إحدى التفسيرات المهمة لهذه الظاهرة هي أن المجتمع العراقي، الذي عاش لفترة طويلة تحت حكم ديكتاتوري مركزي، لم يكن لديه ثقافة عمل سياسي جماعي أو تعايش في تجمعات كبيرة متجانسة. بمعنى ان الافراد الساعين الى تحقيق مصالح معينة لم يكن لديهم الميل او القدرة الى التجمع في احزاب سياسية كبيرة...
كيف نفسر ظاهرة الكثرة المفرطة في الاحزاب السياسية العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان عام 2003؟ للاجابة عن هذا السؤال حاولت الاستفادة من افكار الاقتصادي الاميركي مانكور أولسون (Mancur Olson) الذي اشتهر بإسهاماته في فهم الديناميات الاقتصادية والسياسية للجماعات والمنظمات. أحد أشهر أعماله هو كتابه «منطق العمل الجماعي» (The Logic of Collective Action) الذي نُشر في عام 1965 وكتاب “صعود وانحطاط الامم”(The Rise and (Decline of the Nations الذي صدر عام 1969.
فقد أوضح أولسون أن الجماعات غالباً ما تواجه صعوبات في تحقيق الأهداف المشتركة نظرًا للمشكلة المعروفة باسم «الراكب المجاني» (Free Rider Problem). تشير هذه الظاهرة إلى أن الأفراد قد يختارون عدم المساهمة في العمل الجماعي لأنهم يمكنهم الاستفادة من نتائج العمل دون المساهمة فيه. ولمواجهة هذه المشكلة اقترح أولسون أن تقديم حوافز للأفراد الذين يساهمون في الهدف الجماعي يمكن أن يساعد في التغلب على مشكلة «الراكب المجاني». هذه الحوافز يمكن أن تكون مادية أو معنوية.
جماعات صغيرة
وأشار أولسون إلى أن الجماعات الصغيرة (وهي المشكلة التي نواجهها في العراق فيما يخص الاحزاب السياسية الصغيرة) تكون عادة أكثر قدرة على تحقيق التوافق والتعاون من الجماعات الكبيرة، لأن الأفراد في الجماعات الصغيرة يمكنهم مراقبة مساهمات بعضهم البعض بشكل أفضل.
وحين تناول الفرق بين المنافع التي يمكن حصرها في أفراد محددين (المنافع الخاصة) وتلك التي لا يمكن حصرها (المنافع العامة) اوضح أن الجماعات تواجه صعوبة أكبر في تأمين توفير المنافع العامة، مما يؤدي إلى تقليل الحافز لدى الأفراد للمشاركة. كما يمكن ان تسعى الجماعات الصغيرة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وقد تكون هذه الظاهرة «طبيعية» في بداية تكون المجتمع السياسي الحديث. يقول اولسون: «إن التنظيم للعمل الجماعي يستغرق قدراً كبيراً من الوقت لكي يظهر.» ويلاحظ انه لم يظهر أول اتحاد نقابي حديث مستدام إلا في عام 1851، أو بعد ما يقرب من قرن من الزمان من بدء الثورة الصناعية، في بريطانيا.
كما تكشف دراسة النقابات الصناعية في فرنسا عن «وجود فجوة بين الظهور الأولي لصناعة ما والوقت الذي يكتسب فيه عمالها القدرة التنظيمية للعمل الجماعي». أما المنظمات الزراعية فقد استغرقت وقتاً أطول حتى تتطور. والامر نفسه في الولايات المتحدة.
ويمكن ان تلقي هذه الملاحظات الضوء على ظاهرة الجماعات السياسية الصغيرة المسماة احزابا التي اخذت بالتكاثر في العراق بعد عام 2003 والتي يمكن تفسيرها من عدة جوانب اجتماعية وسياسية. كما إن فهم هذه الظاهرة يتطلب النظر في السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي أحاط بالعراق في تلك الفترة.
بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 وبدء العملية الديمقراطية، شهد العراق انفتاحًا سياسياً كبيرًا. مع انتهاء نظام الحزب الواحد، أتيحت الفرصة للأفراد والجماعات للتعبير عن آرائهم السياسية وتنظيم أنفسهم بشكل حر، مما أدى إلى ظهور عدد كبير من الأحزاب السياسية الجديدة.
إحدى التفسيرات المهمة لهذه الظاهرة هي أن المجتمع العراقي، الذي عاش لفترة طويلة تحت حكم ديكتاتوري مركزي، لم يكن لديه ثقافة عمل سياسي جماعي أو تعايش في تجمعات كبيرة متجانسة. بمعنى ان الافراد الساعين الى تحقيق مصالح معينة لم يكن لديهم الميل او القدرة الى التجمع في احزاب سياسية كبيرة. وقد اوضحت في مقالات سابقة ان الحزب يعتبر كبيرا فقط اذا استطاع الحصول على اغلبية النصف زائد واحد في البرلمان، ودون ذلك يكوم الحزب متوسط الحجم، او صغيرا، او مجهريا لا يرى بالعين السياسية المجردة. يذكر ان الثقافة السياسية في عهد النظام السابق قُمعت ولم يكن هناك تعليم سياسي حقيقي يمكن من خلاله تدريب الأفراد على العمل ضمن مجموعات متكاملة.
