إن الارتباط القسري بين المراقد المقدسة وبين من هم في سدّة الحكم هو الذي يعرّضها على مر الزمن للاعتداء والهدم مادام تحولت الى واجهة سياسية، فيكون استهدافها تحقيقاً لاهداف عسكرية او سياسية ضد الخصم، وهذا ما لا يرتضيه العقل ولا الدين ولا شيمة الانسان المؤمن...
التزم بنصيحة الكاتب المصري محمد حسنين هيكل عندما أبدى تحفظه بالكتابة عن التحولات الكبيرة في بلداننا، ومنها ما يُسمى بحرب تحرير الكويت عام 1991 بأنه يتريّث كثيراً في الكتابة عن هكذا موضوعات لأنها "عاطفية جداً"، كما جاء في كتابه "حرب الخليج اوهام النصر والهزيمة"، بينما المطلوب من المتابع الحريص على أمن بلده وشعبه أن يتحلّى بغير قليل من الموضوعية والدقّة؛ من الناحية الفنية والمنهجية، والتحلّي ايضاً بالإنصاف للخروج بنتائج تكون أقرب الى الواقع والحقيقة.
لاحظت في مواقع التواصل الاجتماعي محاولة الربط بين انهيار نظام حزب البعث في سوريا، وسلامة المراقد المشرفة في سوريا، وتحديداً مرقد السيدة زينب ابنة امير المؤمنين، عليهما السلام، على أن هذا المرقد الشريف "كان في أمان، تحفّه الرعاية والاهتمام، والجميع يذهب للزيارة بكل فخر واعتداد"، مضمون الكلام المنشور.
ولا أجدني بحاجة للحديث عن تاريخ العلاقة بين النظام السوري والمراقد في سورية، وكيف كانت أعمال التوسعة والرعاية والخدمات تتم على يد المؤمنين من الخارج مع معارضات شديدة من الداخل، إنما ألفت عناية القراء الأعزاء الى أن شخصية العقيلة زينب، سلام الله عليها، بحد ذاتها تفرض واقعاً أكبر بكثير من الأنظمة السياسية المتقلبة على الحكم بين متسلق ومتدحرج الى الهاوية على مر الزمن، فهي شامخة باقية، وشهيدة على استمرار الانحراف في الامة، وقد كانت بدايتها في مواجهة الزيف والتضليل بتلك الشجاعة التي نتحدث عنها دائماً لأبنائنا من هذا البلد تحديداً (الشام)، فهل يُعقل أن نعد اليوم نظاماً سياسياً كان يتخذ من تجربة الدولة الأموية نموذجا ومثالا أعلى، هو من وفّر الرعاية والكرامة لمرقدها الشريف وللزائرين الشيعة طوال العقود الماضية؟!
أيادي الجماهير المؤمنة لا أموال السلطات الحاكمة
يجدر بنا تصفح تاريخ هذه العلاقة منذ بوكيرها عندما بدأت أعمال البناء والعمارة على المراقد المشرفة في العراق وايضاً في ايران على يد الحكام في بادئ الأمر، ومع ايماننا بالحكمة الإلهية في تقييض اشخاص معينين في ظروف معينة لبناء هذه المراقد لتكون محط رحال الزائرين من بقاع الأرض على مر الأجيال لاستذكار ما جرى من المصائب على الأئمة المعصومين وابنائهم، وايضاً؛ لاستخلاص العبر والدروس من حياتهم خلال وجودهم بقرب هذه المراقد، بيد أن الغايات النهائية لم تبق خافية، أبرزها؛ إضفاء المشروعية على النظام السياسي الحاكم من خلال كسب ودّ الناس والمؤمنين الذين يجدون في شخصية أمير المؤمنين، والامام الحسين –مثلاً- رمزاً للحياة المستقيمة، وهي الحقيقة التي أكدها علماء ومفكرون من سائر الأديان والمذاهب في العالم، الى جانب بعض علماء المسلمين.
وبنفس وتيرة البناء والإعمار والحثّ على الزيارة، حلّت بنا أيام انقلب فيها الحكام ليفرضوا حضراً على هذه الزيارة، او محاولة التقليل من شأن المراقد المشرفة، وبلغ الأمر حدةً في رجم القباب بالصواريخ، كما حصل في الانتفاضة الشعبانية في العراق، الامر الذي فطن اليه العلماء والحكماء مبكراً لتجاوز هذه المشكلة بتفعيل العامل الجماهيري وضخ الوعي وثقافة المسؤولية لأن يكونوا هم من يبعث الحياة في هذه المراقد وليست السلطات الحاكمة، وكانت الفكرة الرائدة والعظيمة من المرجع الديني الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي في خمسينات القرن الماضي عندما جال ببصره حول مرقد السيدة زينب، سلام الله عليها، في طريقه الى حج بيت الله الحرام، وكانت المنطقة حينها عبارة عن صحراء قاحلة يتوسطها المرقد الشريف مع بعض المباني الصغيرة، فوجه السؤال الى ابنائه: "من يتحمل مسؤولية تشييد حوزة علمية في هذا المكان"؟ّ! فكانت الإجابة السريعة من نجله الشهيد السيد حسن الشيرازي، وحصل ما حصل من تشييد الحوزة الزينبية بتلك الجهود الجبارة وبما يشبه الاعجاز في عقد السبعينات من القرن الماضي، وكانت فكرة المرجع الراحل أن تكون الى جانب كل المراقد المشرفة للمعصومين، وابنائهم؛ حوزات علمية ومكتبات لإعطاء هذ المراقد طابعاً حضارياً الى جانب الطابع الديني والعاطفي.
