هل يكفي التمثال وحده للارتقاء بهذه الشريحة المتفانية في خدمة مجتمعاتها. بل هل تكفي كلّ تماثيل الأرض المخصصة للاحتفاء بهؤلاء الطيبين، وبضميمة كلّ ما يمكن تصوره من معالم الاحتفاء والاحتفال بهم ما لم يُضف إلى ذلك كلّه ضمان العيش الحرّ والكريم لأصحاب هذه المهنة المهمة وكذلك الأسر التي يُعيلونها...

في كثير من البلدان المتحضرة هُجر استعمال عبارة عمال النظافة منذ أمد بعيد، واستعيض عنها بعبارة (مهندسو النظافة) أو (مهندسو الصحة). وحسنًا فعلت بعض الأقلام الصحفية العراقية والعربية الرائدة حين عملت على تركيز المصطلح الجديد في الذهنية العامة للجماهير... 

وما أكثر مظاهر الاحتفاء العالمي التي (تطال) هذه الشريحة الاجتماعية المهمة، ومنها على سبيل المثال تخصيص يوم وطني محدد التاريخ لهذا التكريم. الهند مثلا تحتفل بـ (يوم مهندسي النظافة) في الثاني من تشرين الأول تزامناً مع ذكرى ميلاد المهاتما غاندي، وذلك في ضمن ما يُعرف حملة "الهند النظيفة. ويحتفل الفرنسيون بهذه المناسبة في السابع عشر من شهر تموز كل عام، وهناك أكثر من يوم واحد مخصص للاحتفاء بعيد النظافة أو الصحة في ألمانيا واليابان وغيرهما. أمّا في العراق فغالبا ما يتم الاحتفاء بمهندس النظافة أسوة بأقرانه في الأول من شهر أيّار، وهو احتفاء ذو صبغة أممية! 

وفي مدينة كربلاء ثمة تكريم لهذه الشخصية لا بدّ من التنويه به في هذا المقام، ويتمثّل التكريم المقصود بإقامة تمثال عام 2019 يعكس حبّ المجتمعي الكربلائي لأفراد هذه الشريحة الطيبة، فقد أقيم تمثال لعامل النظافة في المنطقة المعروفة بـ (فلكة سيد جودة)، وتولّى نحت هذه التحفة الرائعة رئيس جمعية النحاتين العراقية الأستاذ طه وهيب. 

كلّ ما أتينا على ذكره في السطور السابقة حسن جميل، ولكن هل يكفي التمثال وحده للارتقاء بهذه الشريحة المتفانية في خدمة مجتمعاتها. بل هل تكفي كلّ تماثيل الأرض المخصصة للاحتفاء بهؤلاء الطيبين، وبضميمة كلّ ما يمكن تصوره من معالم الاحتفاء والاحتفال بهم ما لم يُضف إلى ذلك كلّه ضمان العيش الحرّ والكريم لأصحاب هذه المهنة المهمة وكذلك الأسر التي يُعيلونها. 

قطعًا ستكون مسألة التكريم ناقصة بل فاقدة لـ (أهميتها، وضروريتها) إذا أُغفِلت الجوانب المادية والاقتصادية. وهو الأمر الذي انتبهت إليه جيدا البلدان المذكورة آنفًا باستثناء العراق – بطبيعة الحال- الذي ما يزال فيه العاملون بهذا القطاع الحيوي أبعد ما يكونون عن إحراز أبسط مقومات الحياة الضرورية منها فضلا عن الكمالية! 

وبحسب بعض البيانات المتاحة على الأنترنت فما يُدفع لمهندس (الصحة) في دولة اليابان، و(مهندس الصحة) هو المصطلح الذي يطلقه اليابانيون على عامل النظافة، أقول ما يُدفع لعامل النظافة في هذا البلد الآسيوي يبلغ حوالي ألفي دولار، وفي بعض دول أوربا الغربية يصل أجر عامل النظافة إلى ثلاثة آلاف يورو تقريبا. 

ولعل ما دفع الأوربيين بوجه خاص إلى رصد هذه المبالغ الطائلة لعمال النظافة ناتجٌ في بعض أسبابه إلى الإضرابات العارمة التي نظمتها نقابات العمال في تلك الدول اعتراضا على تدني أجور العاملين في هذه القطاعات الحيوية، وبإمكان القارئ الكريم أن يُجري بحثا سريعا في (كوكل) لمعرفة كيف تحولت أشهر عواصم القارة الأوربية إلى مدن قمامة، ونفايات تحت وطأة ما قام به عمال النظافة أو مهندسوها من أعمال (شرعية) للحصول على مطالبهم المشروعة. 

ومن هنا تجب الدعوة وبإلحاح شديد للنظر في دعم "رجال" النظافة (ذكورًا وإناثًا) في بلدنا الحبيب، وسنّ تشريعات تؤمّن لهم ولعوائلهم ما يستحقونه من معيشة (محترمة)، فضلا عن الإكثار من برامج بثّ الوعي العام لاسيما المبتكرة منها، وذات الجودة والمضامين العالية، وذلك في إطار تحسين صورة المشتغلين في حقل النظافة أو الصحة، وبحيث يغدو الوعي وعيًا راكزًا في عقول عموم الناس وقلوبهم، لا وعيّا سطحيا لا يمس جوهر الاعتقاد، وصميمه، أو وعيّا مؤقتّا موسميًا (مناسباتيا) بمعنى آخر (يجب) أنْ يظل شعور الشكر والامتنان ماثلا شاخصا في وجدان المواطنين العراقيين تجاه هذه الشخصية النبيلة، وأنْ لا يزول هذا الشعور مع زوال أيّام الاحتفاء و(شكلياتها)، وأن تنعكس مشاعر الود والتقدير انعكاسا واضحا خاصة في المستوى الاجتماعي على وجه التحديد؛ على أن المستوى الاجتماعي يتضمن تفاصيل -لا يمكن حصرها بجمل قصيرة هاهنا- سواء في المجتمع العراقي أو المجتمع العربي بأسره. 

لكنني على يقين تام بأن المتلقي اللبيب سيدرك بشيء من التأمل والتدبّر ما أعنيه بالضبط، وللـ (تفسير) بقية سأتركها لمن يشاركني في عمليات انتاج الكتابة والقراءة... 

اضف تعليق