الفقر المعنوي وليس المادي يفتح أبواباً للتزلّف والتطاول على حقوق الآخرين، كنتيجة حتمية للتمرّد على القِسمة الإلهية للإنسان في الحياة بما يُسمى في علم الأخلاق بعدم الرضى بالقضاء والقدر، فاذا سمح لنفسه بالتصاغر وإظهار حالة الافتقار سيجد المبررات جاهزة للبحث عن الافضل دائماً، تحت شعارات؛ "التفوق"، و"التنافس"...

علماء النفس يفسرون حالة التطاول في عالم المال والسياسة استناداً الى ظواهر سلوكية، فمن "يحرق المراحل" ليصير ثرياً خلال فترة قصيرة، يعزوه الى عقدة الفقر والحرمان، ومن يلجأ الى كل الوسائل والطرق ليعتلي المناصب الرفيعة، يعزوه الى عقدة النقص والحقارة في وسطه الاجتماعي مما يدفعه للتعويض، او ترميم هذه الثغرة النفسية، وهي تفسيرات لا تجانب الحقيقة، بيد أن تفسيراً آخر يتعمّق في الروح المسؤولة عن صياغة شخصية الانسان، وتتحكم في نفسيته وسلوكه في الاتجاه الايجابي أو السلبي. 

الفقر المعنوي وليس المادي يفتح أبواباً للتزلّف والتطاول على حقوق الآخرين، كنتيجة حتمية للتمرّد على القِسمة الإلهية للإنسان في الحياة وفق حِكَم لا يبلغ كنهها بعقله المحدود، بما يُسمى في علم الأخلاق بعدم الرضى بالقضاء والقدر، فاذا سمح لنفسه بالتصاغر وإظهار حالة الافتقار سيجد المبررات جاهزة للبحث عن الافضل دائماً، تحت شعارات؛ "التفوق"، و"التنافس"، وفي ظل هكذا نفسية معتلّة يكون التنافس مريضاً وغير شريف بالضرورة، والتفوق يستحيل تطاولاً وتجاوزاً على حقوق الآخرين. 

هل المشكلة في المال والمنصب؟

يبحث علماء الأخلاق في الجذور الروحية لنزعة الاستكثار، ولا يجدون ثمة علاقة بينها وبين المشكلة المالية او المعيشية، فان "غنى النفس وفقرها لا علاقة له بالطابع المادي للإنسان، فقد نجد فقيراً لا يمتلك إلا القليل من المال، لكنه ذو نفس كبيرة، وبالمقابل قد نجد ثرياً ذا نفسية صغيرة"، (بحوث اخلاقية- السيد جعفر الشيرازي).

نفس الأمر ينطبق على المناصب في مؤسسات الدولة، فقد نجد ذا منصب رفيع في الحكومة او القضاء او في المؤسسة العسكرية، لكن عينه دائماً على ما هو أعلى وأكبر لمزيد من الامتيازات، بينما الرجل الحارس أو السائق، أو البوّاب عند مكتب هذا "المسؤول الكبير"، او من يصنع الشاي في الدوائر الحكومية ذو نفس كبيرة وعزيزة لا يرضى لها الذل وإن عُرضت عليه الدنيا بأكملها. 

وعندما نقرأ كلمات أمير المؤمنين في نهج البلاغة؛ "إنما هي نفسي اروضها بالتقوى"، نفهم المطلوب منّا من هذا الدرس بتنمية حالة الورع والعفّة والتقوى، ولكن كيف هذا؟

الأمر ليس بهذه السهولة أمام مغريات كبيرة، وتنافس شديد على المكاسب، مع تحفيز وتغرير جارف، ومداهمة النفس لمشاعر الخسارة والغفلة والخوف مما يزعج البعض ويدفعه باستمرار لأن لا يفوّت الفرصة ويدعها للآخرين ممن يجدهم أقل استحقاقاً منه في هذا الموقع او ذاك المنصب!

الترويض يكون عملياً اكثر مما هو نظري او كلمات نقرأها في كتب الاخلاق والأدعية، إنها عملية استحضار شواهد من مآلات الفاسدين والآثار المترتبة على الاختلاس ونهب أموال الناس قانونياً واجتماعياً، وحتى تكوينياً على تربية الاولاد، ومن ثم بناء شخصيتهم في المستقبل، واستنساخ شخصية الأب وتكرارها في المجتمع لتكون وصمة على جبين العائلة الى أمد غير منظور، وفي كتابه "بحوث اخلاقية"، يشير السيد الشيرازي الى حقيقة واقعية بأن الفاسد والمجرم "يُفتضح أمام الناس في الدنيا، لأن الله –تعالى- يفضح الظالمين والمتجاوزين"، هذا فضلاً عن الفضيحة العظمى يوم القيامة والعقاب الذي لا يخطر على بال.

وهم الصعود وقفص العبودية

ما يكشف خطل هذا التوجه؛ خسارة الكرامة والحرية مقابل اعتلاء منصب معين، او الحصول على مكاسب مادية في التجارة وفي المؤسسات الحكومية، فالبعض يغمره شعورٌ بالزهو لأنه حقق التملّك، فهو ليس فقيراً او مهمّشاً مثل الآخرين، لكن يغفل عن ثمن هذا الصعود الموهوم وسقوطه في قفص العبودية والتبعية لمن أوصله وأخذ بيده الى حيث يريد. 

إن القابلية على التضحية بكل شيء، وإعطاء الغالي والنفيس تجرّد صاحبها من لوازم القوة النفسية والمادية معاً، فهو ربما يستقوي على من دونه، ولكنه يعجز عمن هو أعلى منه وأقوى، وهي الحقيقة التي يدركها هو جيداً ويسعى دائماً لاخفائها والظهور بأنه المسيطر صاحب الإرادة والمقدرة، واذا ما استشعر محاولات فضحه من معارضين او باحثين عن الحقيقة من مقربين، او اعلاميين، او ناشطين اجتماعيين، فان لن يرى بأساً في اللجوء الى القوة لمواجهتهم وإن كلف الأمر إراقة الدماء، او تأليف دعاوى كيدية، او حرمان او فصل وغيرها من الاجراءات الانتقامية.

ولا أجدني بحاجة للاستشهاد من واقعنا الاجتماعي السياسي، فالامثلة كثيرة من أبسط موظف او مدير، وحتى شخص رئيس جمهورية مثل صدام، فالداء النفسي الوبيل الذي عشعش فيه منذ صغره هو الذي ساقه الى حتفه قبل أن يسوق الملايين الى حتفهم ويذيقهم مرارة الذل والهوان والموت، فهل نعتبر؟

اضف تعليق