اصدار ترامب لهذا العدد (53) من الأوامر التنفيذية خلال شهر واحد يعني أن هناك خطة معدة مسبقاً وليست آنية أو لحظية لما يريد الرئيس ترامب فعله. وهذا يعاكس الانطباع السائد بأن ترامب انفعالي وفوري في تصرفاته وقراراته، مع أن هذا لا يعني أنه يمكن أن يستمر في تلك القرارات ولا ينقضها عندما يرى مصلحة في ذلك...
لم يمض على الرئيس ترامب في البيت الأبيض سوى شهر واحد حتى أصدر 53 أمراً تنفيذياً Executive Order وبمعدل يصل الى حوالي 3 أوامر تنفيذية في كل يوم عمل. ومع أن الرئيس الديموقراطي ثيودور روزفلت يبقى -لحد الآن- صاحب الرقم القياسي الأعلى في عدد الأوامر التنفيذية التي أصدرها من بين كل الرؤساء في تاريخ أمريكا (1237 أمراً تنفيذياً وبمعدل 26 أمر شهرياً خلال ولايته الثالثة 1941-1945) الا أن ترامب سيحطم رقمه بالتأكيد أذا أستمر بهذا المعدل المرتفع جداً من الأوامر التنفيذية التي تجعلنا نتخيل أنه مصاب بإسهال تنفيذي!
فمقارنةً بسلفه بايدن مثلاً والذي وقع 162 أمراً خلال ولايته كلها فأن ترامب يكون قد أصدر في شهر واحد حوالي ربع ما أصدره سلفه في 48 شهراً! وحتى مقارنةً بولايته الأولى التي أصدر خلالها 220 أمراً تنفيذياً -منها 20 فقط خلال شهره الأول آنذاك- فأن بدايات ترامب تبدو مسرفة جداً ليس فقط في عدد الأوامر التي أصدرها، بل أيضاً في حجم الإثارة والضجة الإعلامية والعالمية التي أثارتها تلك الأوامر من جهة، وتصريحاته ولقاءاته الإعلامية من جهة أخرى خلال الشهر الأول من ولايته.
أسباب ودلالات
وتكفي هنا الإشارة لما أوردته شبكة MSN من أن 150 دولة (أي 75 بالمئة من دول العالم كلها) قد تأثرت بما أصدره وصرح به ترامب خلال الشهر الأول من ولايته!! ويبقى السؤال المهم الذي يحتاج لإجابة: ما هي أسباب ودلالات هذا الإسهال التنفيذي؟
قبل الولوج في شرح دلالات هذا الإسهال التنفيذي لا بد من الإشارة أن الأوامر التنفيذية، والتي تشبه المراسيم الجمهورية في عالمنا الثالث، هي وسيلة قانونية قوية أتاحها الدستور الأمريكي لسيد البيت الأبيض كي يستطيع إنفاذ قراراته التي تشبه القوانين في هذه الحالة وبدون الحاجة للجوء للكونغرس لإصدار قوانين تستغرق وقتاً وجهداً كبيراً.
وعلى الرغم من أمكانية تحدي هذه الأوامر بل وإيقافها من قبل القضاء كما حصل ويحصل حالياً، أو من قبل الكونغرس بمجلسَيه، الا أن ما يتيحه الدستور للرئيس من أمكانيات للمناورة السياسية لإمرار أوامره التنفيذية هي ما تجعل الرؤساء يلجئون لهذه الوسيلة بخاصة عندما يعرفون أن الكونغرس يمكن أن لا يمرر ما يقترحونه أو عندما يحتاجون لسرعة التنفيذ كما حصل مع الرئيس الأمريكي روزفلت الذي لجأ لإصدار 3721 أمراً تنفيذياً خلال ولاياته الأربعة في البيت الأبيض من 1933-1945 يوم كان الدستور الأمريكي يسمح بأكثر من ولايتين.
لكن اصدار ترامب لهذا العدد (53) من الأوامر التنفيذية خلال شهر واحد يعني أن هناك خطة معدة مسبقاً وليست آنية أو لحظية لما يريد الرئيس ترامب فعله. وهذا يعاكس الانطباع السائد بأن ترامب انفعالي وفوري في تصرفاته وقراراته، مع أن هذا لا يعني أنه يمكن أن يستمر في تلك القرارات ولا ينقضها عندما يرى مصلحة في ذلك.
كتبت مقالاً قبل عدة أيام هنا أشرت فيه الى أسلوب ترامب في أدارته السياسية والذي يعتمد على مقاربة الصفقات التجارية. فهو يتعامل مع كل حالة على حدة باعتبارها صفقة محتملة ولا يتعامل معها جميعاً ضمن رؤية استراتيجية تربط الأشياء ببعضها البعض.
صدمة داخلية
لذا يقفز هذا العدد الكبير من الأوامر التي أصدرها للآن. وبما أن المبدأ الأول لعقد صفقة هو الدراسة والتحضير المسبق لها فيبدو أن ترامب قد ذاكر درسه جيداً قبل اصدار كل هذه الأوامر التي تهدف لإحداث أثر الصدمة الداخلية والخارجية والتي تمهد لأحداث تغيير كبير وهو ما حصل، بغض النظر عن الرأي بذلك التغيير.
ان أهم التغييرات التي يود ترامب إحداثها في رأيي تقع ضمن نطاق المؤسسات البيروقراطية القوية داخل الولايات المتحدة والتي يعلم جيداً أنها ستنظّم نفسها لمقاومة هذه التغييرات التي تضر بمصالحها بخاصة بعد استحداث وزارة الكفاءة الحكومية Department of Government Efficiency تحت إدارة قطب الأعمال ايلون ماسك والذي يأمل باستقطاع وتوفير 2 تريليون دولار من خلال أعادة هيكلة البيروقراطية الأمريكية وهذا سيسبب بلا شك ضرر كبير لوزارات وأدارات قوية ومؤثرة يمكن أن تقاوم بشدة وبمختلف الطرق هذه التغييرات المرتقبة بل وتفشلها!
يبدو لي أن ترامب يستخدم أسلوب تشويش وخداع الرادار Radar Jamming من خلال إشباعه بكثير من الأهداف التي تظهر على الشاشة في محاولة لإخفاء وجهته الرئيسة والتي هي أحداث تغيير عميق في بنية النظام السياسي.
الأمريكي ومؤسساته الحاكمة القوية، وفي مقدمتها القضاء والكونغرس والمؤسسات التنفيذية النافذة . لقد أغرق ترامب فعلاً القضاء الآن بآلاف القضايا الخاصة بتلك التغييرات الجوهرية التي أوكل الأمر لماسك كي يحدثها. وتكفي الإشارة هنا الى أنه تم رفع 30 قضية رئيسة رُفعت في المحاكم الفيدرالية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية تطعن في الأوامر التنفيذية.
كما أن عدد قضايا الهجرة المنظورة في المحاكم الأمريكية أرتفع من حوالي مليوني قضية في شهر سبتمبر 2024 الى أربع ملايين قضية في شهر فبراير (شباط) الحالي!! هنا علينا هنا أن لا ننسى العبارات المعادية التي ما زال ترامب يستخدمها لوصف البيروقراطية الأميركية مثل المستنقع الذي يجب تجفيفه، والدولة العميقة وسواها من التصريحات والمواقف التي من الصحيح أنها تتسق مع آيدلوجية الحزب الجمهوري عموماً لكنها قبل ذلك تبدو مواقف شخصية عميقة يتبناها ترامب وفريقه.
ولتجنب مقاومة التغيير المتوقعة من هذه (الدولة العميقة) فأن ترامب يلجأ لخلق سحابة كبرى من الغبار الذي يمكن أن يغطي على اتجاهه الرئيس. أن قضايا مثل غزة وأوكرانيا وبنما وكندا والمكسيك لا تعدو كونها قنابل دخان كبرى تم تفجيرها بقصد أثارة الذعر العالمي وحرف الاتجاه الاعلامي عن البوصلة الحقيقية لإدارة ترامب.
هذا لا يعني أنه لا يريد شيء أو سيقبل بأي شيء في هذه القضايا، بل بالعكس فأنه يريد منها بالتأكيد الحصول على أقصى المنافع، لكنها ليست حربه الرئيسة وبالإمكان نسيانها أو التخفيف من حدتها عندما يتم تقديم ما هو مناسب له. أما قضيته الكبرى على ما يبدو فهي إحداث تغيير هيكلي عميق في الإدارة الأمريكية يبقى التاريخ يذكره بنفس الطريقة التي يذكر بها روزفلت وما أحدثه من أثر عميق في الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات 1933-1939 فيما يسمى بالعهد أو الصفقة الجديدة New Deal . وليس لدي شك في أن الأشهر القادمة ستشهد أثارة كبيرة وصراع محتدم بين توجهات ترامب (التغييرية) ومحاولات (الدولة الأميركية العميقة) ومن يرتبط بها من شركات ولوبيات قوية للمحافظة على سلطتها ومواردها ونفوذها الذي دام عقود طويلة.
اضف تعليق