منذ سنوات، يشكل الفساد تحديًا كبيرًا أمام الاقتصاد العراقي. إنه كالوحش الذي يقف عائقًا أمام النهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة، في قلب هذا الفساد تقف حيتان الفساد، وهم الأشخاص والمؤسسات النافذة الذين يستخدمون سلطتهم ونفوذهم لتعزيز مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة البلاد...

في حوار ممتع مع عالم الاقتصاد العراقي المعروف الدكتور عبد الحسين العنبكي، مستشار رئيس مجلس الوزراء، قال: "ان الاقتصاد فلسفة"، وهدف الفلسفة الاقتصادية هو: "تقديم نماذج يراد لها تعظيم وتدني للإيرادات وللكلف وفقا واقع البلد ومرحلة تطوره. هنالك دالة هدف وعدد كبير من دوال القيود. براعة الاقتصادي هو أن يخفف من تأثير دوال القيود من أجل بلوغ دالة الهدف". 

في علم الاقتصاد، يُعتبر الاقتصاد كمجال تطبيقي يهدف إلى تحليل الأنظمة الاقتصادية وتقديم التوجيهات لتحقيق أفضل النتائج الممكنة من الموارد المتاحة. على عكس الفلسفة التي تهدف غالبًا إلى البحث عن المعاني والحقائق بشكل تجريدي، فإن الاقتصاد يتمحور حول استخدام نظريات ونماذج لتحليل وتفسير الظواهر الاقتصادية وتوجيه القرارات الاقتصادية.

يستخدم الاقتصاديون النماذج كأدوات تحليلية لتعظيم الإيرادات وتقليل التكاليف، ووضع هذه النماذج يعتمد بشكل كبير على السياق الواقعي للبلد والمرحلة التي يمر بها من التطور. هذه النماذج هي تمثيلات مبسطة للواقع، تُستخدم للاختبار، والتحليل، والتنبؤ بالعواقب التي قد تنتج عن اتخاذ قرارات اقتصادية معينة.

في إطار هذه النماذج، يُعتبر أن لكل نظام اقتصادي دالة هدف تسعى لتحقيقها، مثل تعظيم الناتج المحلي الإجمالي، أو تقليل البطالة، أو تحسين مستوى المعيشة. بجانب دالة الهدف، يوجد أيضًا عدد كبير من القيود التي تحُد من الخيارات المتاحة، مثل القيود المالية، والموارد الطبيعية، والقيود السياسية والاجتماعية.

يقول العنبكي "براعة الاقتصادي تتجلى في قدرته على تكييف وتحسين السياسات لتخفيف تأثير هذه القيود والوصول إلى دالة الهدف". على سبيل المثال، يمكن لاقتصادي بارع أن يوصي بسياسات مالية أو نقدية تساعد في تعزيز النمو الاقتصادي رغم وجود قيود على الميزانية، أو أن يطرح إصلاحات هيكلية تزيد من كفاءة السوق وتقلل من تأثير القيود التنظيمية.

هذا التأقلم والتكييف هو جوهر العمل الاقتصادي، حيث يُعنى بتحليل التوازن بين الموارد المحدودة والاحتياجات غير المحدودة، والتأكد من أن استخدام هذه الموارد يحقق الهدف بأكثر الطرق كفاءة وأكثرها استدامة.

بعبارة مختصرة، يمكن القول بأن الاقتصاد ليس فلسفة لأجل الفلسفة بل هو ممارسة مبنية على منهج علمي يستخدم النماذج النظرية لتحليل وتأطير السياسات بناءً على واقع معين وتطلعات مستقبلية محددة. هو علم يتطلب التوازن الدقيق بين التفكير النظري والتطبيق العملي لتحقيق أهداف اقتصادية مفيدة ومستدامة في ظل التحديات والقيود التي تفرضها البيئة المحيطة.

تحقيق النهضة الاقتصادية يمثل احد محاور تفكيري وانشغالاتي بالشأن العراقي. فقد اورثنا النظام الدكتاتوري بلدا ذا اقتصاد منهك، يعتمد على الموارد النفطية، ولا ينتج سلعه الاساسية، ومواطن استهلاكي، وسياسات نقدية بائسة.

ومع ان العراق يزدحم بالمفكرين الاقتصاديين القادرية على رسم خطط وبرامج الاصلاح السياسي الى جانب رجال الاعمال الوطنيين، الا ان السياسيين الذين لا يفكرون بأكثر من سنوات وجودهم في السلطة، وحيتان الفساد يشكلون تحالفا يحول دون تحرك البلد، مجتمع ودولة وحكومة، باتجاه الإصلاح الاقتصادي.

منذ سنوات، يشكل الفساد تحديًا كبيرًا أمام الاقتصاد العراقي. إنه كالوحش الذي يقف عائقًا أمام النهضة الاقتصادية والتنمية المستدامة. في قلب هذا الفساد تقف "حيتان" الفساد، وهم الأشخاص والمؤسسات النافذة الذين يستخدمون سلطتهم ونفوذهم لتعزيز مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة البلاد.

تشكل محاربة الفساد مسؤولية جماعية تتطلب تكاتف جميع فئات المجتمع لتحقيق التحول المنشود. الربط بين الشفافية والمساءلة والتنمية الاقتصادية هو المفتاح لتحرير العراق من قيود الفساد والانطلاق نحو مستقبل مزدهر ومستدام.

اضف تعليق