ترمب يختلف عن كل الادارات الامريكية السابقة من حيث واقعيته وفوضويته واتباعه لغرائزه الخاصة بدلا من اتباع نصائح مستشاريه وطاقم ادارته؛ لكن وجود احداث ومعطيات جديدة واكثر خطورة مقارنة بفترة ولايته الاولى، فإن هنالك امل ان يتبع المنطق السليم في صناعة قرارته بعيدا عن الاطوار الغريبة التي اتبعها سابقا...

عندما حانت اللحظة الحاسمة في انتخابات الرئاسة الامريكية الاخيرة، لم تكن الحملة التي برزت فيها العنصرية وكراهية النساء والتجاهل الصريح للتهم الموجهة لترمب البالغة ١٤ تهمة جنائية وسياسية، فضلاً عن الفوضى والاستفزاز الذي مارسه والاستقطاب الحاد والشعبوية؛ كافية لاستبعاده في نظر الناخبين الأميركيين، الذين أعادوه إلى البيت الأبيض لمدة أربع سنوات أخرى في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت يوم الثلاثاء ٥-١١-٢٠٢٤.

إن العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة للولايات المتحدة والعالم مثيرة للقلق بقدر ما هي غير متوقعة كذلك، وهي تتجاوز مجرد عودة رئيس لديه تفويض شعبي واسع وسيطرة في الكونغرس لكن تضع امام هذه العودة تحديات سياسية بالغة تمتد إلى موثوقية الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة القوة الرئيسة في النظام الدولي.

وبعد موسم الحملة الانتخابية الذي شهد انحدار السياسة الأميركية إلى أعماق استقطاب متزايدة، شهد السباق الانتخابي مسارات مختلفة في الولايات المتحدة أظهرت رؤية أكثر قتامة فيما يتعلق بتوجهات الادارة الامريكية القادمة وتأثيراتها المحتملة على السياسة الداخلية الامريكية والخارجية والنظام الدولي على نطاق أوسع، ومنها السياقات الاتية:

اولا: الديمقراطية

لن تكترث ادارة ترمب للديمقراطية في الخارج ولن تجعل منها قضية مهمة، وحسب الجمهوريين الداعمين لترمب فإن امريكا ليست بحاجة إلى نشر الديمقراطية حول العالم، وهم يروّن أن الأمم المتحدة والقانون الدولي هما مَن يقوضان مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، كذلك ستكون الديمقراطية في الولايات المتحدة في خطر جسيم، لقد وجه ترمب تهديدات مقوضة للديمقراطية في الانتخابات السابقة وولايته الاولى، وظهر بمظهر دكتاتوري في احايين كثيرة، خاصة ضد خصومه السياسيين والصحافة والاعلام، ومن المحتمل ان يتابع تلك التهديدات.

ففي النهاية لدى ترمب تحفظات على الليبرالية والعولمة والترابط وهو لا يعترف بها ويتبنى توجهات انعزالية محافظة تركز على مبدأ (امريكا اولا) القائم على اساس الاولويات المرتبطة بتحقيق المصالح الامريكية بشكل جوهري وتقليص الالتزامات الدولية.

ان مقدار الضرر الذي ألحقه ترمب فعلا بالديمقراطية الأمريكية نبع من سعيه إلى نزع الشرعية عن المؤسسات التي تساعد في دعم الديمقراطية، اذ زرع الشكوك حول الحكومة ووسائل الإعلام، وأشعل نظريات المؤامرة لزراعة عدم الثقة بين شريحة واسعة من سكان الولايات المتحدة حول كيفية فرز الأصوات، على الرغم من الأدلة الواضحة على خلاف ما ادعاه. في الولايات المتحدة يعد هذا المستوى من عدم الثقة بالمؤسسات أمراً جديداً إلى حد ما، ومن غير المرجح أن يختفي بسرعة حتى بعد فوز ترمب، فقد عمل على تقديم جوانب أكثر قتامة من التاريخ السياسي الأمريكي، منذ عام 2016، اذ كانت الولايات المتحدة تكافح لتجاوز مرحلة العنف السياسي التي شهدتها منذ سبعينيات القرن العشرين ومعظمها جاء من اليمين الامريكي، وترسخت ذروة هذا العنف في تمرد 6 كانون الثاني 2021 في مبنى الكابيتول الأمريكي الذي قاده ترمب.

