الفكرة المركزية فيها تتجلى غالبا في أن التصالح مع الآخرين ينطلق من فكرة التصالح مع الذات أولا كما أن الانتصار في ميادين التخاصم مع الآخرين -إذا لزم الأمر- إنما يتم عبر الانتصار على الذات أيضا، وأبرز الشواهد على المعنى الأخير يتجلى في مضامين حق الغريم، وحق المدعي عليك...

رسالة الحقوق وثيقة تاريخية تتضمن جملة من الأبعاد التربوية والأخلاقية وتنشد التأثير في نطاق المجتمع الإسلامي (الملتزم) بصورة رئيسية، ولكن يظل امتداد تأثيرها في نطاق ما هو أوسع من الدائرة الإسلامية، بملاحظة أن تلك الحقوق تميّزت بأسلوب الإطلاق من غير تقييد بهذا المجتمع كما في حق الجار، والغريم، والسائل، والمملوك، ونحوها ناهيك بحق غير المسلمين من المعاهدين.

 ولعلّ الاستمرار في تيسير ترجمة هذه الرسالة الكريمة وتركيز نشرها، والترويج لها في نطاق المجتمعات التي ما برحت تنظر إلى الإنسان المسلم بوصفه شخصا مجبولا على الغلظة، والعنف من شأنها المساهمة في تغيير هذه الرؤية المتعسفة، نظرا لما تضمنته بنود الرسالة الشريفة من إيجابية التفكير، والبعد عن العنف والعدوانية.

تشتمل رسالة الحقوق على خمسين حقا أحاطت إلى حد كبير بجوانب حياة الإنسان كافة، وتبتدئ بحق الله عز وجل وتنتهي بحق أهل الذمة. والرسالة وإن كان تاريخ تأليفها يمتد إلى أكثر من ألف عام لكنها ما تزال تفتح آفاقا جديدة في التشريع لاسيما في تنظيم الحقوق، والأموال، والعلاقات الاجتماعية بوجه عام.

ومُرسل الرسالة هو الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، وبقدر ما يتعلق الأمر بجملة النصوص الواردة في الرسالة الشريفة فإن الفكرة المركزية فيها تتجلى غالبا في أن التصالح مع الآخرين ينطلق من فكرة التصالح مع الذات أولا كما أن الانتصار في ميادين التخاصم مع الآخرين -إذا لزم الأمر- إنما يتم عبر الانتصار على الذات أيضا، وأبرز الشواهد على المعنى الأخير يتجلى في مضامين حق الغريم، وحق المدعي عليك، وحق المدعى عليه.

أولا: حق الغريم

يقول الإمام في هذا الحق: "وَأمّا حَقُّ الغَرِيمِ الطَّالِب لَكَ، فَإنْ كُنْتَ مُوسِرًا أَوفَيتَهُ وَكَفَيتَهُ وَأَغْنَيتَهُ وَلَمْ ترْدُدْهُ وتَمْطُلْهُ فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ -قَالَ- "مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ". وَإنْ كُنْتَ مُعْسِرًا أَرْضَيتَهُ بحُسْنِ القَوْلِ وَطَلَبتَ إلَيهِ طَلَباً جَـــمِيلاً وَرَدَدتَهُ عَنْ نفْسِكَ ردًّا لَطِيفًا، وَلَمْ تَجْمَعَ عَلَيْهِ ذهَابَ مَالِهِ وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ فَإنَّ ذلِكَ لؤمٌ ولا قُوَّةَ إلاّ باللهِ". والإمام (عليه السلام) يسوق هذا الحق، كما سائر الحقوق الأخرى بأسلوب الشرط، لما ينطوي عليه هذا الأسلوب من علاقة منطقية تربط بين مقدمات معينة ونتائج محددة.

وأبرز ما يطالعنا في سياق تحليل النصّ المتقدم أن الإمام يورد حديثا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) يجري مجرى الحجة التي تهيئ (المدين) إلى قبول النتيجة المطلوبة، وهي الوفاء بما في ذمته للدائن، ويتبع الإمام الحجة المتقدمة بحجة رديفة تسير في اتجاه تأييد الحجة السابقة، وتعضيدها، وتتمثل هذه بدعوة الغريم (المدين) إلى توخي سبيل اللطف، وانتقاء جميل القول، والتعبير عند الاعتذار للدائن بالإعسار، لا أن تركبه حميته وتحمله عصبيته على إطلاق ألفاظ العنف والمكابرة، فينتهي به الحال إلى الاتصاف باللؤم المستجلب للخزي والازدراء من الناس في مقابل حثّ (الدائن) على إسقاط الدين عن (المدين) تصدقّا عليه، ورحمةً به لينال الدائن ثواب الله، ورضاه عنه سبحانه وتعالى، وفي ذلك موازنة وعظية للطرفين ترمي إلى إحلال الوئام بينهما بدل التشاجر أو التناحر.

