تعزيز ثقة الناس بالديمقراطية أمر مهم، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد بروز جهات وقوى سياسية واجتماعية ودينية لا تجد أن من مصلحتها نجاح التجربة الديمقراطية وتكاملها، وهي تعمل بصورة دؤوبة على قطع الطريق أمام فرص الاستقرار السياسي في البلد، وتعمد إلى إشغال الناس وإغراقهم في أزمات متوالية...
يتفق الباحثون في شؤون الديمقراطية على مسؤولية السّلطة في تعثر المسار الديمقراطي كما أنها المعنية بدعم وتنضيج الخيار الديمقراطي، فإذا أظهرت السلطة الحاكمة تعنتا وتحفظا من مسألة المشاركة السياسية، أصيب المسار الديمقراطي في الدولة بالنكوص والتراجع، بينما تفرز مرونة السلطة وقدرتها على استيعاب التحولات السياسية والآراء المجتمعية المتباينة تقدما ونضجا في مسيرة الديمقراطية على مستوى الفكر والحركة.
هذا الكلام دقيق ومقبول جملة وتفصيلا. فالسُّلطة هي المعنية بصورة مباشرة في تعثر التجربة الديمقراطية، لكنها بالتأكيد ليست الجهة الوحيدة التي تتحمل مسؤولية التعثر الديمقراطي. فثمة أسباب أخرى تقف كمعيق صلب أمام تطور ونضج التجربة الديمقراطية في بلداننا، وتحديدا عاملي: غياب ثقافة المشاركة السياسية، وتقليدية البيئة الاجتماعية. وأعتقد أن هذين السببين يلعبان دورا مهما في تفريغ الديمقراطية من محتواها، وإفشال حركة الإصلاح السياسي، حتى ولو وجدت سلطة مرنة لديها الاستعداد الكافي لقبول آليات الديمقراطية ونتائجها.
تلعب تقليدية بعض البيئات الاجتماعية دورا أساسيا في تغيير مزاج الحكم والإدارة، وتدفع النظام السياسي المرن والمنفتح في البلد نحو التشدد والتزمت حتى يصل إلى مرحلة الانغلاق والانطواء على الذات، والتحفظ والتردد من احتضان الديمقراطية، أو رعاية الحريات العامة، ولاسيما في بعدها السياسي أو حتى الثقافي، لعدم الشعور بالحاجة الملحة إليها، ولذا تكتفي السلطة عادة بالعطايا والمنح الجانبية، وفقا لمبدأ الترضية السياسية والاجتماعية، وتبتعد شيئا فشيئا عن صفة دولة القانون والعدالة.
البيئة الصالحة شرط أساس لنمو ديمقراطية حقيقية ومتكاملة، وهي تقف في مقابل الديمقراطية الشكلية والناقصة. فالأولى تستهدف توسعة خيارات الناس بكل السبل الممكنة والمشروعة، وتدعم مشاركة الجمهور في صناعة القرار العمومي، وهي في هذا السياق تقف على ركائز شعبية متينة، بينما الثانية تقصد البروز بمظهر الدولة الحاضنة لآراء المواطنين وتصوراتهم، لكنها في الحقيقة لا تعكس سوى حالة الهلع من تكلفة الديمقراطية، والقلق من أثر المشاركة السياسية على الواقع المحلي.
لا يمكن -على سبيل المثال- أن تنمو الديمقراطية في ظل أحزاب سياسية لا تمارس الديمقراطية في إدارة شؤونها الداخلية، وتتخوف من الآراء المخالفة، وتعتبرها تجاوزا يجب ردعه بالقوة والقهر. فغياب الإدارة الديمقراطية داخل الحزب، وفرض رأي القيادة بالقوة اعتمادا على النفوذ المالي أو الديني أو غيره، إنما يسهم في خلق بيئة ملوثة بالاستبداد وأحادية الرأي، ولا تعين الشعوب على التعرف إلى وسائل الدفاع عن حقوقها وطرق استرجاعها.
وفي الوقت عينه لا يمكن أن تزدهر الديمقراطية في ظل غياب رؤية واضحة لدى الأحزاب والجمعيات السياسية في العمل الوطني، على اعتبار أن العبث السياسي لا يربك النظام العام في الدولة فحسب، ولا يعطل المشروعات التنموية في البلد فقط، وإنما يتسبب أيضا في نزع ثقة الناس من البدائل المطروحة على الساحة، بحيث يميل الجمهور تدريجيا إلى إبداء القلق من مآل الحرية، والخشية على مصير الدولة ومستقبلها في حال وصلت هذه الفئات إلى مواقع القرار وسدة الحكم.
فالأحزاب والكتل السياسية في بعض الحالات دفعت الناس دفعا عبر تصرفاتها وممارساتها الخارجة عن أعراف ومقتضيات العمل الديمقراطي إلى إعلان رفضها وتحفظها من تغيير لا تعرف غاياته، ولا أين تقف نهاياته؟. ومن الضرورة بمكان أن يُدفع الناس من جديد إلى الإيمان بفوائد التجديد السياسي، وإقناعهم بضرورة الإسهام في حركة الإصلاح الشامل، وهي عملية لا تتم بقرارات تنطلق من جهات عليا أو دنيا، وإنما تبدأ من خلال تشجيع الناس على الإسهام في عملية التغيير، وحثهم على عدم التهاون في ذلك.
وأحد أهم طرق تعزيز الثقافة الديمقراطية في المجتمع، هو تقديم أنموذج صالح للتطبيق، يرسل إشارات الثقة إلى الجمهور بأن التجديد السياسي يسهم في تطوير آليات التفاهم والعمل داخل الدولة، وأن ثمرات الديمقراطية طيبة، وأنها صمام أمان لحل النزاعات والصراعات التي قد تندلع بين فترة وأخرى داخل المجتمع، وليست سببا لتفجر النزاعات بين السكان، وهي معبر إلى تحقيق المزيد من المشاريع التنموية، وليست عامل تعطيل وتثبيط يقف في وجه التطوير والتنمية.
تعزيز ثقة الناس بالديمقراطية أمر مهم، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد بروز جهات وقوى سياسية واجتماعية ودينية لا تجد أن من مصلحتها نجاح التجربة الديمقراطية وتكاملها، وهي تعمل بصورة دؤوبة على قطع الطريق أمام فرص الاستقرار السياسي في البلد، وتعمد إلى إشغال الناس وإغراقهم في أزمات متوالية، حتى يصلوا إلى مرحلة الاختناق السياسي والاجتماعي، ومن ثم سقوط الديمقراطية في ميدان التجربة، وكفر الحاكمين والمحكومين بها كخيار سياسي دينامي أثبت نجاحه في تقدم الشعوب واستقرارها على المستويات كافة.
من المؤكد أن اعتقادات من قبيل «ضرورة القبول بالأمر الواقع» و«امشِ الحيط الحيط وقل يا رب الستر»، و«الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه»، ثقافة هرمة تحول دون اندفاع الأفراد نحو ممارسة التجديد والإبداع، وتمنعهم من التقدم في ميدان التجريب واكتشاف الحياة من زوايا أخرى غير تلك السائدة، والقلق الدائم من التغيير، لأنه سيأتي بالجديد غير المعروف لديهم، لكنها في كثير من الأوقات لا تعتبر أكثر من ردة فعل طبيعية على الممارسات غير المسؤولة التي تصدر من طرف الأحزاب والجماعات السياسية في البلد.
اضف تعليق