لم تكتفِ ايران باستثمار وضع الحرب الرمادية لحصد مكاسب استراتيجية جمّة، بل ضاعفت من تأثيرها باستخدام أسلوبَين عسكريَين آخرَين هما: 1) الحرب غير المتناظرةAsymmetrical war ، و2) الحرب الهجينHybrid war، هذا المزيج المتكامل من الحرب الرمادية-الهجينة-وغير المتناظرة منح إيران مزايا استراتيجية متفوقة في مواجهة خصومها...
تعد إيران من أبرز الدول التي برعت طوال أكثر من 40 سنة في ما بات يسمى في العلوم العسكرية بالحروب الرمادية Gray Zone wars والتي لا هي حروب تقليدية واضحة ولا هي سلام واضح وانما حالة من اللا حرب واللا سلم، حيث توتر وسجال أقل حدةً من الحرب الشاملة ولكنه أكثر توتراً من السلام المستقر. وتتضمن مدى واسع من الأساليب القهرية والعنيفة مثل الهجمات السيبرنيتية، والهجمات النفسية، واستخدام الوكلاء لمهاجمة العدو.
ولأن هذه الهجمات تمتاز بالسرية وعدم الاعلان عنها وكذلك سهولة تنصل الدول عن مسؤوليتها فأنها تضع صناع قرار الحرب في حيرة ليس فقط بسبب الغموض الذي يغلفها وصعوبة تحديد من يقوم بها بل للخشية من تتم المجازفة بالتصعيد وصولاً لحرب شاملة.
ولم تكتفِ ايران باستثمار وضع الحرب الرمادية لحصد مكاسب استراتيجية جمّة، بل ضاعفت من تأثيرها باستخدام أسلوبَين عسكريَين آخرَين هما: 1) الحرب غير المتناظرة Asymmetrical war والتي يتم اللجوء لها حينما لا تمتلك دولة ما نفس القدرات العسكرية التي تؤهلها لمواجهة خصومها المتفوقين (مثل أمريكا)، و2) الحرب الهجينة Hybrid war والتي تستخدم خليط من قوات نظامية وغير نظامية وأساليب عسكرية وغير عسكرية لهزيمة العدو المتفوق بالحرب التقليدية.
هذا المزيج المتكامل من الحرب الرمادية-الهجينة-وغير المتناظرة منح إيران مزايا استراتيجية متفوقة في مواجهة خصومها بما فيهم الولايات المتحدة التي تمتاز بجيش ضخم ومتفوق لكنه واهن في مواجهة أساليب الحروب هذه. كما ان هذه الاستراتيجية الإيرانية الخليطة منحت إيران ميزات استراتيجية كبرى في مواجهة خصومها الإقليميين من العرب وسواهم، وانهكتهم استخبارياً واقتصادياً وعسكرياً حتى باتت إيران اللاعب الإقليمي الأول الذي يجب استرضاؤه والتودد له في أي تحرك سياسي.
مع ذلك فقد شهدت الأشهر الماضية تهاوي كثير من أركان هذه الاستراتيجية التي باتت واهية في مواجهة الهجمات الإسرائيلية-الامريكية التي يبدو واضحاً للخبراء أنها صُممت بطريقة تتناسب مع منطق الحرب الرمادية-الهجينة-غير المتناظرة فما الذي حصل وكيف حصل؟ هذه السلسلة من المقالات تستهدف تحليل ما جرى بطريقة علمية هادئة لتفكيك ما حصل واستنباط الدروس منه.
كان نجاح الثورة الإيرانية في 1979 الميدان الأول الذي أظهر أهمية العقيدة والآيدلوجيا كمصدر قوة غير تقليدي يمكن استثماره في الحروب. وهذا ما جرى فعلاً في الحرب الإيرانية العراقية التي لم يعتمد فيها الإيرانيون على جيشهم التقليدي الذي ورثوه من الشاه والذي لم يثبت قدرته على مواجهة جيش العراق آنذاك، فتم اللجوء الى تشكيلات الحرس الثوري والبسيج واستخدام مزيج من أساليب الحرب التقليدية وغير التقليدية (كالحرب النفسية والعقائدية) والتي أثبتت فاعليتها في كثير من المعارك. ثم توسعت ايران في بناء مزيجها الاستراتيجي من القوة الذي أعتمد على:
1.شبكات الولاء العقائدي سواء داخل إيران كالحرس الثوري، أو خارجه كالميليشيات والجماعات المسلحة خارج إطار الدولة كحزب الله في لبنان. تعد العقيدة (الدينية أو السياسية أو العرقية) من أهم مقومات القوة غير المتناظرة التي يمكن توظيفها لكسب الحروب.
