إن مجرد الرغبة بالتغيير من غير أن تُقترن بعمل يحوّل الفكرة إلى سلوك واقعي هو ناتج عن الإحساس بالخوف من التغيير أيضا، وهو مسؤول أساسي في وجود طابع السلبية والجمود في حياة الإنسان. والخشية من التغيير أو كراهيته تنبعث عادة من إمكان تسبّب التغيير بنتائج غير مرغوب بها...

من الناس مَن لا يصرّح بخوفه من التغيير، ومنهم من يُقرّ باستشعار الرهبة منه، ويجاهر بكراهيته له، ومنهم من تتملكه عاطفة ود صادقة تجاه فكرة التغيير لكنه مع ذلك لا يمتلك قدرة اتخاذ القرار، فيظل التغيير لديه أُمْنية لا تتحقق أبدا، وهو بهذا الموقف أشبه ما يكون بشخص يتمنى السباحة في النهر لكنه يخشى من القفز فيه!

إن مجرد الرغبة بالتغيير من غير أن تُقترن بعمل يحوّل الفكرة إلى سلوك واقعي هو ناتج عن الإحساس بالخوف من التغيير أيضا، وهو مسؤول أساسي في وجود طابع السلبية والجمود في حياة الإنسان. والخشية من التغيير أو كراهيته تنبعث عادة من إمكان تسبّب التغيير بنتائج غير مرغوب بها على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، أو كليهما، فمن يُحجم عن اتخاذ قرار الإقلاع عن التدخين مثلا، إنما يفعل ذلك نتيجة قلقه من فكرة الفشل في تغيير هذه العادة الضارة، ومن ثم معاناته إثر ذلك من مشاعر سلبية تعقب ذلك الفشل، وأبرزها مشاعر تأنيب النفس فضلا عن تأنيب الآخرين...

 ويسرد الدكتور (روس إلينهورن) في كتابه ( كيف نتغير) قائمة بأسباب الخشية من التغيير يتصدرها التهيّب من الإخفاق، والتخوّف من المجهول، فضلا عن الميل للكسل، وانتفاء الدافع، وقلة الثقة بالنفس أو انعدامها، وكذلك الافتقار إلى الوقت والمهارات والموارد.

ويطرح (إلينهورن) استراتيجيات للتغلب على مشكلة الخوف من التغيير من أبرزها اعتبار التغيير عملية متسلسلة وليست حدثا واحدا، ومن لوازم ذلك الاعتبار وجوب النظر إلى الإخفاق وما يصاحبه من ألم بوصفه درسا للتعلم يستدعي النهوض، والبدء من جديد، وهو الأمر الذي لا يستقيم إلا للأقوياء روحيا بطبعهم، أو لمن تدّرجوا في اكتساب إرادات صلبة بعد أشواط من المران، والكفاح . 

لقد كانت (ثقافة) الخوف من التغيير، وما تزال سمة الغالبية من البشر عبر الأزمنة المختلفة، فالإنسان عموما يميل بطبعه إلى بقاء الحال على ما هو عليه، ومزاولة ما اعتاد عليه من تقاليد. أما الخارجون عن هذه الثقافة فإنهم يمثلون الأقلية غالبا، وهم المسؤولون بدرجة رئيسية عن إحداث النقلات النوعية في حياة الإنسان سواء على مستوى التبدلات الفكرية أو المعاشية. ويمكن التدليل على ذلك بالتغيرات التي حصلت في العالم الغربي على المستويين السياسي، والصناعي خلال ما يُعرف بعصر النهضة، وهي الفترة الممتدة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وعصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعلى المستوى السياسي لم يشهد الغرب تبدّل النظرة التقليدية تجاه علاقة الشعب بالنخب الحاكمة إلى أخرى أكثر عقلانية وإنسانية إلا بعد صراع دامٍ خاضته قلة من العقول (المثقفة)الطامحة للتغيير ضد أصحاب المصلحة في بقاء الأحوال على حالها القديم، وقد أدّت أجندة التخويف من تغيير القيم السياسية السائدة آنذاك دورا مهما في تأخير عملية التغيير تلك.

 أما في المعترك الصناعي فقد شهدت ساحات العالم الغربي تاريخيا مجابهات شرسة بين التيار المحافظ على الأطر القديمة في الإنتاج وبين تيار التحديث، وكانت الغلبة في نهاية المطاف لصالح النخبة الصناعية من أصحاب رؤوس الأموال، هؤلاء الذين تغلغلوا إلى مواقع أصحاب السلطة والقرار، واستطاعوا أن يقلبوا المعادلة لصالحهم ضد خصومهم، وكان من تداعيات انتصارهم أن شهدت بريطانيا مظاهرات عارمة لعمال النسيج في أواخر القرن الثامن عشر احتجاجا على إدخال الآلات الجديدة التي جرّت معها مخاوف فقدان العمال لوظائفهم. وهذا الاحتجاج التاريخي الذي مثّل حينها ردة فعل على التغيير في مستوى التبدلات المهنية أو الصناعية يعيد انتاج نفسه في كل مراحل التاريخ تقريبا؛ لأنه منبعث من جوهر النفس البشرية المتوجسة غالبا من عواقب التغيير، وما قد تأتي به من ارتدادات سلبية على الواقع الاقتصادي، ولعلّ التخويف الذي نشهده حاليا ضد ظاهرة انتشار (روبوتات) الذكاء الاصطناعي في إطار التحذير من مشاكل قطع أرزاق الناس بسبب استعمال تلك الروبوتات (القاتلة) يشابه إلى حد كبير صيحات عمال النسيج القديمة، ومعاركهم ضد (الآلة) التي لم تنته إلا بعد مخاض عسير، وجهد مضن قبل أن (تتغير) قناعة العمال تجاه آلاتهم من كونهم أعداء يهددون معيشتهم إلى مساعدين لهم في توسيع آفاق صناعتهم، وتخفيض مقدار الجهود التي كانوا يبذلونها، أو يهدرونها في جمع القطن، وتنظيفه، ورصفه، لتتبدل جرّاء ذلك مشاعر البغض إلى مشاعر ود وامتنان، وهو المصير الذي سينتهي إليه في أغلب الظن الصراع مع أجهزة الذكاء الاصطناعي الحديثة على الرغم من نبرة التخويف التي تنتشر في منابر إعلام عديدة، وتزداد في حدّتها إلى درجة صار البعض يعتقد فعلا بأن الذكاء الاصطناعي هو الوحش القادم لافتراس الجنس البشري بالتعاون مع كائنات شريرة قادمة من كواكب أو مجرات أخرى! 

إن التغيير سنة طبيعية كونية والزمن هو العنصر المحرّك له، ويتوقف توجيه مسار التغيير سلبا أو إيجابا على الإنسان الذي اصطفاه الله تعالى خليفةً على أرضه، ولعل قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} خير مصداق على هذه الفكرة، فتغيير الذات بما يجعل منها أكثر نشاطا، وشجاعة، وثقة، وكفاءة في إدارة الوقت والموارد سيفضي بها إلى موقف أفضل، والعكس بالعكس حين تتشبث هذه الذات بـ (منطقة الراحة)، وتؤمن بالانهزامية، وتستجيب لمثيرات التثبيط، والإحباط، وتُخفق في إدارة الوقت، وتنتهج نهج هدر نعم الله سبحانه وتعالى، وما أتاحه لها من فرص ...

وصفوة القول فإن التغيير الإيجابي يرتبط أولا بقوة إرادة الفرد على تفعيل قواه الروحية التي استودعها الخالق المبدع فيه، وهي المفاتيح الرئيسية لمشروع بناء شخصية متماسكة لا تستجيب لمنطق التسويف، والمماطلة، وتنحو نحو العيش ضمن مجتمع منتج منفتح، وعلى أهبة الاستعداد دائما للمضي في إعادة ترتيب الأولويات، وتحديث خرائط الأهداف. 

اضف تعليق