الأحزاب الجديدة التي ظهرت في العراق لم تكن فقط نتيجة الاستجابة السياسية للطاقة المكبوتة سابقًا، بل كانت أيضًا تمثيلاً للتنوع العرقي والطائفي والديني في البلاد. هذا التنوع، في ظل نظام ديمقراطي جديد، شجّع على تشكيل أحزاب تمثل فئات أو طوائف معينة بهدف تحقيق أفضل تمثيل لمصالح تلك الفئات. إضافة إلى ذلك، تتعلق هذه الظاهرة بعدم الثقة بين الفئات المجتمعية المختلفة، التي كانت تتاح لها الفرصة الآن للتعبير عن نفسها بشكل مستقل. هذه الفئات لم تتعوّد على تعاون سياسي واسع النطاق لعدم وجود خبرة مسبقة في العمل الجماعي في إطار مؤسسات ديمقراطية.
الأحزاب العراقية الحديثة، في كثير من الأحيان، تكون شخصية جداً وتميل إلى التركيز حول شخصيات قيادية معينة، مما يخلق بيئة تشجع انقسام الأحزاب وتعددها بدلاً من اتحادها. في بعض الأحيان، يُنظر إلى الأحزاب الصغيرة على أنها طريقة لتوزيع النفوذ والحصول على امتيازات معينة في الحكومة أو السيطرة على موارد الدولة.
إذن، يمكن القول إن تعددية الأحزاب في العراق بعد 2003 تعبر عن حاجة ملحّة للأفراد والجماعات لإيجاد مكان للتعبير عن الذات وتحقيق تمثيل سياسي، وذلك بسبب غياب تقاليد تاريخية للعمل السياسي المشترك ضمن مجموعات كبيرة. تحتاج هذه الظاهرة إلى مرور الوقت لتتطور المجتمعات وتُبنى تقاليد جديدة من التعاون والتعايش الديمقراطي. خلاصة القول أن ظاهرة تعدد الأحزاب في العراق ليست مجرد مسألة أعداد واصطفافات سياسية، بل تعبير عن رحلة جديدة في فهم الديمقراطية والعمل السياسي الجماعي في مجتمع يتلمس خطاه نحو المستقبل بأسس ديمقراطية.
احزاب سياسية
انصار هذه الظاهرة قد يقولون ان وجود العديد من الأحزاب السياسية في بلد ما يمكن أن يكون له آثار إيجابية على التطور السياسي مثل:
تنوع الأفكار: الأحزاب المتعددة تعني وجود مجموعة متنوعة من الأفكار والسياسات، مما يمكن أن يؤدي إلى نقاش سياسي غني ومتنوع.
تمثيل أفضل: يؤدي وجود عدد كبير من الأحزاب إلى تمثيل أفضل لمختلف فئات المجتمع واهتماماتهم، مما قد يزيد من شرعية النظام السياسي.
مراقبة السلطة: تزيد الأحزاب المتنافسة من الرقابة على السلطة التنفيذية ومنعها من جمع الكثير من السلطة.
تعزيز الديمقراطية: يساهم التعدد الحزبي في تعزيز القيم الديمقراطية من خلال تأكيد حرية التعبير والتنظيم.
لكن الواقع العملي في العراق اكد وجود سلبيات لظاهرة الكثرة المفرطة في الاحزاب منها:
تشتت الأصوات: يمكن أن يؤدي التعدد الحزبي إلى تشتت الأصوات، مما يجعل من الصعب على أي حزب الحصول على أغلبية حاسمة لتشكيل حكومة مستقرة.
حكومات ضعيفة وغير مستقرة: قد يؤدي العدد الكبير من الأحزاب إلى تشكيل حكومات ائتلافية غير مستقرة، وتغير متكرر في الائتلافات الحاكمة.
صعوبة في التوافق: يمكن أن تصعب بعض الأحزاب الصغيرة الوصول إلى توافق حول السياسات العامة، مما يعيق الإصلاحات المهمة.
خطر التطرف: قد ينتج عن التعدد الحزبي ظهور أحزاب متطرفة تحمل أجندات تضر بالتوازن الاجتماعي والسياسي.
في المجمل، تعتمد نتائج تعدد الأحزاب على كيفية إدارة النظام السياسي لها، وكيفية تعامل هذه الأحزاب مع بعضها البعض ومع النظام الديمقراطي العام للبلد. إدارة جيدة ومؤسسات قوية قادرة على الاستفادة من التنوع الحزبي لتعزيز الديمقراطية والاستقرار.
اضف تعليق