ثانيا: حقّ الخصم المدّعي عليك

يقول الإمام في هذا الحق: "فإن كان ما يدّعي عليك حقًا لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدّعيه باطلًا أرفقتَ به، وورّعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألغيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه وبه ويشحذ عليك سيف عداوته، لأنّ لفظة السوء تبعث الشر والخير مقمعة للشر ولا قوة إلا بالله".

وما يلفت النظر في تفاصيل هذا الحق أن الإمام أنزل حق الخصم المدعي في حال صدقه منزلة حق الله جلّ وعلا، فلا مجال للطرف المخاطب هنا للتفكير بإبطال دعوى خصمه بل الواجب عليه أن يكون خصما لنفسه شاهدا عليها، فالإذعان والتسليم يكونان حينئذ لله عزّوجل لا للطرف الدائن، وفي هذا التصوير البياني اجتماع لأسلوبي الترهيب والترغيب، فثمة ما يكسر حدة التمرد والزيغ لدى الطرف المخاطب فيدعوه للانصياع والرضوخ إذ الخصم هو الله سبحانه فإذا عصا وأبى كان السخط وكانت النقمة! وثمة ما يحفظ ماء وجه المدين كذلك فحين يكون الخصم هو الله عزّوجلّ يكون النزول على حكمه مستوجبا للأجر والمثوبة بحسب الاعتقاد الحاضر في إذهان المسلمين كافة.

أما حين يكون المدعي كاذبا، فليس من سبيل أمام المدعى عليه افتراءً وباطلا إلا التغاضي عن خصمه المفتري عليه، لا التشهير به، والاستقواء عليه كما هو ديدن أكثر المتخاصمين في معاملة بعضِهم بعضَهم الآخر؛ إذ الميل إلى تسقيط الخصم -وهذه الحالة- مسلك معتاد في نفوس البشر، قد يلقى تشجيعا وتزيينا من المحيط الاجتماعي الأمر الذي تضعف معه همة أكثر النفوس كياسة وانضباطا، وهو ما انتبه إليه الإمام، وحذّر من مغبته، فالملاسنة تستدعي الردّ بالمثل وتفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة لا طائل منها للطرفين حيث الانجرار وراء التلاسن اللفظي، وفي هذا السلوك مخالفةٌ صريحة لمنطق القرآن الذي يدعو إلى ضبط النفس، وينهى عن مقابلة السيئة بالمثل، بل يطلب مقابلة السيئة بالحسنة، وذلك مصداق قوله تعالى: (لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

ثالثا: حقّ المُدّعى عليه

يقول الإمام عليه السلام: "وأمَّا حق الخصم المدَّعى عليه، فإنْ كان ما تدَّعيه حقاً، أجملتَ في مقاولته بمخرَج الدعوى، فإنَّ للدعوى غِلظةً في سمع المدعى عليه، وقصدتَ قصد حجتك بالرفق، وأمهلَ المهلة، وأبينَ البيان، وألطفَ اللطف، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال، فتذهبَ عنك حجتك، ولا يكون لك في ذلك دَرَك، ولا قوة إلاَّ بالله".

والملاحظة التي يجدر التوقف عندها هنا أنّ الإمام سكت عن احتمال أن يكون الطرف المخاطب كاذبا في دعواه على خصمه، وهو احتمال تنبغي مناقشته، ويقتضيه منطق السياق! وأغلب الظن أن إمساك الإمام عن الاسترسال بسرد ذلك الاحتمال جاء عن عمد يوافق طبعه المجافي لتقريع السامع وتعنيفه إلا إذا اقتضت ذلك ضرورة قصوى.

وصفوة القول من كلّ ما تقدم ذكره، فإن الانتصار في ميدان المخاصمة مع الآخر يكمن في الانتصار أولا على الذات، لاسيما أنّ الخصومة داعية لإثارة نوازع النفس الشريرة، ومع الإقرار بهذه الحقيقة فإن مهمة تحقيق النصر على النفس الأمّارة بالسوء في ميدان الخصومة مع الآخرين تتقدم من حيث الأولوية على ما سواها من المصالح والاعتبارات.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق