شرعت المؤسسة السياسية بما فيها من أضلع فساد ماحق وبما تملك من مخزون مالي وقوة غاشمة ان ترسم خطوط الأخلاقية وما يجب ان يكون او لايكون، فكانت المنظومة الأخلاقية مجرد منظومة هزيلة لا تصمد امام مطارق النخب الأرستقراطية التي تدير دفة السياسة... فلم يعد لقيمة الشعوب المضطهدة من قيمة...

الواضح اننا امام عصر متغير تتشكل فيه القيم الانسانية على مزاج القوي الذي استطاع ان يجسد بطولة الافلام البوليسية ويضع سرديته الدرامية كحق مطلق لا اشتباه فيها.

السردية التي شكلت مفهوما اخلاقيا متغايرا تبعا لمنطق المتجبر الذي سحق ما تعارفت عليه البشرية من مضامين منظومة الاخلاق على وقع الحرب الدائرة في غزة ولبنان في إطار القوة والإرادة والفعل الماحق الساحق للآخر.

كثير منا علت الدهشة عقوله كلما يستمع لاستباحة اخلاقية علنية من دعاة كانوا يمثلون رمزية للعدالة والديمقراطية والتعددية... وهذه الدهشة رفعت سؤالاً عريضا: هل فعلا كانوا يؤمنون بما كانوا يبشرون به ام هو مجرد خداع وضحك على الذقون؟ وهل سنشهد تراجعا حادا وشكوكا في القيم الإنسانية بعدما انتهكت في غزة ولبنان!!! 

ثم ما مصير أساطير التاريخ الغابر الذي كتبه المنتصر هل كان فعلا نظيفا بالاحتفاظ بأصالته الإنسانية ام كان تزييفا يخفي خلفه انتهاكات مؤرقة على يد القوي الذي تربع اليوم على مسرح العالم السياسي؟

والسؤال المشروع من يملك القدرة على سيادة القيم الإنسانية من الانهيار إذا كان المتجبر يرتقي على صدرها ولا يعتد بأي مسطرة تضعها له!!!

الأخلاقية المستباحة

حتى نأخذ البحث إلى اعماق بحور متعددة علينا اولا ان نحدد ماهي مظاهر الأخلاقية المستباحة في حرب غزة ولبنان:

- القرارات الدولية التي كانت تحكم تماسك المجتمع الدولي باعتبارها تسالموا عليها بلت وشرب ماءها ولم يعد لها قيمة أكثر من قيمة الحبر الذي كتبت فيه. كان القوي يصول ويجول ويزمجر حينما توافقت مع مصالحه ويسحقها إذا انقلبت عليه نفس تلك القرارات التي كان يتبجح بقيمتها المعنوية!

- استخدمت الأسلحة المحرمة بشكل همجي غير مسبوق وفتكت بالأبرياء دون معترض وامام شاشات التصوير علنا وسرا وبدعم مطلق من قبل الغرب المتقدم والموقع اولا على حرمة استخدامها بل وكان هو الذي شحنها وتاجر بها بالمجان.

- تطويع التكنولوجيا في خدمة الجاسوسية والإجرام، حيث توحشت التكنولوجيا في الفتك بمن كان وكيفما كان، لم يعد هذا المنتج التكنولوجي وديع في نظر المستهلك الذي كان يفترض فيه تحقيق السرية والأمان، فقد حصدت دماء ابرياء بدم بارد فيما وقف العالم السرمدي وكأنه يشهد عرضا سينمائيا مبهرا!!

- ابتدعت ذرائع للقتل والتدمير والتنكيل بشكل متوحش وكارثي حيث تسابقت وسائل الاعلام على تبرئة المجرم وإعطاءه حق الانتقام بشكل همجي علاوة على وقوف النخب تصفق وتؤيد وتحث على مزيد من سفك الدماء دون اي وازع اخلاقي يوزن الأمور بنصابها الانساني.

- استباحة المال والقوة والإعلام في شرعنة كل ماهو متفق انه غير اخلاقي. فالإرهاب صار مشرعا وإفناء البشر صار ضروريا لتحقيق رغبة المجرم وخنق الغزاويين تجويعا لا غبار فيه ما دام سيكون وسيلة تركيع واغتصاب السجناء حاجة تتطلبها الضرورة. لم يعد لأي قيمة اخلاقية ان ترتقي في الهواء ما دامت لا تتناسق مع هوى السلطوي الحاكم على العالم.

- تسطيح القيم على مزاج الحاكم حيث أصبح الخنوع والتآمر والغدر والصمت على الإجرام دفاع عن الوطن وحمايته والحفاظ على مقدرات البلد من الدمار ان دخلت في معركة ليست لها ناقة ولا جمل. فيما كانت الشعوب تموج في بانيو الحاكم تقبل سرديته ونهجه بكل رحابة صدر.

- قولبة المصطلحات والمفردات بما يتسق وسردية القوي، فمصطلح الدفاع عن النفس اختبأ تحته تدمير البنى وسحق الأطفال والنساء وتهجير المدنيين وتصفيه البنية التحتية بالأرض من مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس وحرق الحرث والنسل.

- فقدت الحروب عهودها وأخلاقياتها وأعرافها الإنسانية وكان الغرب يعزف الموسيقى لراقص على جثث البشر بكل صفاقة وكأنه لم يجلس هو يضع حدود حماية المدنيين ومعاهدات ومواثيق جلب العالم للتوقيع عليها وصونها!!

المتفق عليه اخلاقيا

لسنا في صدد بحث الاخلاقيات التي تعارفت الاديان عليها وتألفت البشر على صونها ولكن تعالوا نبحر في الاخلاقيات التي اتفق عليها المجتمع الدولي وبلدان العالم سياسيا وجعلوها نصوصا في المواثيق والمعاهدات؟؟

- عدم انتهاك السرية والأمان (راجع قانون GDPR الدولي)

- عدم نكث العهود والالتزام بمعايير القانون الدولي (راجع اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الصادر سنة 1969م) وقد اكدت المحكمة الدائمة للعدل الدولي على تبنيها لمبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي “وقد اكدت ايضا محكمة العدل الدولية في حكم صادر لها عام 1932″ انه لا يمكن للدولة ان تحتج بتشريعها الداخلي لتحد من مدى التزاماتها الدولية” كما تقضي المادة 27 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 بانه: لا يستطيع طرف المعاهدة الاحتجاج بأحكام قانونه الداخلي كذريعة لعدم تنفيذ المعاهدة ”. ويعتبر الالزام شريعة المتعاقدين.

- احترام كرامة وحرية الإنسان والعمل على صونها، ففي العام 1948، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي شكّل معلمًا جذريًا في إعداد القانون الدولي لحقوق الإنسان. وفي ديسمبر 1966، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة معاهدتين دوليتين من شأنهما أن تزيدا من تشكيل حقوق الإنسان الدولية، وهما: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وغالبًا ما يشار إليهما بمصطلح "العهدان الدوليان."

- العهود الحربية الملزمة بعدم انتهاك حقوق المدنيين والفئات المهمشة وعدم تدمير البنى التحتية للمدنيين. إن بروتوكول اتفاقيات جنيف الذي تم اعتماده عام 1977 ووقعت عليه 190 دولة يحتوي على "معظم القواعد" بشأن ما يتعين القيام به لحماية المدنيين من القتال. وبشكل عام، تنقسم المبادئ الأساسية إلى مجموعتين من القواعد، تركز الأولى على احترام كرامة الإنسان وحياته والمعاملة الإنسانية. ويشمل ذلك حظر عمليات الإعدام بإجراءات موجزة (أي بدون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة) والتعذيب.

- الحفاظ على الحد الادنى من حقوق ومستلزمات المدنية من مدارس ومستشفيات وأماكن العبادة كما نصت عليه اتفاقية جنيف ومواثيق الامم المتحدة.

وكانت مسؤولية الدول الموقعة على اولا احترام تلك الحقوق وثانيا حمايتها وثالثا الوفاء بها.

اسئلة مشروعة

وجدت من المفيد ان أقدم مجموعة من الإشكالات في خضم ازمة غزة ولبنان علنا نجهد في الاجابة على هذا الانتهاك الفعلي للأخلاقية في عالم اليوم وتكون ذات قيمة علمية يستفيد منها الاجيال من بعدنا.

هل يمكننا اعادة صياغة أخلاقيات النزاعات؟؟

هل سنعيد كتابة الاخلاقيات من جديد بقلم القوي ام بقوة القيم والمبادئ؟

كيف يمكننا عزل المال والقوة عن صياغة مفاهيم الأخلاقية مستقبلا؟؟

كيف أصبح الجبروت مشروع بقاء أبدي محتم؟ والمقاومة خيار انتحاري لابد ان تقمع او تقنع بما لدى المتجبر؟

هل يمكن للأخلاقية ان تملك قوة ردع دولية تحكم العالم ام هي مجرد انموذج دعائي؟

هل نحن متجهون لإمبريالية عالمية تحكمها تغول الراديكالية والعنصرية على إثر تفكيك الأخلاقية الممنهج؟

كيف يمكننا ان نعمم الأخلاقية لتكون ارادة الامم وخيارها الوحيد؟

هل الأخلاقية ثوابت مستدامة ام متحركة تتخلق حسب الظروف؟

للإجابة على بعض هذه الجدليات دعونا نبحر في غور جملة من الحقائق الماثلة امامنا قد تكون كاشفة لأسباب هذا الانجراف الحاد في مسار اللاخلاقية:

الحاكمية للساسة

إذا كانت اركان بنيان المجتمع تقوم على الفرد والاسرة والمدرسة او النظام التعليمي فان هذه الأركان لم تعد الحكم الفصل في رسم خطوط المنظومة الأخلاقية، حيث اختطفت المؤسسة السياسية كل مصانع القرار بيدها واحتكرته بشكل متوحش وبغيض. ليس هذا فحسب، بل عملت على لوي اذرع اركان بنيان المجتمع الاخرى لصالحها فكانت تظاهرات طلبة الجامعة مجرد غوغاء يجب ان يطردوا من مؤسسة التعليم الجامعي.. كانت المؤسسة السياسية تتجاسر على من يرفع صوته مطالبا بإعادة الازمة لموقعها الاخلاقي المعتاد.. لم يعد الفرد ذا قيمة معنوية يرسم الشكل الحضاري للاخلاقية السياسية.

ليس هذا فحسب، بل شرعت المؤسسة السياسية بما فيها من أضلع فساد ماحق وبما تملك من مخزون مالي وقوة غاشمة ان ترسم خطوط الأخلاقية وما يجب ان يكون او لايكون، فكانت المنظومة الأخلاقية مجرد منظومة هزيلة لا تصمد امام مطارق النخب الأرستقراطية التي تدير دفة السياسة... فلم يعد لقيمة الشعوب المضطهدة من قيمة وان قضي عليه جوعا وتقتيلا وان كان طفلا رضيعا او امرأة خائرة... 

وفي هذا الإطار ليس مستغربا ان يدعى "يائير لابيد"، رئيس وزراء إسرائيل السابق، بفخر قائلاً: "نعم، لقد قتلنا 12 (15) ألف فلسطيني في غزة، لكن غالبيتهم كانوا إرهابيين"!!.

