ان إسرائيل لا تمتلك القدرة على الدخول في حرب شاملة على كل جبهات المواجهة الممكنة والممتدة من اليمن الى غزة. كما أنها لن تتمكن من مواجهة الضغط الدولي لإيقاف الحرب، بخاصة حين ترتفع أسعار النفط. هذا فضلاً عن أن كل معادلات الدعم الأمريكي والدولي لإسرائيل ستتغير أذا أصبح ترامب سيداً للبيت الأبيض مجدداً...
عليك أن تبدو ضعيفاً حينما تكون قوياً، وتبدو قوياً حينما تكون ضعيفاً صن تسو فن الحرب
أنشغل العالم والمحللون، وأنا منهم، بتحليل أسباب ضعف الهجوم الإسرائيلي على أيران فجر السبت 26 أكتوبر. وتكاد تجمع كل التحليلات على نجاح الإدارة الامريكية في الضغط على اسرائيل للحد من سعة وآثار هجومها الانتقامي لتجنب رد أيراني قوي ومن ثم احتمال اندلاع حرب إقليمية تتورط فيها امريكا، وتقفز بسببها أسعار النفط كثيراً مما سينهي آمال الديموقراطيين بالبقاء في البيت الأبيض. لكن معظم التحليلات أغفلت بعدَين مهمين: الأول هو الصورة الأكبر لذلك الهجوم، والثاني هو رد الفعل الإيراني وما يمكن أن يحدث في اليوم التالي. سأبدأ بتحليل البعد الاستراتيجي للهجوم الإسرائيلي الذي يخطئ من يضعه بمعزل عن العدوان على لبنان وغزة. ان مبدأ وحدة الساحات بات هو الحاكم للاستراتيجية الإسرائيلية على ما يبدو. فالصورة الكلية للصراع تدل بوضوح أن إسرائيل باتت تتعامل مع ما تعتبره عدو وجودي موحد له أطراف ممتدة من اليمن للبنان عبر العراق وسوريا، لكن رأسه المفكر يكمن في طهران. لذا يجب تحليل الضربة الإسرائيلية ضمن هذا المنظور. لقد بدا العدو الصهيوني ضعيفاً في رده، فهل كان فعلاً كذلك؟
ان من يرصد العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ بدايتها في غزة ثم امتدادها للبنان، بعين خبيرة، يفهم أن هناك استراتيجية شاملة Grand Strategy تحكم كل الأبعاد العملياتية ومنها هجوم فجر السبت الماضي على أيران. فسواء في غزة أو في لبنان، يلاحظ أن العدو الصهيوني بدأ كل عملياته بما يسمى باللغة العسكرية بعمليات التجريد العميق Deep Strike Operations . يقصد بعمليات التجريد العميق تدمير أو تعطيل قدرات القيادة والاتصالات للعدو وشل قدرته على أدارة عمليات عسكرية فعالة. هذه العمليات تستهدف البنية التحتية الحيوية، مثل مراكز القيادة، وشبكات الاتصالات، وخطوط الإمداد، بهدف إضعاف قدرة العدو على التنسيق والرد بفاعلية.
تعد حملة الهجوم الجوي والعمليات الخاصة التي قامت بها أمريكا في ما سمي بعاصفة الصحراء ضد الجيش العراقي في بداية 1991 أوضح مثل في العصر الحديث على هذه الاستراتيجية. فقد أستمرت عمليات التجريد الاستراتيجي للقوة العراقية طوال شهر كامل تقريباً واستهدفت تدمير كل منظومات القيادة والسيطرة والاتصالات والتنقل ومخازن السلاح والعتاد والصواريخ ومنشآت تصنيعها. هذا فضلاً عن استهدافها النفسي الكبير والمدمر للمقاتلين والجبهة الداخلية.
لذا فعندما بدأت القوات الأمريكية الأرضية حركتها فعلاً لم يستغرق منها الأمر أكثر من بضع أيام لإعلان انتصارها. وقد تكررت نفس الاستراتيجية تقريباً عند احتلال العراق في 2003.في بداية هجومه على غزة، ثم لبنان أيضاً، حرص العدو الصهيوني على ضرب منظومة القيادة والسيطرة من خلال استهداف القيادات الميدانية، ومواقع القيادة والاتصالات ومستودعات الأسلحة والاعتدة، وتدمير البنية التحتية وخلق حالة رعب بين المدنيين.
كما حرص على التعامل مع كل جبهة (عملياتياً وليس استراتيجيا) على حدة. أي وحدة الجبهات أستراتيجياً، وفصلها عملياتياً. فهدّأ من خلال الضغط الأمريكي والدولي وكذلك التهديد والحرب النفسية، من الجبهة اللبنانية والإيرانية وأسنادهما الفاعل لغزة لحين أنهاء القدرات الأساسية لحماس، وسمح للجيش الصهيوني بالانفراد (تقريباً وليس كلياً) بمقاتليها.
واليوم يفعل نفس الشيء في لبنان أذ عزلها عن عمقها الاستراتيجي (ايران) بخاصة بعد الهجوم الجوي الأخير عليها والذي يجبر أيران أن لا ترد بقوة، كما يجعلها لا تفكر باستفزاز الصهاينة من خلال مزيد من الدعم لحزب الله، كي لا تغضب أميركا وتبدو هي المعتدية! ضمن نفس الاستراتيجية نفهم لماذا بدأ العدوان على لبنان بضرب منظومة البيجرات، وحملة الاغتيالات المنظّمة لقيادات حزب الله، وضرب كل مواقع القيادة في الضاحية، وتدمير وحصار طرق المواصلات التي تؤمن الأسناد لحزب الله سواء عن طريق البر أو الجو أو البحر.
وهكذا نفهم أيضاً لماذا ركز الهجوم الجوي الأخير على أيران على منظومات الدفاع الجوي S300 والتي لا يمكن تعويضها، ومصانع الصواريخ وتسهيلاتها وبما يضمن هدفَي الحد من قدرات أيران على مهاجمة إسرائيل أولاً، وفتح المجال الجوي الإيراني أمام سيادة جوية إسرائيلية يمكن استثمارها في مزيد من الهجمات المدمرة مستقبلاً وحينما يسمح الموقف السياسي والعسكري بذلك ثانياً، وعدم اغضاب الإدارة الأمريكية فضلاً عن الحصول على تعويضات مهمة منها(مثل بطريتي ثاد) ثالثاً.
ان كل ما يحصل حالياً كما يبدو من منظور استراتيجي، يقع ضمن مخطط شامل يتم تنفيذه على مراحل يبدأ في كل مرحلة باستهداف الرأس (القيادة والسيطرة) والقلب (تدمير البنية التحتية والخسائر المدنية الهائلة التي تثير الرعب وتضغط نفسياً)، ثم الانتقال الى معالجة الأذرع ميدانياً وعملياتياً. هذا يعني أن من المرجح أن إسرائيل لن توقف عدوانها حالياً.
هنا أنتقل للبعد الثاني أي ما يجب على أيران فعله. باعتقادي فأن أكبر تهديدَين استراتيجيين يواجهان إسرائيل اليوم هما وحدة الجبهات على الصعيد العسكري، والضغط الدولي عليها لإيقاف الحرب على الصعيد السياسي.
ان إسرائيل لا تمتلك القدرة على الدخول في حرب شاملة على كل جبهات المواجهة الممكنة والممتدة من اليمن الى غزة. كما أنها لن تتمكن من مواجهة الضغط الدولي لإيقاف الحرب، بخاصة حين ترتفع أسعار النفط. هذا فضلاً عن أن كل معادلات الدعم الأمريكي والدولي لإسرائيل ستتغير أذا أصبح ترامب سيداً للبيت الأبيض مجدداً.
هذا يعني أن أمام أيران فرصة جيدة لكن محدودة الزمن لمهاجمة إسرائيل وإيذائها وتفعيل كل ساحات المواجهة ضدها. لا أعتقد أن إسرائيل ستكتفي، بخاصة أذا جاء ترامب، بالرد الذي قامت به قبل يومين على أيران فهدفها النهائي هو أنهاء أو تحييد التهديد الإيراني وأذرعه في المنطقة.
واذا كان الوقت الآن يعمل لمصلحة أيران وضد إسرائيل، فأنه بالتأكيد لن يدوم كذلك بخاصة بعد أن تنهي إسرائيل قدرات حزب الله كما فعلت مع حماس من جهة، ويحل ترامب في البيت الأبيض فضلاً عن سيطرة الجمهوريين على غرفتَي الكونغرس كما هو متوقع من جهة أخرى. قد تبدو إسرائيل ضعيفة، لكنها كذلك. وفد تبدو خيارات أيران محدودة لكنها ليست كذلك. أن من يعرف ماذا يدور بعقل العدو، وليس فقط ما يمتلكه من قدرات، هو من سيربح الحرب في النهاية.
اضف تعليق