدرات الحوثيين الآن ليس فقط لمنع تهديدهم للملاحة الدولية وهو الأهم للإدارة الأمريكية، ولكن أيضاً لمنع تهديدها لدول الخليج العربي.
بعكس ما يعتقده الكثيرون في العراق، فليس للعراق أي أولوية في سلم اهتمامات الإدارة الأمريكية الحالية. وعلى الرغم من الرضا العام عن حكومة السوداني وأدائها في أوساط الرسميين الأمريكان-للآن على الأقل- الا أن هناك ملاحظتين مهمتين. الأولى هي أن هناك تغييرات قادمة في المناصب الرسمية المؤثرة في السياسة الأمريكية في المنطقة عموماً ومنها العراق وباتجاه أكثر صقوريةً على ما يبدو مما يتطلب حذراً أشد في قادم الشهور.
أما الثانية فهي أن المهتمين بالشأن العراقي من غير الرسميين لا زالوا ينظرون للحكومة الحالية بأنها قريبة من إيران ويبنون أتجاهاتهم منها على هذا الأساس .هنا يجب على العراق أن يحسم أمره تجاه تواجد الميليشيات المسلحة خارج أطار الدولة فيه والتي لم يعد تواجدها مقبولاً في واشنطن. هذه الميليشيات هي الدليل على عدم استقلال القرار العراقي والذي يسوقه دائماً أولئك المؤمنين بتبعية العراق لإيران في واشنطن.
أما الموضوع الآخر الذي يراقبه أولئك المهتمون بالشأن العراقي في واشنطن فهو موقف بغداد من حكومة الإقليم في كوردستان وبخاصة ما يتعلق منها باستحقاقات الشركات الأمريكية النفطية العاملة في الإقليم وإعادة الضخ في الأنبوب النفطي المتوقف هناك. وبغض النظر عن مدى صحة موقف حومة بغداد أو الإقليم في هاتين القضيتين الا أن واشنطن على ما يبدو تريد حلهما بأسرع وقت.
أتخاذ قرار
أن المؤكد أن المنطقة عموماً -والعراق بضمنها- ستشهد تطورات كبرى وبوتيرة سريعة وليست بطيئة او متروية. سرعة الأحداث هذه وأهميتها تتطلبان تحديد الممكن اولاً واتخاذ القرار السريع والحاسم ثانياً. ويبدو اليوم تطبيق تعريف «أن السياسة هي فن الممكن» أكثر الحاحاً على ساسة المنطقة -والعراق- أكثر من أي وقت مضى ليس بسبب قوة أمريكا فقط ولا بسبب طبيعة قيادتها الحالية أيضاً، بل بسبب عدم وجود أطار دولي حالي يمكنه الوقوف بوجه التغيرات الحاصلة على المدى القريب.
فلا الأمم المتحدة ولا المنظمات الدولية الأخرى التي تم اختراعها لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قادرة على وقف تداعيات القيادة الأمريكية الحالية للعالم والتي لا أشك أنها ستحفز كل دول العالم ومنظماته على أعادة النظر في النظام العالمي الحالي الذي أثبت أنه لم يعد نظاماً ولا عالمياً أكثر من أي وقت مضى.
اضف تعليق