فحش الساسة امتد على ربوع دول الغرب بشكل مروع فكان اعضاء الكونغرس يتسابقون لتأييد المجازر بدم بارد فيما وزيرة الخارجية الالمانية بيربوك تدعي ان قتل هذا العدد الهائل مبرر!!، كان واضحا ان معايير الاخلاقية وثوابت المواثيق والعهود منتهكة الى حد بعيد وان هؤلاء الساسة ارادوا ان يديروا دفة الصراع ضمن الاطر المصلحية والعرقية التي تبيح للأبيض ان يسود. 

المادية المسعورة

راغ المال في دماء الأبرياء تحت مرأى ومسامع كاميرات الإعلام حيث كانت المادية الغربية تنشئ مصانع المصلحة وتحدد ارباحها وخسائرها على جثث القتلى.

كانت مصانع السلاح تضخ ما أمكنها من قدرات تدميرية وتكنولوجية فائقة في دحر الابرياء وطحنهم بشكل وحشي مريب، بل اصبحت التكنولوجيا مشروعا متوحشا يرسل المسيرات ليقتل الأنفاس فيما البيجرات والواكي توكي اضحت لعبة تقتل حامليها أيا كانوا... ويبدو ان ارتفاع مبيعات التسلح هو من يحدد الرسم البياني لنجاح الشركات وبقدر عدد القتلى المسحوقين كانت المبيعات ترتفع ويرتفع معها طبول الحرب اللااخلاقية بكل ما تعني من معنى..

فقد استخدمت القنابل الجرثومية والفسفورية المحرمة وغاز الخردل ناهيك عن الاسلحة فرط الصوتية والمسيرات المتعقبة للأنفاس بل استخدمت وحشية غير مسبوقة بان يتعمد التأكد من قتل كل من في المبنى وان طال القصف اياما حتى لايخرج منها احد حيا!!. 

لم يكن غريبا ان يصبح مشروع غزة التدميري مثلا في حسابات آبار النفط التي اكتشفت في البحر بين غزة ولبنان او مخططات انابيب غاز قطر يحدد إفناء بلد او سحق شعوب.. انكشف للجميع ان خرائط شرق اوسط جديد ذات مبغى اقتصادي يستحق ان يسحق الاطفال والنساء، وكانت المنافسة بين قطبي الصراع امريكا والصين يتبارون لجني مكاسب المال والهيمنة عبر مشاريع خط الحرير والتنافس المحموم حوله، ليمرغ مفاهيم التعددية والمساواة وحق الشعوب في الاستفادة من خيرات بلادهم.. ولا عجب ان تقوم شركات البناء والمقاولات بطرح مشاريع واعدة على انقاض الدمار والاشلاء في غزة وتبشر بتسويقها في كندا والولايات المتحدة، اما المال القذر في شراء ذمم الساسة فحدث ولا حرج...

انها فعلا مادية مسعورة لا ترى لبشر غير بشرتهم حقا في الحياة. 

غياب القرائن القانونية الرادعة 

 يقول إريك مونجيلارد مسئول المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان "ان الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تعتبر جرائم حرب". وعلى هذا النحو، فإن جميع الدول ملزمة بتجريم تلك السلوكيات والتحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها.

في ظل العالم الحر هذا وقف المنصفون حيرى لايجد من يتحزم لتجريم قاتل يعبث بأرواح البشر ليل نهار.. فقد القانون روح الردع ولم تعد الامم المتحدة او المحكمة الدولية او المحكمة الجنائية الدولية او صراخ المتظاهرين او اعتراض الحكماء والمعنيين من رؤساء دول احيانا وقف نزيف المجازر والإبادة الجماعية.. استفاق الجميع على قوة الجسارة الماحقة في قبال القانون الاخلاقي الذي تسالم الجميع على احترامه.. ان يقف مجرم قاتل على منبر الكونغرس ليوعظ العالم بأحقية الإبادة اخلاقيا ويصفق له مشرعي الدولة العظمى هي حقا غابة وحوش في مسيرة التاريخ الاخلاقي!!

كان السؤال المحير في كل هذا ان كان القانون بوضعه الاخلاقي الذي هو محل صون واحترام فقد شرعيته فما هي القرائن البديلة التي تحدد صيانة المنظومة القانونية والأخلاقية بين الدول والشعوب؟ لو افترضنا ان المتسالم عليه لم يعد ذا رباط وثيق يشكل ردعا قانونيا، فمن يوقف الدول النووية من عبثها ان ارادت ان تستخدمها بوحشية!! ومن يحق له ان يبشر بالديمقراطية والحرية في دول بروليتارية دكتاتورية ان كان قد استدعى كل قدراته هو في دعم مرتكب للمجازر؟؟ ومن يستطيع نصب مشانق التحاكم إن أجرم معتوه في إفناء بشر في دولة ما دون رحمة!!! السنا سنكون مجرد مجتمع غاب!! وستكون السلطة الاخلاقية المتسالم عليها مجرد ريشة في مهب الريح!

لقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن إسرائيل "أضعفت بشدة نظام الضمانات الذي وضعته لحماية المدنيين". وتوصل التحقيق الذي أجرته الصحيفة إلى أن إسرائيل "اعتمدت أساليب معيبة للعثور على الأهداف وتقييم خطر وقوع إصابات بين المدنيين، وفشلت بشكل روتيني في إجراء مراجعات بعد الضربات للأضرار التي تلحق بالمدنيين، أو معاقبة الضباط على المخالفات، وتجاهلت التحذيرات من داخل صفوفها ومن كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين حول هذه الإخفاقات".

شيطنة المنظومة الاخلاقية 

في عام ٢٠١٢ كتب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في صحيفة النيويورك تايمز حيث يقول انه (لم يعد بإمكان بلدنا التحدث بسلطة أخلاقية بشأن القضايا الحرجة). يبدو ان جيمي كارتر ادرك متأخرا ان السلطة الاخلاقية فقدت ملكيتها وتوازنها وان حاميها هو الحرامي ذاته الذي يفصل القانون الدولي حسب مقاسه المادي والمصلحي.

لكن السؤال فعلا من يملك بسط السلطة الأخلاقية على البشرية؟ ومن يملك زمامها؟

ان اتفقنا ان الكذب والمواربة والتعصرن والنرجسية محرمة اخلاقيا بين كل البشر والشعوب فمن يملك سلطة الإلزام على خارقها وماهي ادوات الإلزام؟ 

إن تفرعن شعب وادعى ان دمه نقي خلاف كل الشعوب وهو من يستحق الحياة حصرا فمن يستطيع إلزامه بخلاف ذلك؟ ومن يوقف شبقه لتحقيق مآربه بإفناء من ليسوا من عرقه النقي؟

في البدء لابد ان نقر ان الفضيلة والخير وكل المنظومة الأخلاقية هي خيار تطوعي يتحرك نسبيا حسب موازين الخير والشر لدى الامم والشعوب والاديان وتُقبل الدول على سن القوانين التي تصونها إلا ان القانون ليس وحده الكفيل بصون الحقوق والواجبات فثم ارادة فردية حرة تستدعي تحقيق نسبة عالية من الإلزام او الخرق. 

وأدوات هذا الإلزام قد يكون الدين او احترام قوة القانون او قوة الاجتماع والتي يمكن ان نطلق عليه الأعراف او جميعها معا.

في الأزمة الأخيرة ظهر جليا ان المنظومة القيمية لم تعد ذا صبغة مقدسة يفترض التسالم عليها مما أباح خرقها وتجاهلها وفتح نفقا مجهولا لخروقات مشابهة، فما يحق لإسرائيل فعله يحق لغيرهم، وان كان العنف المفرط عمل اخلاقي بمشروعية الدفاع عن النفس فسيكون مثالا يحتذى! وان المكيدة والتآمر والاغتيال العشوائي وإفناء مدرسة او مستشفى باعتبارها اضرارا جانبية Collateral Damage قد تصبح سلوكا رائقا لدول اخرى مارقة!! 