العاطفة وحصر المراقد بين الجدران الأربعة
من المؤكد والمسلّم أن مصائب أهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم، تقرح الجفون، وتحرق القلوب، بيد أن تلك المصائب لم تكن لولا القيم السماوية التي من أجلها ضحوا بأرواحهم، وقدموا كل تلك التضحيات الجسام، وهي القيم التي يجب ان ألمسها –أنا الزائر- خلال زيارتي لهذه الأماكن المقدسة، حتى أحكم الربط بينها وبين صاحب هذا المرقد والمكان الذي نجد الاهتمام البالغ في عمارته وبنائه بمختلف اشكال الزينة والاضاءات والمفروشات وسائر الخدمات الرائعة.
الطابع الجغرافي للمسألة أراه دون مستوى أولياء الله الصالحين الذين منحهم الله –تعالى- امتيازات ومكانات أكبر بكثير من الجدران الأربعة للمراقد، وحتى التوسعة في البناء، فهي تبقى بقعة جغرافية وحسب، الامر الذي يجعل الوصول الى البعد المعنوي، وهو المحوري في القضية؛ صعباً وبعيد المنال في بعض الأحيان على المؤمنين والمحبين، ومن أجل الخروج من الطريق المسدود، نلاحظ اتخاذ المراقد المشرفة مكاناً للتفسّح والنزهة، والتقاط الصور التذكارية بشكل عفوي، والجميع يقصد الزيارة والحصول على ثوابها من الله –تعالى-.
كنت في زيارة لأحد المسؤولين عن المراقد المقدسة في العراق فقال لي: "أتعلم أين نحن الآن"؟! قلت: كلا! فأجاب بكل فخر واعتداد: "في مكان لو تعرض لسوء لاهتز العالم الإسلامي بأكمله"! والرجل أراد ان يفصح عن عظيم المسؤولية الملقاة على عاتقه، كما أراد ان يوضح لي أهمية المكان الذي يعمل فيه، ولكن ربما غاب عنه عدم تأثير المكان والبناء على الجانب المعنوي والقدسي لصاحب المرقد، فقد يتهدم المكان، ثم يُبنى من جديد، ثم ماذا عن أئمة البقيع، شواهد حجرية على التراب فقط، بينما الأئمة الأربع يملئون الأرض علماً وحكمة الى يوم القيامة.
الرد على التشكيك بالعلم
ثمة تخوّف من أن يقع مقام السيد زينب بيد الجماعات المسلحة في سوريا بما تحمل من متبنيات عقدية تعارض بشدّة تقديس المقامات والمراقد لأهل بيت رسول الله، مما يدفع بالكثير الى نسج الاحتمالات والتوقعات بأن تكون أجواء الزيارة لهذه السيدة العظيمة ليست على كما كان عليه في الزمن الماضي، وأن المرقد الشريف لن يكون بإدارة شيعية –مثلاً-.
ولسنا بوارد الخوض فيما ستؤول اليه الاحداث في سوريا في ظروف غاية بالتعقيد لتشابك المصالح الإقليمية والدولية فيما يجري في هذا البلد بعد الإطاحة بنظام حكم بشار الأسد، إنما المهم لدينا صياغة هوية واضحة للوجود الشيعي في سوريا، وتحديداً في منطقة السيدة زينب، فإن كنا نؤمن بأحقية أهل بيت رسول الله، وأنهم يمثلون الامتداد الحقيقي للرسالة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، لن يكون صعباً إيصال هذا الشعاع الساطع الى جميع أبناء الشعب السوري، ومنهم الجماعات المعارضة بما تحمله من ايديولوجيات وعقائد.
إن الارتباط القسري بين المراقد المقدسة وبين من هم في سدّة الحكم هو الذي يعرّضها على مر الزمن للاعتداء والهدم مادام تحولت الى واجهة سياسية، فيكون استهدافها تحقيقاً لاهداف عسكرية او سياسية ضد الخصم، وهذا ما لا يرتضيه العقل ولا الدين ولا شيمة الانسان المؤمن.
ربما أجزم بجهل الكثير من المسلمين في سوريا وسائر البلاد الإسلامية بالمنزلة والمكانة الحقيقية لأئمة أهل بيت رسول الله، وإلا لما كان لدينا كل هذا القلق على مرقد السيدة زينب، ولا أي مرقد او مقام للأولياء الصالحين في كل مكان بالعالم.
يجهل المسلمون في العالم حجم الخسارة العظيمة التي يتكبدوها طيلة القرون الماضية، ومايزالون بسبب ابتعادهم عن منهج النبي الأكرم والأئمة المعصومين، وإلا لكانوا {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، ولما كانوا ضحايا الحروب والانقلابات العسكرية والبطالة والأمية ومصادرة الحريات.
اضف تعليق