تظل العقلانية في حالة صيرورة لا تعرف التوقف والثبات، وتتسم بالتغير والتحول الدائم والمتصل، ولا تسير في خط تصاعدي ثابت، أو خط تراجعي ثابت، لأن الإنسان لا يتوقف عن العودة إلى عقله، ولأن العقل يظل ينبه الإنسان دائماً بالعودة إليه، ولأنه أيضاً معرض لكثير من العوامل التي تحجب عنه...

العقلانية هي فعل العقل أو فعالية العقل، والعقل هو الذي يولد العقلانية، ولا تولد العقلانية قطعاً من غير العقل. وتشير العقلانية إلى عنصر الحركة في العقل، وتكون ناظرة إلى العقل في تجلياته وأفعاله الظاهرية والخارجية، وبالتالي فإن البحث عن العقلانية ليس بحثاً عن ذات العقل وماهيته، وإنما هو بحث عن فعله وتحققه، وكيف يظهر ويعرف عند الآخرين، وكيف يمارس دوره وفعاليته.

والعقل الذي يولد العقلانية، فإن هذا التوليد لا يحدث آلياً وطبيعياً، ومن دون مقدمات أو مؤثرات فكرية وثقافية ومعرفية، وتفسير ذلك أن جميع الناس لهم عقول، ولكن هل جميع الناس عقلانيون، ولو كانوا كذلك لما ظهرت بينهم كل هذه الحروب والصراعات المدمرة والمتوحشة، والتي يصفها العقلاء بالجنون، ولما حصلت مثل هذه الكوارث والمجاعات التي تهتك بالبشر، وكأنهم ليسوا من البشر، ولما هبطت قيمة الإنسان إلى هذا المستوى الذي تسلب فيه وتسحق كرامته وحقوقه… ولما، ولما التي لا تنتهي.

ولا يراد من هذا القول، سلب صفة العقلانية عن الإنسان، فكل إنسان له القابلية والقدرة على اكتساب العقلانية وبأعلى دراجاتها لوجود العقل عنده، كما لا يمكن تجريد الإنسان كلياً من سمة العقلانية لوجود العقل عنده أيضاً.

وبالتالي فليس هناك إنسان بلا عقلانية بالمطلق، ولكن الناس يختلفون ويتفاوتون فيها قوة وضعفاً، بمعنى أن الناس متساوون في العقل من جهة الطبيعة، ولكنهم متفاوتون في العقلانية من جهة الفعلية، والمقصود أنهم متفاوتون في درجة تنمية عقولهم وإعمالها وتجليتها.

والعقل كما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مفتتح كتابه الشهير (مقالة عن المنهج)، هو أحسن الأشياء توزعاً بالتساوي بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره.

فلا يمكن أن يكون الإنسان بهذا العقل الذي أودعه الله فيه، وبهذا العمر الطويل نسبياً، ولا يكون لديه نصيب من العقلانية، لأنه حينئذ سيفقد إنسانيته ولن يكون إنساناً، وهذا يعني أن العقلانية هي صفة نسبية بين الناس لا يتجردون منها كلياً، ولا يتساوون بها أيضاً.

وليست هذه هي العقلانية التي نقصدها في هذا المقام، والتي نقصدها هي العقلانية العالمة، الواعية بذاتها، المدركة لوجودها، المتبصرة لنورها، المتجلية بضيائها.

وتصوير أن العقلانية تشير إلى عنصر الحركة في العقل، نقصد بذلك المعنى الفلسفي لمفهوم الحركة، الذي يعني انتقال الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج، وعلى هذا الأساس فإن العقلانية لا تولد من العقل في دفعة واحدة، وبصورة فورية، وإنما في دفعات وبطريقة متدرجة.

وبفعل هذه الحركة تظل العقلانية في حالة صيرورة لا تعرف التوقف والثبات، وتتسم بالتغير والتحول الدائم والمتصل، ولا تسير في خط تصاعدي ثابت، أو خط تراجعي ثابت، لأن الإنسان لا يتوقف عن العودة إلى عقله، ولأن العقل يظل ينبه الإنسان دائماً بالعودة إليه، ولأنه أيضاً معرض لكثير من العوامل التي تحجب عنه نور العقل، وهذا ما يدركه الإنسان في داخله، ويتنبه إليه دائماً.