يقول الكاتب جدعون ليفي في صحيفة هارتس: "هناك قيمة أساسية عميقة جدا هنا، على الرغم من أن الجميع ينكرونها. لكن إذا خدشت جلد أي إسرائيلي، سيطفو على السطح الاعتقاد بأن الفلسطينيين ليسوا بشراً مثلنا وليسوا مساوين لنا. إنهم لا يحبون أطفالهم مثلنا، ولا يحبون الحياة مثلنا. الفلسطينيون ولدوا ليُقتلوا!". ومن أجل فهم دوافع هذه الفكرة اللاإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، والتي لا تقتصر على السياسيين الإسرائيليين والصهاينة فقط، لا بد من تحليل أصلها التاريخي. لم تكن جريمة قتل آشور بانيبال، الملك الآشوري في بابل، في النصف الأول من القرن السابع قبل الميلاد، مجرد جريمة مرتبطة بشخصيته. كانت توصية من التوراة وهي كالتالي: "إذا اقتربت من مدينة تريد قتالها، فإن لم يفتح لك أهلها الأبواب، ولم يسعوا للصلح، فحاصرها. ولأن إلهك يَهْوَه يريدك أن تسيطر على المدينة، اضرب جميع رجالها بحد السيف، وخذ النساء والأطفال والبهائم غنائم...".. "في المدن التي يعطيك إلهك يَهْوَه حق تملّكها، لا تترك أي إنسان حيّ على قيد الحياة!" (سفر التثنية الفصل 20) فهل نجح سياسي متطرف مثل نتنياهو، في ظل كرم يَهْوَه، في تحويل غزة التي تعيش في قفص وحصار إلى مقبرة جماعية؟ ربما يرى نتنياهو نفسه أيضاً مثل سلفه آشور بانيبال، حيث يريد أن يكرر التاريخ؟

لقد تم شيطنة المنظومة الأخلاقية وتم تسليح الدين وتطويعه في مشروع السحق والتدمير، فتجريم المعتدي تم تفصيله على الضعيف بشهادة مسئولي ومتحدثي البيت الأبيض وتم ايضا قمع قوى الإلزام فصارت قوانين الامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وصراخ الشعوب الحرة وضغط الدول المحايدة مجرد اشرار يشرعون لهولوكوست العرق السامي!! في بكائية غاية في الأذلال ولوي الحقيقة!! وما عليك الا ان تتابع مندوب اسرائيل في الامم المتحدة لتدرك حجم الغثاء، كان واضحا منذ البدء ان عملية تسليح المعاناة لدى اليهود يمشي على قدم وساق على أنقاض وحشية غير مسبوقة تبرراي فعل لا اخلاقي بانه براق!!.

تضخم الراديكالية

مما لاشك فيه ان مجتمعات الغرب بدأت تنحى بشغف نحو راديكالية متلحفة بمعطف ديمقراطي، حيث بدأت الاحزاب اليمينية المتطرفة تتصاعد شعبيتها وبعضها تهيمن على القرار السيادي وهذا ما لحظناه في إيطاليا وفرنسا وألمانيا ودول اخرى صغيره وتناغم ذلك مع فوز دونالد ترامب في امريكا ليؤكد ان الراديكالية اضحت حاضنة شعبية وذات قبول مشروع لكل أدبياتها المحطة للآخر.

نحن امام عاصفة من التغييرات المجتمعية والقانونية فليس مستبعدا ان تتحول الكثير من القيم والمبادئ المسلم بها إلى نقض او تحوير راديكالي وقد لحظنا ذلك خلال ازمة حرب غزة كيف تم تسليح الفئة الصامتة بالكراهية والعدوانية وكيف تم تأجيج الشارع اعلاميا ضد حق التعبير والتقاضي والتظاهر وكيف اصبح مفهوم العنصرية مقبولا تحت غطاء حماية الدولة وحقها في الدفاع المشروع عن كيانها. لم يعد الغرب يخجل من انتهاك ما بصم هو على تأصيله.

في الأسبوع الثالث من الإبادة الإسرائيلية في غزة قدم "إيتامار بن غفير"، الوزير الإسرائيلي المتطرف مشروعاً للكنيست، يطالب فيه بتسريع إعدام الأسرى الفلسطينيين وقطع رؤوسهم!. وحينما تم اغتصاب السجناء الفلسطينيين تم اعتقال الجنود المتهمين لكن في اليوم التالي خرجت مظاهرات محتشدة تطالب بحقهم في الاغتصاب، لم يعد هذا ارهاب دولة على وقع فصل عنصري؟.

أما وزير دفاع اسرائيل يوآف غالانت فقد وصف الفلسطينيين بالحيوانات، قائلا: "لقد أصدرت الأمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا غاز. كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية".

وربما تحفيز ذاكرة التاريخ بانتهاكات الاحتلال الغربي لدول الشرق في بدايات القرن الماضي او الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم يعد مستساغا سماعه لدى المشرع الغربي!! ولا يحق لاحد ان يصوغ مقارنات يعتبرها في مجاله الاخلاقي فجور في الواقع الحالي!!

من منظور آخر لوحظ اجهاض واضح لصوت المجتمع السلمي الحر فكان يشطب كل طالب او موظف يلبس كوفية او ينشر رايه في السوشل ميديا، بل تم ملاحقة كل متعاطف مناهض على انه بغيض مناهض للسامية ومتعاطف مع الارهاب!

لقد رأينا قوى المجتمع الحر يتظاهر ويحتج لكنه ظهر كولد مشاكس لم يستطع ان يوقف انحدار اخلاقية الخصم ووقف حتى دعمه!

في الوقت ذاته اكتشفنا فارق التسلح بين الفريقين اعلاميا وسياسيا ومجتمعيا بصورة مختلة غير متناسبة فكان المال السياسي والسطوة البغيضة تمارس قبضتها المحكمة.

حصاد السردية

منذ دخول أزمة السابع من اكتوبر حيزها كانت المعارك حامية بين طرفي النزاع لكن ما هو اشد ايلاما هي معركة السردية التي خاضها الاسرائيليون بشراسة محتمين بالرجل الغربي الأبيض الذي هضمها بفخر واعتزاز وروج لها وصاغ مساره وفق سردية مغبونة بالتلفيق والافتراء.

كان صناعة الكذب تروج بكل صفاقة يستعرض فيها أطفال قطعت روسهم ووضعوا في الأفران ثم ينصب مهدا لطفل مذبوح كتذكار لكل زائر مرموق ليسوق لهم جملة اكاذيب بكائية من اجل رفع نشوة الغضب والانتقام. وقد أسست سردية الاحتلال ليوم السابع من أكتوبر وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين للإبادة المفتوحة منذ اليوم الأول لما بعد العملية عبر نفي ونزع صفة الأبرياء والمدنيين عن أهالي القطاع والمجاهرة بممارسة العقاب الجماعي للسكان في غزة، والحديث عن نية تهجيرهم، ثم جعل قطاع غزة غير قابل لاحتضان الحياة البشرية، قبل أن يجدوا من يلاقيهم في سردياتهم في الغرب سواء عبر تصريحات لمسؤولين غربيين أو في الإعلام، لدرجة قيام الرئيس الأميركي جو بايدن بالادعاء بأنه شاهد فيديوهات يقوم فيها المقاتلون الفلسطينيون "بقطع رؤوس الرجال والأطفال والنساء"، وهو ما اضطر البيت الأبيض لنفيه لاحقا، قائلا إن الرئيس لم يشاهد هذه الفيديوهات ولكن قادة إسرائيل أخبروه بذلك.

