الاقتباس الثقافي لا يكون فعالا وذا جدوى إذا لم يكن هناك مشروع نهوض ثقافي – اجتماعي.. لأن الركود الاجتماعي والجمود الثقافي يحولان الاقتباس إلى معول هدم للبنى الثقافية الذاتية.. بينما وجود حالة نهضوية، يجعل كل بنى الذات الثقافية، متحركة ويقظة، إلى كل عوامل الهدم التي تحملها الثقافات المغايرة...
لا تعترف الثقافات والأفكار بالحدود والسياج التي يصنعها البشر، لمنع تسرب الأفكار من مجتمع لآخر، ومن فضاء معرفي إلى فضاء معرفي مغاير؛ لهذا فإنه مهما اجتهد البشر في استحداث وسائل وتقنيات، تمنع الأفكار الموجودة لدى مجتمع ما من التسرب والوصول إلى المجتمع الآخر.. فإنهم لن يتمكنوا من تحقيق ذلك؛ لأن الأفكار تأبى على الحبس والتقوقع في حدود جغرافية – اجتماعية معينة..
وكل الوسائل والآليات التي تستخدم لحبس الأفكار والحؤول دون وصول وتواصل الثقافات الإنسانية مع بعضها البعض، فإن مآلها الأخير هو الفشل وعدم القدرة على حبس الأفكار والثقافة.. فعالَم الأفكار بطبعه، يأبى الانحباس والتقوقع، وإذا لم تكن الظروف مؤاتية لانتشاره وتواصله الطبيعي، فإنه يتسرب بطرق ناعمة، لا تتمكن كل وسائل المنع من منعه والحؤول دون تسربه..
من هنا فإن تلاقح الأفكار وتفاعل الثقافات من السمات الأساسية لعالم الأفكار والثقافات بصرف النظر عن مصادرها ومنابعها العقدية والحضارية..
بمعنى أنه بصرف النظر عن الموقف القيمي، تجاه هذه الأفكار والثقافات، فهي تتلاقح مع بعضها، وتتواصل وتتواشج، حتى ولو كانت روافدها متعددة ومصادرها متنوعة.. وكل ثقافة إنسانية، تمتلك في داخلها آليات أو نظما معرفية محددة، خاصة بعمليات التلاقح الفكري والتفاعل الثقافي. بحيث تستطيع كل ثقافة استيعاب المنسجم والمتناغم، وإبعاد غير المنسجم والمتناغم..
وهذه العملية (أي عملية الاستيعاب والإبعاد)، لا تتم بوسائل قسرية، قهرية، وإنما تتم وفق آليات وميكانيزمات العمل الثقافي والمعرفي..
لذا فإنه من الضروري التفكير الجاد، في توفر منهجية معينة، لتنظيم علاقة الثقافات مع بعضها البعض، حتى يكون تفاعل الثقافات مع بعضها تفاعلَ بناء وتطوير، لا مماحكة تقتل منابع الإبداع، ومكامن التطوير في الثقافات الإنسانية..
وعلى المستوى الواقعي لا توجد ثقافة إنسانية، قادرة على الاستغناء عن عملية الاحتكاك والتفاعل والتغذية المتبادلة.. لذلك فإن منع الثقافات الإنسانية من التفاعل مع بعضها البعض، يضر بالجميع، ويساهم في إفقار حقيقي لكل الثقافات الإنسانية..
فالتواصل والتفاعل والاستيعاب والتغذية المتبادلة، كلها عناوين ومساحات معرفية واجتماعية، تساهم في إغناء الثقافة الإنسانية، وتزخيمها بروافد معرفية عديدة ومتنوعة في آن..
ونحن في هذا المقال، سنتحدث عن جانب من جوانب هذه المنهجية التي تربط الثقافات الإنسانية مع بعضها..
وهذا الجانب هو في نمط ومنهجية الاقتباس بين الثقافات الإنسانية..
وابتداء نقول، إن من الأمور الطبيعية، أن الثقافة الغالبة والسائدة، والتي تقدم إجابات عن أسئلة وإشكاليات معاصرة.. تدفع أصحاب الثقافات الأخرى إلى الاقتباس منها، والاستفادة من إبداعاتها ومنجزاتها المعرفية والفكرية..
أي أن هناك عوامل عديدة بعضها معرفي، والبعض الآخر سياسي واجتماعي وحضاري، كل هذه العوامل تساهم في إبراز وتظهير ثقافة حضارية معينة، تكون في موقع الاقتباس والتفاعل معا.. وهذا الأمر يرتبط بشكل أساسي بالمجتمعات التي تقود المسيرة الحضارية في عصرها وراهنها.. فالمجتمعات التي تقود الحضارة، هي المجتمعات التي تكون ثقافتها، هي الثقافة التي يقتبس منها، وتكون بعض معاييرها الخاصة، هي معايير العامة التي ينبغي الخضوع إليها في حقل العلاقات الإنسانية والدولية والحضارية..