كما كان لحملات ترمب الانتخابية الثلاث ورئاسته تأثير هائل ومقلق على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة، بدء بالأكاذيب المتكررة المستمرة والمعلومات المضللة التي استخدمها هو ومساعدوه في حملته لتقويض أسس المناقشة السياسية الصحيحة، لكن ترمب هاجم أيضاً بشكل متكرر الجماعات التي ينظر إليها على أنها تهديد لسلطته بخطابات عدوانية وعنيفة، بما في ذلك المعارضون السياسيون والصحافيون، الذين وصفهم مراراً وتكراراً بأنهم (أعداء الشعب)، وهذا العداء قد يستمر في ولايته الثانية لانها ستكون مدعومة وغير مقيدة سياسياً.

وفي الوقت نفسه، استخدم ترمب خطاباً عنصرياً ومعادياً للنساء اللواتي يعتبرن شريحة واسعة ومؤثرة في الولايات المتحدة، وكانت نتيجة كل هذه التحولات تغطية الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام وأصبحت تشبه بشكل متزايد ما يتوقعه العديد من الأمريكيين أن يروه فقط في التقارير الصادرة من الدول الأجنبية التي لا توجد بها ديمقراطيات راسخة ومتماسكة.

من المهم أن نتذكر، ان ترمب اعاد إيقاظ جوانب أكثر قتامة في السياسة الأمريكية التي كانت كامنة، ولكنها لم تختفِ رغم ان ترمب سيحاول بالتأكيد مراجعة نهجه المعادي للديمقراطية والليبرالية في ظل ولايته الثانية خاصة مع وجود حواجز مؤسسية تواجه دوافعه الاستبدادية، وستكون هذه الحواجز فعالة هذه المرة أكثر من الولاية الاولى بسبب التهم الجنائية والتحقيقات الخاصة المثارة ضده، مع ذلك، فإن شفاء الديمقراطية الامريكية من الضرر الذي أحدثه ترمب بالفعل سوف يستغرق وقتا طويلا.

ثانيا: السياسية الاقتصادية والتجارية

وعد الرئيس المنتخب دونالد ترمب باتباع سياسة اقتصادية حمائية تحقق مكاسب للامة الامريكية، من خلال تعزيز التعريفات الجمركية المرتفعة وبعيدة المدى، واعتمادها كأداة لإعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي كحصن قوي داخلياً ومستقل عن الاقتصادات الأخرى.

كما يعتقد أن التعريفات الجمركية يمكن استخدامها لتمويل حكومة فيدرالية أصغر بكثير، فهو يعتبر الولايات المتحدة شركة يتولى فيها ترمب منصب الرئيس التنفيذي، يضع مصالح هذه الشركة أولاً، والمساهمون فيها هم الشعب الامريكي وهم سيضحون خاسرين اذا استمرت هذه الشركة بالعمل كشركة بوليصة تأمين تعتمد فيها الدول على السخاء الامريكي في المجالات كافة، او تؤمن بفلسفة التجارة الحرة والعولمة التي ستربح من خلالها الصين نتيجة ضخها المنتجات الرخيصة بسبب تدني قيمة اجور الايدي العاملة الصينية، وسرقة الملكية الفكرية لإلحاق الضرر بشكل كبير على السوق الأمريكية؛ لذلك سيعمل ترمب على خفض الضرائب على الشركات والافراد مع زيادة التعريفات الكمركية على البضائع الصينية بنسبة من ٦٠٪ الى ١٠٠٪ و١٠٪ لباقي الدول الاجنبية؛ لتعويض انخفاض قيمة الضريبة، وهذا سيعزز من شعبيته وتبرير انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، رغم خطورته على النظام الديمقراطي؛ فهو يعلم ان الدولار الامريكي بدأت تتراجع قيمته ازاء اليورو وبدأ يستعاض عنه في المبادلات العالمية والسبب هو التسامح والسخاء بدون مقابل.

كما من المتوقع أن يتراجع ترمب اكثر من السابق عن العمل المناخي، فيقضي على سياسات التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها، في حين يضاعف استخدام الوقود الأحفوري ويزيل الحوافز للطاقة المتجددة. وعلى الصعيد الدولي، من المرجح أن يؤدي تراجع الولايات المتحدة عن أطر المناخ المتعددة الأطراف إلى وضع أهداف المناخ العالمية خارج المتناول، كل هذا من اجل تعزيز القطاع الصناعي والنفطي والطاقوي للولايات المتحدة بدون قيود لدعم وتعزيز الاقتصاد والنمو في الولايات المتحدة.

