من يفكر بالبقاء في التاريخ فإنه لا يراهن على التأثيرات السريعة والفورية والآنية والعاطفية، التي يمحوها التاريخ سريعاً، وتزول مع مرور الوقت، وإنما يراهن على التأثيرات البعيدة والعميقة والراسخة والعقلية، التي لا يمحوها التاريخ، ولا تزول مع مرور الوقت. وعلى الإنسان أن يكون واعياً وبصيراً، ويخير نفسه بين...
الأصل في الإنسان وبخلاف الكائنات الأخرى أن يبقى في التاريخ، وجاء إلى الحياة أساساً لكي يبقى في التاريخ، وهذا ليس حكماً لازماً وضرورياً بمعنى أن كل إنسان لابد له من البقاء في التاريخ على نحو البقاء الفعلي، لأن هذا البقاء لا يتحقق بفعل عامل الطبيعة الإنسانية المجردة، وإنما بمعنى أن الإنسان له القابلية والقدرة على ذلك، متى ما أراد وسعى سعيه في هذا السبيل.
والتاريخ نفسه يكشف لنا عن هذه الحقيقة، فليس جميع البشر الذين مروا على الحياة استطاعوا البقاء في التاريخ، لكن الذين بقوا فيه كانوا من البشر، ولكون هؤلاء من البشر فإن باستطاعة كل إنسان أن يكون مثلهم، ويقتفي أثرهم، ويسلك دربهم، والتعرف على هؤلاء هو الذي يفسر لنا كيف تمكنوا دون سواهم من البقاء في التاريخ.
والمقصود من البقاء في التاريخ، البقاء الذي يتغلب على المحو والنسيان والإهمال، ويستعصي على الإلغاء والإقصاء والتغييب، السببي والطبيعي والزمني. السببي الذي يرتبط بعامل القصد والإرادة ويكون الإنسان سبباً وفاعلاً فيه، والطبيعي الذي لا يرتبط بعامل القصد والإرادة، ولا يكون الإنسان سبباً وفاعلاً فيه، وإنما يرجع إلى عوامل طبيعية تكون سبباً في المحو والنسيان والإهمال، والزمني الذي يرتبط بعامل الوقت، ويظهر تأثيره مع توالي الأيام، وتقادم الزمان، وتعاقب الأجيال، حيث تكون الأيام تداول بين الناس، مصداقاً لقوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وهذا العامل هو عامل شديد الفاعلية والتأثير، ولا يكون ظاهراً ومرئياً في المحو والنسيان والإهمال.
وفي القانون الوضعي القديم والحديث يجري الحديث عن نظام التقادم وأثره في كسب الملكية وفي إسقاطها، وهكذا في مجال الحديث عن الحدود والعقوبات التي تسقط ويتغير حكمها وطريقة التعامل معها مع تقادم الزمن، وذلك في دلالة على تأثير تقادم الزمن في منطق القانون وعند المشرع القانوني.
والبقاء في التاريخ يمثل تحدياً حقيقياً ومستمراً للإنسان، فأمامه خياران لا ثالث لهما، إما البقاء في التاريخ، وإما المحو والخروج منه، والثالث مرفوع كما يقال في المنطق القديم.
وكون البقاء في التاريخ يمثل تحدياً، لأنه يتوقف على إرادة الإنسان وقدرته في إنجاز الأعمال العظيمة والخالدة، على اختلاف مجالاتها وميادينها العلمية والاجتماعية وغيرها، الأعمال التي تتجاوز الحدود الثلاثية الأبعاد، حدود الذات، وحدود الزمان، وحدود المكان. فالعمل الذي يبقى في حدود الذات ولا يصل إلى المجال الإنساني لعدم الكفاية والقدرة على ذلك، فإن هذا العمل لا يرفع صاحبه إلى منزلة البقاء في التاريخ، والعمل الذي يبقى في حدود زمانه ولا يكون عابراً للأزمنة والعصور فإنه أيضاً لا يصعد بصاحبه إلى درجة البقاء في التاريخ، حيث ينتهي بانتهاء أجله وزمنه، وهكذا حال العمل الذي يبقى في حدود المكان ويتأطر به ولا يتخطاه.
لهذا فإن الذين استطاعوا البقاء في التاريخ هم أولئك الذي قدموا للإنسانية أعمالاً عظيمة وخالدة تجاوزت حدود الذات، وحدود الزمان والمكان، ووصلت إلى المجال الإنساني، واعترفت لهم المجتمعات الإنسانية على تعدد وتنوع هوياتها وأديانها، لغاتها وقومياتها، تاريخها وجغرافيتها بهذه الأعمال الجليلة والخالدة، وظلت هذه المجتمعات تذكرهم جيلاً بعد جيل، وتتوارث الحديث عنهم اعترافاً لهم بالفضل والتفوق، وتقديراً لعطائهم واجتهادهم، وتخليداً لمكانتهم ومنزلتهم.
ومن هؤلاء علماء ومخترعون مثل الخوارزمي مؤسس علم الجبر، وجابر بن حيان مؤسس الكيمياء في الحضارة الإسلامية، وإسحاق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية، وألبرت اينشتاين واضع قانون النسبية في الحضارة الغربية وآخرين، ومن هؤلاء مفكرون وفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو في العصر القديم، وابن سينا وابن رشد في العصر الوسيط، وديكارت وكانت في العصر الحديث وآخرين أيضاً، ومن هؤلاء كذلك أدباء وزعماء ومصلحون وسياسيون مثل أولئك الذين تحدث عنهم الدكتور مايكل هارت في كتابه (المئة) الصادر عام 1978م، والذي عرف في طبعته العربية بعنوان: (المئة الأوائل)، وهي التسمية التي وردت في مقالة الكاتب المصري أحمد بهاء الدين، ولعله أول من أشار لهذا الكتاب وتحدث عنه في المجال العربي بعد صدوره، حين نشر مقالة حوله في مجلة (العربي) الكويتية، شهر ديسمبر 1978م، عندما كان رئيساً لتحريرها.
هناك من يبقى في التاريخ على أساس المدة القصيرة، إلى جانب من يبقى فيه على أساس المدة الطويلة، وهذا يعني أن البقاء في التاريخ ليس نهائياً وأبدياً بالضرورة وللجميع، فقد يرتبط بأجل ويكون قصيراً بالنسبة للبعض، وقد يرتبط بأجل طويل بالنسبة للبعض الآخر.
ويتحكم بهذا الأجل قصيراً أو طويلاً، عناصر وشروط عديدة ومختلفة، متصلة ومنفصلة، منها ما يرتبط بطبيعة البيئة ومكوناتها الاجتماعية، ومنها ما يرتبط بطبيعة الإنجاز ومستوى العمل، ومنها ما يرتبط بطبيعة الشخص نفسه وملامح شخصيته، ومنها ما يرتبط بطبيعة المجال ونوعية التخصص والاهتمام، ومنها ما يرتبط بطبيعة اللحظة التاريخية التي يظهر فيها الشخص أو يتصل بها، إلى جانب عناصر وشروط أخرى.
ولعل أفلاطون يصلح أن يكون مثالاً للمفكر والفيلسوف الذي بقي في التاريخ على أساس المدة الطويلة، وبشكل يثير الدهشة حقاً، فالإنسانية اليوم ما زالت تذكره وتتحدث عن أفكاره وكتاباته وفلسفته، وهو المولود في القرن الخامس قبل الميلاد، وكأنه أحد المعاصرين اليوم، بل وأكثر تأثيراً وشهرة من بعض المعاصرين! فكيف استطاع هذا الرجل أن يعبر كل هذا التاريخ مع ما مرت عليه من موجات متتالية من الفلسفات والديانات والأيديولوجيات الكبرى التي غيرت معها وجه العالم، وقلبت مسارات حركة التاريخ، واضمحلت فيه أمم وإمبراطوريات وحضارات حكمت وتسيدت في العالم، وظهرت مكانها أمم وإمبراطوريات وحضارات أخرى، إلى جانب تطورات وتحولات أخرى في الميادين كافة، مع ذلك بقي أفلاطون في الذاكرة الإنسانية، وحاضراً في الفكر الإنساني.
وحين تحدث عنه الدكتور مايكل هارت في كتابه (المئة) بوصفه واحداً من المئة الأكثر تأثيراً في مجرى التاريخ الإنساني، قال عنه: إن الفيلسوف اليوناني العظيم أفلاطون يمثل نقطة الانطلاق بالنسبة للفلسفة السياسية الغربية والفكر الأخلاقي الميتافيزيقي، وقد درست أفكاره وتصوراته في هذا الشأن مدة 2300 عام، ولهذا يعتبر أباً ورائداً للأفكار الغربية، وعندما قدمه على فولتير وجون لوك اعتبر الدكتور هارت أن الكتابات السياسية لهؤلاء قد أثرت على العالم مدة قرنين أو ثلاث قرون من الزمان، بينما تأثير أفلاطون استمر أكثر من ثلاثة وعشرين قرناً.
كما يصلح ابن خلدون مثالاً آخر على ذلك في المجال الإسلامي، فهو الذي عاش ما بين القرن الثامن والعقد الأول من القرن التاسع الهجري، وما زال يمثل قوة الحضور في عصرنا وبشكل يفوق وبلا قياس الكثير من المعاصرين، ولا تكاد تتوقف عنه الكتابات والدراسات وحتى الرسائل والأطروحات الجامعية، وكأنه أحد المعاصرين المؤثرين في مجال المعرفة الاجتماعية والإسلامية. والمفارقة اللافتة في هذا الشأن أن قوة حضور ابن خلدون في عصرنا تفوق ما كان عليه من حضور في عصره وما بعد عصره، ويصدق عليه وصف الذي كان خارج التاريخ لفترة، واستعاد حضوره وتفوقه في فترة أخرى، ومنها بقي في التاريخ.
وهذا يعني أن بإمكان الإنسان عبور الأزمنة والعصور مهما كانت طبيعتها والظروف والتطورات التي مرت عليها، والبقاء في التاريخ متى ما استطاع إنجاز عمل بمستوى أو يفوق ما أنجزه أولئك الذين أبقاهم التاريخ في ذاكرته مؤثرين وفاعلين، إلى جانب شروط أخرى في مقدمتها الوعي بفكرة التاريخ، الوعي الذي يجعل التاريخ حاضراً في إدراك الفرد، ومحفزاً له على إنجاز الأعمال الكبيرة التي تجعل صاحبها مذكوراً في التاريخ.
والشاهد من ذلك، إن من يفكر بالبقاء في التاريخ فإنه لا يراهن على التأثيرات السريعة والفورية والآنية والعاطفية، التي يمحوها التاريخ سريعاً، وتزول مع مرور الوقت، وإنما يراهن على التأثيرات البعيدة والعميقة والراسخة والعقلية، التي لا يمحوها التاريخ، ولا تزول مع مرور الوقت.
وعلى الإنسان أن يكون واعياً وبصيراً، ويخير نفسه بين البقاء في التاريخ، أو الخروج منه، لكي يقرر مصيره بنفسه، ويرسم طريق مستقبله، ويحدد وجهته في الحياة.
اضف تعليق