لم تكن روايات ألف ليلة وليلة تكفي لاستعراض مأساة الإسرائيليين فراغ إلى تلفيق التاريخ برمته مدعيا ان الارض ارضه والمحتلون هم سكانها الأصليون وان هؤلاء الارهابيون هم حيوانات لاتستحق الحياة. 

كان العالم على موعد مع صالات عرض سينمائية تظهر المتوحش في صورة حمل وتبرئ القتل بدم بارد. لم تعد قيم الصدقية وامانة النقل واستقامة الباطن والعمل قيما ذا مشروعية مستحقة. لقد تم تنظيم رحلات جماعية لطلاب المدارس والهيئات والمسنين الى غلاف غزة حتى يستمتع المشاهدون بحرائق ودمار وأنقاض في سادية تعد فعلا مشهدا لأناس فقدوا قيمهم الانسانية!! 

الكاتب الايراني علي ايزدي كتب يقول: في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، بعد مرور شهر تقريبا على بداية هجوم حماس على إسرائيل، نشرت بعض وسائل الإعلام كلمات "مسموعة للغاية" لـ"جدعون ليفي"، أحد كبار المحللين في صحيفة "هآرتس": "أعرف العديد من الاحتلالات التي استمرت لفترة أطول من الاحتلال الإسرائيلي. وكان بعضها أكثر وحشية، على الرغم من أنه أصبح من الصعب بشكل متزايد العثور على وحشية أكبر من الاحتلال الإسرائيلي. لكنني لا أتذكر محتلاً قدم نفسه كضحية! ليس مجرد ضحية، بل الضحية الوحيدة!". وواصل ليفي مناقشة الحالة التاريخية لتبرير إسرائيل لجرائمها. وروي بدهشة كلام رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير: "قالت السيدة غولدا مائير ذات مرة إننا لن نغفر للعرب أبداً إجبارنا على قتل أطفالهم! نحن ضحايا، يجبروننا أن نقتل الأطفال، نحن عاجزون! هناك ضحية واحدة، والضحية الوحيدة في التاريخ تمنحنا الحق في أن نفعل ما نريد".

ظهر جليا ان استباحة التاريخ وكتابته هو من صناعة القوي وحده وظهر ايضا ان خلق ذرائع كاذبة مباحة في زمن الحروب وان عجن الحقائق بماكينة المعتدي هي مهنة شريفة!

ولعل المورق حقا ان يتداول مسالة النسبة والتناسب في الانتقام proportion فكان ان اكتشفنا فجأة ان الحاجة لقتل عشر اضعاف ما قتل من جانبنا مسالة معقولة!! وان بالإمكان قتل الرضيع والطفل والام الحامل باحتمالية نشوء ارهابي مستقبلا!!

هذا الغثاء اللاأخلاقي مارسه الغرب بكل بجاحة وافتخار وظهر إعلاميون على قدر من الوعي يسوقون جملة اكاذيب في وضح النهار، اصبح الكذب علكا يلاك وكانه لم يكن يساق حاكم مثل كلينتون إلى المحاكم بتهمة الكذب!! او ان يحاكم دونالد ترامب بجريمة التغرير بعاهرة والكذب على المحكمة!!.

كان واضحا ان تغييبا للوعي يمشي على قدم وساق وان سحق الند مطلوب على كل الجبهات وان سار ميكافيليا.

في نهاية فيلم "ميونخ" (2005) للمخرج الأميركي الأشهر ستيفن سبيلبرغ يطلّ سؤال أخلاقي مدو عن جدوى العنف المتبادل في الصراع العربي الإسرائيلي، وما إذا كانت عمليات الانتقام تحقق العدالة أم تزيد من دوامة الصراع والعداء.

وفي ظني ان صدى هذه المعزوفة المشروخة سيبقى يتردد في الآفاق مدى الدهر.

اضف تعليق