ثالثاً: السياسة الخارجية

سيتبنى ترمب مبدأ (امريكا اولاً) هذا المبدأ وبمقاربات مشابهة للتي تبناها في ولايته الاولى، فالجمهوريون الداعمون له يعملون الان على التكيف مع شعبويته القومية واحياءه للواقعية السياسية من جديد، فهم يؤمنون بأن ترمب يُمثل عنصر استقرار فاعل في ظل نظام دولي متسم بالفوضى مع وجود قادة ضعاف، وايضا يعتقد انصاره ان العالم حظي بالاستقرار والنظام في ولايته الاولى؛ اذ لم يكن هناك حروب مباشرة، واستطاع توقيع اتفاقات سلام واتفاقيات تجارية عززت المصالح الأمريكية مثل صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية بين الكيان الاسرائيلي وبعض الدول العربية واستطاع ان يتفاوض بشكل ناجح مع كندا والمكسيك حول اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية المعروفة بإسم (نافتا)، وعقد اتفاقية تجارية جزئية مع الصين.

كما شهد الاقتصاد الامريكي نسب تضخم منخفضة للغاية ومعدلات هجرة متراجعة على الحدود من المكسيك، في حين ان نهج بايدن كان ضعيفاً وكارثياً ومتعثراً بدءا من الانسحاب من أفغانستان، وتشجيع روسيا على غزو أوكرانيا، ودعم وتمويل نظام كييف دون جدوى او حسم، انتهاءً بفشله في اضعاف ايران او انهاء حماس وحزب الله ومحور المقاومة، والحل يكمن باتباع مقاربة الاولويات التي يؤمن بها ترمب وفريقه الداعم له، امريكا ثم الحلفاء ثم العالم، ولا يوجد دعم بلا ثمن مدفوع مسبقاً ومن خلال هذه المقاربة الترمبية ستستعيد أمريكا قوتها ومكانتها وتعزز عامل الردع لخصومها واعداءها ويفرض النظام الدولي وفق القواعد التعديلية التي ترسمها الولايات المتحدة.

لذلك من المرجح جدا ان يوقف تمويل حرب اوكرانيا ويقلل من اسهامات واشنطن في حلف الناتو، وينفتح على كوريا الشمالية ويضع الصين في اولويات استراتيجية الامن القومي الامريكي لمواجهتها اقتصادياً، ولن يتحمس لدعم تايوان ضد الصين، او عليها ان تدفع للولايات المتحدة مقابل حمايتها.

اما في الشرق الاوسط، سيبحث ترمب عن مقاربة إيجابية للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني؛ وبناءً على ذلك سيعيد ترمب جهود التطبيع العربي مع تل ابيب عبر توسيع الاتفاقات الابراهيمية لتشمل المملكة العربية السعودية كأحد اولوياته القصوى في المنطقة، باعتبار هذه المقاربة طريقاً مستدام لحل القضية الفلسطينية من اقامة دولة فلسطينية محدودة الصلاحيات من حيث السيادة ومنزوعة السلاح تعمل تل ابيب على توفير الأمن لكلا الدولتين، مع تأييده لضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن إلى الاراضي المحتلة.

اما ايران فسيتبع سياسةً أقوى لمواجهتها وهو يعتقد ان ارساء السلام في الشرق الاوسط لا يمكن حصوله قبل احتواء إيران، وتوقف المتشددين الفلسطينيين عن محاولة القضاء على الكيان الاسرائيلي، ان موقف ترمب المتشدد ازاء طهران سيتضاعف اكثر من ولايته الاولى وسيصدر حزمة من الأوامر التنفيذية التي تهدف إلى اعادة احياء سياسة (الضغوط القصوى) على ايران، اقتصاديا وتحريك عوامل زعزعة النظام السياسي في ايران وتمكين ودعم القوى المطالبة بالديمقراطية فيها، وسيعمل على الرد المباشر على اي استهداف للقواعد والقوات والمصالح الامريكية في العراق وسوريا، رغم انه مقتنع ان وجود القوات الأمريكية في سوريا والعراق لن يعد يخدم المصالح الامريكية وقد يُعلن انسحاب هذه القوات من البلدين خلال ولايته.

لاشك ان ولاية ترمب الثانية ستكون مضطربة لكنها ستكون استمراراً لنهجه في الولاية الاولى، لكن ستختلف الاليات والوسائل خاصة في مسار تصريحاته الداخلية ومحاولة الظهور كأنه ديمقراطي مع رسم مسار خاص مع روسيا وايران واوروبا والصين.

ان ترمب يختلف عن كل الادارات الامريكية السابقة من حيث واقعيته وفوضويته واتباعه لغرائزه الخاصة بدلا من اتباع نصائح مستشاريه وطاقم ادارته؛ لكن وجود احداث ومعطيات جديدة واكثر خطورة مقارنة بفترة ولايته الاولى، فإن هنالك امل ان يتبع المنطق السليم في صناعة قرارته بعيدا عن الاطوار الغريبة التي اتبعها سابقا.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق