النصيحة الوحيدة التي ينبغي توجيهها هنا إلى الأخوة السوريين هي الاتعاظ من التجربة العربية لاسيما في العراق، وليبيا، وعدم الاستماع لخطب ومقالات (مثقفي الكراهية)، التي نقلنا توًا شطرا منها. وإذا كان لابد من محاكاة تجربة ناجحة تسهم في رأب الصدع السوري، وتحفظ لحمة أبنائه فلتكن تجربة دولة جنوب أفريقيا...

طبيعي لشخص يعاني من صراع ما مع طرف آخر أن ينتهز أي فرصة سانحة للنيل من خصمه، والاستثناء أن يتحلى ذلك الشخص بروادع أخلاقية، أو عقلية تقيّد انفلاتاته العاطفية، وتظهره بمظهر الصابر المحتسب، لاسيما إذا كان يمثّل الطرف المعتدى عليه، وتوقع هذا السلوك الاستثنائي يندرج في خانة المثالية بكل تأكيد، لأن الواقعية تثبت بأن الانتقام ومحاولة القصاص والثأر من الخصوم سمة إنسانية عامة، وغريزة مستقرة في أعماق النفس البشرية، وتتوقف درجة تهذيب هذا النزوع البشري العام على ما يمتلكه الفرد من قيم تربوية وثقافية.

ومن هنا كانت قضية التمييز بين الإنسان العادي والإنسان المثقف قضيّة عادلة إلى حدٍ كبير بملاحظة الضريبة التي ينبغي أن يدفعها المثقف من رصيده العاطفي لمصلحة التعامل مع المواقف من منطلق التعقل، والتصبّر، وعدم الانجرار وراء ردات الفعل التي تزيد من غلواء المشكلة بطبيعة الحال، ولكي تكتسب الفكرة التي نحن بصددها درجة من التطبيق لا بد من الاستعانة بمثل حيوي معاش. 

ولعل أبرز مثال لذلك التطبيق ما يجري حاليا على الأرض السورية من إعدامات (فورية) ضد بعض (المتهمين) بقمع المعارضة السورية، فضلا عما يحدث من حرق، وتجريف لقبور رموز النظام السوري السابق، ولم تجد نفعا في الحدّ منها حتى الآن تصريحات التهدئة التي أطلقها بعض زعماء المعارضة ومنهم أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع.

إذ التصريحات السياسية تحتمل غالبا أكثر من تأويل، وهي من باب أولى غير قادرة بالمطلق على ضبط حملة البنادق، والمسدسات المهووسين بتصفية الحسابات! فالتعويل في منع أعمال الانتقام، والثأر ينبغي أن يكون على عاتق قادة الرأي العام، لاسيما المثقفين من ذوي الشعبية العالية، لكن الحال في الواقع السوري يسير على الأغلب بعكس هذا الاتجاه للأسف الشديد، ويمكن الاستشهاد على هذه المسألة بانتشار تصريحات لمثقفين بارزين تطالب بإحلال لغة الثأر، والانتقام بدلا من لغة التسامح، ومبدأ" عفا الله عمّا سلف"، وسأكتفي بذكر بعض النصوص التي سمعتها شخصيا من مثقفين سوريين لامعين وهم يخاطبون الرأي العام بكلمات من قبيل: (( كل من مدح نظام الأسد بكلمة يجب أن يلاحق. كل من ذم المعارضة بكلمة يجب أن يحاكم... المسامح كريم، واذهبوا فأنتم الطلقاء عبارات لا معنى لها...))! 

ولا يخفى على أحد بأن النصوص المذكورة آنفا - وهي غيض من فيض- تكشف عن دعوات صريحة للقتل، والاستباحة، والتنكيل بالمناوئين داخليا وخارجيا كما أن فيها استهانة واضحة بنصوص مقدسة شهيرة، لاسيما لدى من يدّعي تبني أطروحات دينية، وإسلامية، فعبارة:" اذهبوا فانتم الطلقاء" حديث نبوي شريف لا يجهله أو يتجاهله إلا جاحد منافق يقصد قطع الطريق مقدما أمام مبادرات العفو، والمصالحة، وهي أفعال يجب أن تأخذ طابع الحتمية في المجتمع السوري الراهن، ومن دونها لا يمكن التكهن بوجود مستقبل لهذا البلد المهم، والكبير في قابل الزمان. 

والنصيحة الوحيدة التي ينبغي توجيهها هنا إلى الأخوة السوريين هي الاتعاظ من التجربة العربية لاسيما في العراق، وليبيا، وعدم الاستماع لخطب ومقالات (مثقفي الكراهية)، التي نقلنا توًا شطرا منها. وإذا كان لابد من محاكاة تجربة ناجحة تسهم في رأب الصدع السوري، وتحفظ لحمة أبنائه فلتكن تجربة دولة جنوب أفريقيا، هذه الدولة التي استبد بها نظام الفصل العنصري، وبأبشع صوره على مدى خمسين عاما تقريبا، ولكن بسبب انخراط النخبة من مثقفي البلاد وعلى رأسهم الراحل (نيلسون ماندلا) في قيادة الرأي العام بعيدا عن أجواء الشحن، والضغينة.

والأخذ بالثأر تمكنت هذه الدولة من تحقيق أعلى معدلات النجاح، والتقدم والرفاه لشعبها، بل أصبحت، وهذه هي المفارقة الكبرى أصبحت عنوانا لمقارعة الظلم، والطغيان حتى خارج حدودها الجغرافية، والشاهد على ذلك قيامها مؤخرا برفع دعوى قضائية ضد رئيس وزراء إسرائيل (نتن ياهو)، ووزير دفاعه السابق، بوصفهما مجرمي حرب، ومجرمين ضد الإنسانية، ولم تمنعها الضغوط العالمية، ولاسيما الأمريكية من الإصرار على متابعة الدعوى حتى اكتسابها، وقد كسبتها بالفعل أخيرا، وما كان بالإمكان لدولة بتاريخ دولة جنوب أفريقيا الاستبدادي أن تبلغ هذه الرتبة من (محبة) العدل، والدفاع عنه لو أنها انتهجت سياسة ( الثأر والانتقام والكراهية). 

إن في سوريا الحبيبة أمثلة ساطعة لمثقفي المحبة، والتسامح من دون أدنى شك، ولكن هؤلاء بعيدون حاليا عن أضواء الإعلام المؤثر ما يعني تبعا لذلك ضعف تأثيرهم على توجهات الرأي العام، ومن هؤلاء المثقفين الفنان (ياسر العظمة)، وآخرون غيره يشاطرونه القول بأن : ((سقوط الطغاة ليس نهاية المعركة بل هو بداية مسؤولية كبيرة تتطلب الحكمة والهدوء فالأوطان تُبنى بالحكمة والتعقل لا بالحقد والغضب...)). 

قد يعترض البعض في أن (ياسر العظمة)، وأمثاله لم يكونوا معارضين علنيين لنظام الحكم السابق، وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الاعتراض، وواقعيته فإن الحكمة العظيمة تقول: ((لا تنظر لمن قال وانظر لما قيل))... 

اضف تعليق