2.تطوير صناعة متقدمة للأسلحة التي تستخدم في الحروب غير المتناظرة كالزوارق الصغيرة والسريعة، والآليات العسكرية والدرونات وسواها من الأسلحة الرخيصة والفاعلة والتي يمكن أتناجها بأعداد كبيرة. والفكرة الأساس هنا هو استثمار التفوق العددي وليس النوعي لكسب المعارك سواء من خلال الزج بأعداد كبيرة للمعركة أو الزج بأعداد كبيرة من الدرونات أو الزوارق التي يمكن أن تربك رادارات العدو وتستنزف وسائله وقدراته الحربية.
3.اسلحة الردع الاستراتيجي كالصواريخ والقوة النووية. وهذه الأسلحة هي الملاذ الأخير للاستخدام وغالباً ما يتم استثمارها لأغراض الردع الاستراتيجي من خلال التلويح بها وهو ما أجادته إيران وحتى حزب الله في لبنان لفترة طويلة.
تقوم الفكرة الأساسية للحرب الرمادية التي اعتمدتها إيران استراتيجياً على أن النصر في هذه الحرب على الولايات المتحدة لا يتحقق بهزيمة القوات أو الجيش الأمريكي، بل من خلال «التحدي المستمر والتدريجي للخطوط الحمراء التي تضعها أمريكا على إيران أو التحايل عليها والالتفاف حولها». فمثلاً حينما تتمكن إيران من تصدير نفطها، أو الحصول على الدولار رغم العقوبات الأمريكية ودون أن تتعرض الى رد عنيف أو غير محتمل فأنها تكون قد حققت الانتصار آنذاك.
وحينما يتم التعرض الى القواعد الأمريكية في المنطقة دون أن تتعرض لعقاب شديد فأنها تنتصر. وكلما تم تحدي أو اختبار أحد الخطوط الحمراء بنجاح كلما يتم التوسع أو التدرج للأعلى في اختبارات القوة تلك. هذه الاختبارات المتتالية والمستمرة ترهق قوات الخصم لأنها تضعها في حالة تأهب دائم، وتضعف روحه المعنوية لأنه لا يتمكن من الرد كما أنها ترهق متخذي القرار السياسي فهي لا ترقى الى حالة التعرض على قواتها بما يستدعي اعلان الحرب ولكنها تضع ضغوطاً مستمرة عليه وعلى حلفاءه وعلى موارده مما قد يجعله يقبل بأي صفقة تضمن الحد الأدنى وليس الأعلى من المصالح الامريكية كما فعلت أدارة أوباما.
لقد أظهرت إيران طوال العقود الماضية خلال مواجهتها مع أمريكا قدرة كبيرة على الثبات الاستراتيجي حيث أدامت أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، لكنها أظهرت في المقابل مرونة تكتيكية تجعلها تبدو متراجعة هنا أو هناك من خلال اختبار الخطوط الحمراء الأمريكية.
فحينما تشعر إيران مثلاً أن الميليشيات التي تدعمها في المنطقة قد يتم ضربها بقسوة نتيجة قيامها بمهاجمة قاعدة عسكرية أمريكية فأنها سرعان ما تأمر تلك الميليشيات بأن تجمد عملياتها وأحياناً تقوم بتسريب ذلك إعلامياً كي يشعر الأمريكان أنهم حققوا نصراً عسكرياً دون قتال! لكن السؤال الآن: ما دامت إيران تمتلك كل هذه البراعة وهذا السجل الناجح في مواجهة خصومها الاستراتيجيين فما الذي حصل خلال الأشهر الماضية وأدى الى تهاوي استراتيجية الحرب الرمادية-الهجينة-وغير المتناظرة هذه؟ المقال القادم يجيب عن هذا السؤال.
اضف تعليق