إن العقلانية بطبيعتها وفي نظر العقلاء والحكماء قديماً وحديثاً لا تعرف الاكتمال أو الانتهاء، وليست هناك عقلانية مكتملة، أو عقلانية بلغت درجة الاكتمال، أو وصلت حد الانتهاء، كما ليس هناك ما يمكن وصفه بالعقل الكامل بين البشر.

 ومن يدعي امتلاك هذا الوصف، فإنه برهان على نقضه، ودليل على نقصان العقل وليس على كماله أو اكتماله، لأنه عندئذ يصدق عليه إعجاب المرء بنفسه، الذي لا يرتضيه العقلاء والحكماء لأنفسهم، ويوبخون من يدعي ذلك ويستنكرونه، وينهون الناس عنه، وفي حديث للإمام علي يقول فيه (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله).

والله سبحانه اقتضت حكمته العادلة أن يقسم العقل بين الناس، وهذا ما يعرفه العقلاء وغيرهم من الناس، لكي يدركوا حاجة بعضهم لبعض، وبمنطق القرآن الكريم (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) ـ سورة الزخرف، آية 32ـ

وبالعقل يدرك الإنسان حاجته لغيره، وحاجة غيره له، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، وليس أعقل الناس من تفرد على جميع الناس بعقله، وتظاهر بينهم بوصفه أعقلهم، فهذا ليس من العقل، ولا من سيرة العقلاء والحكماء.

ومن يبلغ مرتبة رفيعة في العقلانية، وهي مرتبة سامية وشريفة لا يرتقي إليها إلا صفوة الناس، عليه أن لا يزكي نفسه (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ـ سورة النجم، آية32ـ، ومن وصل إلى مثل هذه المرتبة السامية، عليه أن يحافظ على ثباته واستقامته، لكي يشع منه نور العقلانية، ويكون قبساً، ويظل الناس يقتبسوا منه هذا النور.

وبعد هذه الإشارات، نأتي ونقول إن العقلانية كما ندركها ونتبصرها من حيث المعنى والمفهوم، هي تأكيد ما هو معقول على مستوى النظر والعمل، ونفي ما هو غير معقول على مستوى النظر والعمل، فهناك نفي، وهناك إثبات في معنى العقلانية، وتارة يتحدد المعنى في جانب الإثبات، وتارة يتحدد في جانب النفي، وجانب الإثبات يدل على جانب النفي، والعكس كذلك.

وهذا المعنى يأخذ في الاعتبار جانب العقل والمعقول من جهة، وجانب ما هو ضد العقل والمعقول من جهة أخرى، وجانب ما يتقبله العقلاء والحكماء ويقرون ويعملون به، وجانب ما لا يتقبله العقلاء والحكماء ولا يقرون ولا يعملون به، بمعنى أن العقلانية تتجلى تارة فيما يوافق العقل، وتارة تتجلى في نفي ما يناقض العقل.

ومن جهة أخرى، فإن العقلانية تتجلى تارة على مستوى النظر نفياً أو إثباتاً، وتارة تتجلى على مستوى العمل نفياً أو إثباتاً أيضاً. بناء على ما توارثه العقلاء في تقسيم العقل، إلى عقل نظري وعقل عملي، ويعرفون العقل النظري في إطار إدراك ما ينبغي أن يعلم، والعقل العملي في إطار ما ينبغي أن يعمل.

وعلى مستوى النظر تتجلى العقلانية نفياً وإثباتاً في تقبل ما يقبله العقل والعقلاء، وفي رفض ما لا يتقبله العقل والعقلاء، وفي تحكيم معايير وضوابط العقل والعقلاء، والتي تتجلى في التثبت والتبين والتروي والتذكر والتفكر والتبصر، والدوران مع الدليل أينما دار، والتمسك بالحجة والبرهان (قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين) ـ سورة البقرة، آية 111ـ وهكذا على مستوى العمل.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق