تغيير الشرق الأوسط الجاري بقوة لن يستمر دون أن يتوقف في المحطة العراقية المرشحة منذ سنين لمقولة التغيير. نموذج الدولة في العراق ليس مخيرا في الاستجابة لمنطق الدولة أو البقاء ضمن ثنائية الدولة-المقاومة. طريق التعافي العراقي والعودة إلى الحالة الطبيعية يتطلب فهما للمعادلات الدولية والإقليمية الجديدة...
ودّع العراقيون عام 2024، عام القلق والمخاوف، واستقبلوا عامهم الجديد بقلق أكبر رغم احتفالهم كسائر شعوب العالم بمجيء العام الجديد وسط أمنيات ودعوات ومخاوف قديمة- جديدة..
عام 2025 سيكون عام المفاجآت، هكذا يحدس الكثير من المراقبين، فكما كان العام المنصرم عام المفاجآت الكبرى، والتي كان من أكبرها الضربات العنيفة التي أودت بحياة زعامات كبيرة وأغلب الصفين الأول والثاني لحركات المقاومة الكبرى حزب الله وحماس، كانت مفاجأة سقوط النظام السوري وتقطّع أوصال محور المقاومة وتراجعه هي أبرز المفاجآت التي انتهى بها العام، لتفتح الباب أمام مضاعفات وتداعيات جديدة بعضها يمكن توقعه وبعضها لا يمكن الحدس به وقد يكون هو المفاجأة.
لقد تغيّر الشرق الأوسط في غضون عام. دخل المشروع الإيراني في مرحلة التراجع، وتقدم المشروع الإسرائيلي كثيرا، وتمدد المشروع التركي. ولكل ذلك تأثير سياسي وأمني واقتصادي واستراتيجي على العراق. مجيء إدارة الرئيس الأميركي ترامب سيكون المحفز الأكبر لتفاعل المشاريع الثلاثة، نحو مزيد من الصدام والتنافس بما يقود إلى تقدّم هذا المشروع وتراجع الآخر ومراوحة الثالث.
العراق، بموقعه الجيوسياسي، معني بشدة بما سينتجه تلاقي المشاريع الثلاثة الساخن. العام الجديد يحمل ضغوطًا ومطالبات من العراق ليتكيف مع المتغيرات الجديدة بوصفه ساحة التقاء المشاريع الإقليمية. أول هذه الضغوط تطالب العراق بإنهاء نموذج ثنائية الدولة-المقاومة. هذه الثنائية تولدت نتيجة سردية ثورية ترى أن المشروع الأميركي-الإسرائيلي هو التحدي الوجودي الذي ينبغي مقاتلته إلى الأبد، وأن هذا المشروع هو من أنتج المشروع الفرعي (تنظيمات الإرهاب)، فمقاتلة الإرهاب ذي الخلفية السلفية التكفيرية هو في عين الوقت مقاتلة للمشروع الأميركي- الإسرائيلي.
ومفاد هذه السردية يقول إن الدول ضعيفة الجيوش والتماسك السياسي لا تستطيع الصمود، إلا إذا تم بناء كيان مساند ومعاضد للدولة يساعدها في التصدي لهذا المشروع، وإن كان مخالفا لفلسفة وجود الدولة ووظائفها ومسؤولياتها ووحدة خطابها وقرارها وعلاقاتها الخارجية. هذا البناء حتما سيكون موازيا لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والاستخبارية وحتى الاقتصادية، بما يؤدي إلى خطابات داخلية وخارجية غير متناسقة ولا منسجمة، يكون الولاء فيها متعددًا، والرؤية مختلفة، وتقدير المصلحة متفاوتا، والسلوك السياسي متباعدًا.
خلال عقود من التجريب نجحت ثنائية الدولة-المقاومة لأمد محدد، لينتهي أخيرا بكارثة كبرى بسبب مخالفته لمنطق الدولة المعاصرة وطبيعة التنظيم الدولي وتفاعلات النظام الدولي وفاعلية القوة العظمى (الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل).
تغيير الشرق الأوسط الجاري بقوة لن يستمر دون أن يتوقف في المحطة العراقية المرشحة منذ سنين لمقولة التغيير. نموذج الدولة في العراق ليس مخيرا في الاستجابة لمنطق الدولة أو البقاء ضمن ثنائية الدولة-المقاومة. طريق التعافي العراقي والعودة إلى الحالة الطبيعية يتطلب فهما للمعادلات الدولية والإقليمية الجديدة واستيعابا للمتغيرات وتكيفا مع المفاجآت غير السارة.
العراق يواجه تهديدات مالية واقتصادية قد تستهدف نفطه ومصدر رزقه إذا لم يستطع حسم وجهة الدولة وخطابها ودورها وتوحيد سياساتها النقدية والمالية، وإذا لم يسيطر على منافذ دولاره الثمين الشحيح فإنه سيعاني اقتصاديا وسيتهدد أمنيا وقد يضطرب سياسيا بسبب الاختلاف على طريقة الاستجابة للتحدي. فشرعية المواقف والسياسات تحتاج إلى موقف داخلي متوحد، وليس موقفا منقسما بسبب عدم الاتفاق على تقدير المصلحة، وعلى علاقة هذه المصلحة الأمنية والاقتصادية بالسردية الدينية التي تقرر تحمل الكلف الباهظة من عدمها بتأثير مقولات الواجب والتكليف.
العراق يواجه هذه الاستحقاقات وسط عدم اتفاق بين القوى الممسكة بالسلطة والقرار، والمخاطر باتت تلوح في الأفق مع اقتراب إدارة ترامب من استلام زمام السلطة والمبادرة، وهي بصدد ممارسة سياسة الضغوط القصوى على إيران ومن يتبنى سرديتها في المنطقة ومن يتحالف معها.
اضف تعليق