آراء وافكار - مقالات الكتاب

كيف ستتعامل القوى والاحزاب العراقية مع بيان المرجعية الدينية

بعد لقاء ممثل الامم المتحدة في العراق؟

القوى السياسية العراقية كعادتها ستحاول أن تستغل دعوة المرجعية الدينية مرة أخرى وتستقطبها لصالحها، وهو ما بانت ملامحه عبر التسابق بين القوى والاحزاب والشخصيات السياسية العراقية إلى تبني بيان المرجعية الدينية وجعلها خارطة طريق لإدارة الحكم والسلطة والدولة بشكل عام. وهو ما يمكن أن ندخله في خانة الالتفاف...

دعت المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف بعد لقائها الاخير بممثل الامم المتحدة في العراق السيد "محمد الحسان" إلى اجراء إصلاحات عميقة للتغلب على المصاعب التي تعاني منها البلاد منذ عقود عدة. وأوضح مكتب السيد السيستاني خلال اجتماعه مع رئيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، الحاجة الملحة إلى حكم كفوء وخالي من الفساد، وسيادة القانون والحد من التدخلات الأجنبية وحصر السلاح بيد الدولة، لوضع العراق على طريق الاستقرار والازدهار. 

وفي بيان صدر عن مكتب السيد السيستاني عقب انتهاء اللقاء مع ممثل الامم المتحدة، أشار فيه الى التحديات والمصاعب المختلفة التي يعاني منها الشعب العراقي، كما حثّ العراقيين، ولاسيما النخبة الواعية على استخلاص العبر من تجارب الماضي وبذل أقصى الجهود لتجاوز الانتكاسات السابقة والعمل بجدية لتحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والازدهار. 

وعلى الرغم من الاستقرار النسبي الذي تشهده البلاد وخطط الحكومة الرامية الى تحسين الخدمات واجراء إصلاحات اقتصادية ومالية، لكن فشل رئيس الوزراء محمد السوداني حتى الآن في تقويض عمل الفصائل المدعومة من ايران، التي امتدت عملياتها الى إسرائيل منذ هجوم 7 تشرين الأول من العام الماضي والحرب التي تلته، ولاسيما مع اتساع دائرة الصراع في الشرق الاوسط، والمخاوف التي ترافقها من دخول العراق بشكل مباشر في هذه الدائرة، ولاسيما بعد ان ثبت استخدام طرفي النزاع (إيران وإسرائيل) استخدام الاجواء العراقية في الضربات الصاروخية المتبادلة، ولاسيما أن الفصائل العراقية مستمرة في تهديد إسرائيل وضربها بالطائرات المسيرة؛ الأمر الذي يزيد من فرضية جر العراق الى دائرة الصراع.

 وقد دعت المرجعية الدينية في بيانها الاخيرة إلى تطبيق نظام قائم على الكفاءة والنزاهة في تولي مناصب المسؤولية، والحد من التدخلات الخارجية، وفرض سيادة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة ومحاربة الفساد، لكن امام العراقيين طريق طويل لتحقيق ذلك. فضلًا عن ذلك، فقد تطرق الاجتماع بين السيد السيستاني وممثل الامم المتحدة الى الحرب الجارية في غزة ولبنان. وأعرب عن ألمه العميق إزاء الأزمة التي تؤثر على البلدين؛ بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية. كما انتقد المجتمع الدولي لعدم اتخاذه خطوات جادة وفعّالة لوقف العنف وحماية المدنيين من العدوان الإسرائيلي المرّوع. بموازاة ذلك، رفض السيد الحسان ما عرضته قناة 14 الإسرائيلية اليمينية، لعرض صوة السيد السيستاني مع صور لبعض الشخصيات الإيرانية وموالية لإيران، وضع علامة الصليب على رؤوسهم في إشارة إلى أنهم أهداف محتملة. إذ قال السيد الحسان بعد الاجتماع "إننا نرفض أي استهانة وتهديد تجاه المرجعية الدينية، نظرًا للرمزية والاحترام الذي تحظى به في هذا البلد والعالم أجمع".

إنَّ بيان المرجعية الدينية الاخير، ربما لم يختلف عن بياناتها السابقة فيما يخص رؤيتها للوضع السياسي العام في البلاد وموقفها من التدخلات الخارجية وإدارة الحكم والسلاح خارج سلطة الدولة، ولعله تأكيد لمواقفها السابقة أكثر مما هو دعوة جديدة. إذ يؤكد البيان على مبادئ وطنية جوهرية مثل اعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية؛ ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها؛ وتحكيم سلطة القانون؛ وحصر السلاح بيد الدولة؛ ومكافحة الفساد على جميع المستويات. 

وهي المبادئ التي عدتها اغلب القوى السياسية المتشاركة في ادارة الحكم والسلطة، بمثابة خارطة طريق واضحة لإدارة الدولة والحكم وبناء المؤسسات؛ وذلك بتأكيدها على ضرورة تبَّنيها في منهاجها وبرامجها وسياساتها ومواقفها السياسية. ولعل الركيزة الأهم في بيان المرجعية الدينية، بأنه لم يذكر فيه القوى او الاحزاب السياسية، ولم يخاطبها والحكومة الحالية، ولم يوجه لها دعوة، بقدر ما كان بيانه قائم على اساس دعوة النخب الواعية والمجتمع الى تحمل المسؤولية، وهو ما يؤشر على استمرار عدم الرضى والقبول من قبل المرجعية الدينية للقوى السياسية الحاكمة ومقاطعتها لها بشتى الصور، بعدما تجاهلت توصياته لسنواتٍ عدة وهو يرشدها لإصلاح الوضع العام في البلاد، ولاسيما بعد انتفاضة تشرين عام 2019. فضلًا عن تحايلها على توصياته وخطبه السياسية بمسألة "المجرب لا يجرب" والالتفاف عليها بشكل أو بآخر. 

فربما تكون هذه الدعوة هي الاخيرة للمرجعية الدينية بخصوص إصلاح الوضع السياسي ومنع التدخلات الخارجية، وربما لم تكن لتأتي لولا زيارة مبعوث الامم المتحدة، أو قد تكون المرجعية الدينية استغلت زيارة المبعوث الأممي لإرسال رسالتها الاخيرة للقوى السياسية الحاكمة في محاولة انقاذ العراق من دائرة الصراع في الشرق الاوسط، والالتفات إلى وضعه الداخلي والاهتمام بشعبه وسيادة ارضه، بعيدًا عن التدخلات الخارجية.

 إلا أن القوى السياسية العراقية كعادتها ستحاول أن تستغل دعوة المرجعية الدينية مرة أخرى وتستقطبها لصالحها، وهو ما بانت ملامحه عبر التسابق بين القوى والاحزاب والشخصيات السياسية العراقية إلى تبني بيان المرجعية الدينية وجعلها خارطة طريق لإدارة الحكم والسلطة والدولة بشكل عام.

 وهو ما يمكن أن ندخله في خانة الالتفاف السياسي الذي اتبعته القوى السياسية الحاكمة اتجاه خطب وارشادات وتوصيات المرجعية الدينية على مدار عقدين الماضيين، وهي ترشدهم إلى إصلاح الوضع السياسي والابتعاد عن التدخلات الخارجية وسياسة المحاور والنأي بالنفس ومكافحة الفساد وتعظيم دور المجتمع والنخب الاجتماعية الواعية وحصر السلاح بيد الدولة. 

فالقوى السياسية العراقية تعرف جيدًا كيف تتعاطى او تتعامل مع خطب ووصايا المرجعية الدينية في النجف الاشرف، سواء في طبيعة تعاطيها او الالتفاف عليها، كما حصل في دعواته السابقة في عام 2015 في عهد حكومة السيد العبادي ابان تصاعد حركات الاحتجاج الشعبي، أو قبلها وفي المواسم الانتخابية بمقولته المعروفة "المجرب لا يجرب" أو في دعواته الإصلاحية أثناء تنامي الحراك الشعبي لانتفاضة تشرين، أو في تكراره لعبارة "حصر السلاح بيد الدولة".

 لهذا فالقوى والاحزاب السياسية لها الخبرة الكافية في تقويض هكذا دعوات، وقد بدأت بالفعل بتقويض دعوة المرجعية الاخيرة في دعوتها لحصر السلاح بيد الدولة، بحجة أن بيان المرجعية لم يسمي جهة بذاتها ولم تؤشر لجهة دون أخرى بضرورة حصر سلاحها. 

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2024

www.fcdrs.com

اضف تعليق