والاقتباس كعملية ثقافية، تعني الاستفادة من المنجز الثقافي الذي حدث في فضاء ثقافي مغاير، والعمل على إدخاله في الثقافة الذاتية..
وعبر التاريخ الثقافي للشعوب، كانت الشعوب المتأخرة حضاريا، تقتبس من ثقافة الشعوب المتقدمة حضاريا..
والاقتباس هنا يأخذ معنيين:
المعنى الأول: اقتباس تقنية حديثة ومنجز حضاري، من الثقافات والحضارات الأخرى..
بحيث يتمكن مجتمع عبر تطوره التاريخي والمعرفي، من إبداع وسائل وآليات أو يبني أنظمة ومؤسسات، تساهم في أن يكون المجتمع المعني أقرب بهذه الأنظمة والآليات إلى قيم الحرية والعدالة.. فتتحول هذه الأنظمة والآليات، إلى أنظمة وآليات عابرة لحدود المجتمعات والأمم.. ولعل أبرز مثال على ذلك، ما أبدعته الإنسانية من أنظمة دستورية وقانونية وديمقراطية، لتسيير شؤونها العامة.. فإن هذه الأنظمة، بصرف النظر عن فلسفتها الخاصة، أضحت أنظمة مستخدمة في كل مجتمع، ينشد الحرية والعدالة..
والمعنى الثاني: اقتباس مفاهيم وأنظمة معرفية من الثقافات والحضارات الأخرى..
والمشترك الإنساني، يشكل القاعدة المهمة والفعالة، لتفاعل الثقافات مع بعضها، واقتباس المفيد منها، والعمل على هضمه وتكييفه وتبيئته..
وعملية الهضم والتكييف، ليست عملية بسيطة وسهلة، وإنما هي عملية حضارية متكاملة.. تتطلب من المجتمع النهوض المعرفي والحراك العلمي والإبداعي، حتى تتوفر في فضائه ومحيطه، كل ممكنات التكييف والاستيعاب والهضم..
بمعنى أن المجتمع الجامد، والساكن، لا يمكنه أن يقوم بعملية التكييف والاستيعاب.. وحده المجتمع الحي والحيوي والناهض، هو القادر على تبيئة المنجزات المعرفية والحضارية، واستيعاب مكاسب الحضارة الحديثة.
جدوى الاقتباس
من الطبيعي القول إن الاقتباس الثقافي لا يكون فعالا وذا جدوى إذا لم يكن هناك مشروع نهوض ثقافي – اجتماعي.. لأن الركود الاجتماعي والجمود الثقافي يحولان الاقتباس إلى معول هدم للبنى الثقافية الذاتية.. بينما وجود حالة نهضوية، يجعل كل بنى الذات الثقافية، متحركة ويقظة، إلى كل عوامل الهدم التي تحملها الثقافات المغايرة.. إلا أنه من الأهمية بمكان، أن لا تتم هذه العملية بشكل فوضوي أو بدون ضوابط منهجية واضحة.. لأن ذلك يؤدي إلى فوضى مفهومية ومصطلحية الاستمرار فيها لا يؤدي إلا إلى المزيد من التدهور المعرفي.. لهذا فإن عملية الاقتباس من الثقافات الإنسانية ينبغي أن تتم وفق الضوابط التالية:
1- قياس الجدوى الحقيقية:
بعيدا عن المضاربات الفكرية، والآراء المختلفة حول موقع الثقافات الإنسانية في المنظومات الثقافية والمعرفية الذاتية..
نقول إن قاعدة الاقتباس ليس التقليد المحض لثقافات الغير، مما يؤدي بنا إلى إسقاط درجات التطور الثقافي والاجتماعي المتوفرة لدى غيرنا، على واقعنا ومجتمعنا..
إننا نرى أن من الضوابط الأساسية لعملية الاستفادة القصوى من ثقافات الإنسان المعاصر، هو قياس درجة الحاجة الحقيقية لهذه الفكرة أو هذا التصور أو تلك الآلية لواقعنا..
ومن خلال هذا القياس، نحدد موقفنا من تلك الفكرة أو التصور أو الآلية.. وعلى حد تعبير أحد المفكرين المعاصرين: أن يكون النموذج المطلوب استدعاؤه مما يفيد حقيقة، فلا نستحضره باعتباره محض تقليد لمجتمعات أخرى أو لحضارات غازية، ووجه الفائدة الحقيقية نقيسه بمدى حاجتنا لهذا الأمر في إطار بُعده الفعال في الاستجابة لواحد من التحديات الأساسية التي تواجه جماعتنا ومجتمعنا..
وقياس الجدوى بالمعنى الحضاري، يحتاج باستمرار إلى دينامية وقوة دفع، حتى تمكّن المجتمع عبر قواه الذاتية وفعالياته المجتمعية، من تحديد حاجاته الفعلية، وآليات تحقيقها وإنجازها..
2- الفصل بين العلم والأيدلوجيا:
لعل من المآزق المنهجية التي تواجه عملية الانفتاح والتواصل الدائم مع الثقافات الإنسانية المغايرة.. هو في نقل واقتباس العلم مع خلفيته الأيدلوجية وفلسفته العامة، التي تعكس بشكل أو بآخر البيئة العقدية والحضارية لموطن العلم الأصلي..
لهذا فإن من الضوابط المنهجية التي ينبغي مراعاتها في عملية الاقتباس والاستفادة من المنجز الثقافي والمعرفي الإنساني.. هو الجهد المكثف الواعي والرشيد لفصل العلم عن الأيدلوجيا، حتى نستفيد من المنجز العلمي، دون تسرب فلسفة ذلك المنجز المغايرة لفلسفتنا ونظرتنا إلى العلوم والثقافات.. وهذه العملية ليست معادلة رياضية أو مركبا طبيعيا، وإنما هي عملية في غاية الصعوبة، لأننا نتعامل مع ثقافة تمتلك إمكانات مادية وعلمية وتقنية هائلة، ووصلت بشكل مباشر إلى القواعد الاجتماعية..
لهذا فإننا نرى أن عملية الفصل الموضوعي بين العلم والأيدلوجيا، لا تتم عبر استدعاء المنجز من قبل فئة تدعي الأصالة أو تزعم التشبث بالقيم والتقاليد.. وإنما يتم على قاعدة النهوض العام.. فالمجتمع الذي يعيش الجمود والترهل العقلي، لا يمكنه بجموده وتكلسه أن يتفاعل بشكل إيجابي مع المنجز الثقافي والعلمي.. لأن شرط التفاعل مع هذه المنجزات هو الفعالية العقلية والحركة الاجتماعية الناشطة.. وحينما يفقد المجتمع هذين العنصرين، فإن تواصله مع المنجزات العلمية سيخلق لديه شيزوفرينيا فكرية واجتماعية، وسيصاب المجتمع بفوضى في المفاهيم ومعايير الحكم والتقويم..
لذا فإن الفصل لا يؤتي ثماره المرجوة إلا على قاعدة فعالية عقلية وحركة اجتماعية مجتهدة، تطمح إلى التغيير وتتطلع إلى التجديد.. فالمجتمع الحي والحيوي هو الذي يتمكن بحيويته ويقظته وقلقه على حاضره ومستقبله، أن يتفاعل مع المنجز العلمي والتقني، دون أن تتسرب أيدلوجيته وفلسفته المغايرة..
3- القدرة على ربطه بالسياق الحضاري:
وإننا إذ نرى أن عملية الاقتباس العلمي والمعرفي من الآخرين جزء من عملية التواصل الإنساني، فإننا نرفض أن نجعل الآخر الغالب هو الأصل الذي يجب أن يقاس عليه.. لأن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وطريقته في النمو والتقدم والإبداع.. إضافة إلى أن طريقة القياس المذكورة " لا تبني نظاما معرفيا، ولا تقود إلى تشكيل وعي شمولي حول ثقافة المجتمع العربي ولا حول ثقافة الغرب، وبالتالي فهي لا يمكن أن تقود إلى نقد أي من النظامين أو دراستهما دراسة مقارنة "على حد تعبير الفضل شلق.. فلكل أمة الحق في أن يكون لها مشروعها الحضاري المستقل، والذي يعبر بصدق عن هويتها وخصائصها العقدية.. وليس من المعقول أن نطالب أمة من الأمم، أن يكون مشروعها الحضاري مستعارا من الآخرين.. لأن هذا استلاب للأمة في أهم خصائصها وقطب مسيرتها.. والاقتباس المعرفي والثقافي لا يعني استعارة المشروع الحضاري للأمة من الأمم الأخرى.. وإنما يعني الانفتاح الرشيد والتواصل الإنساني القويم المتجه إلى استنفار كل طاقات الذات وإمكاناتها في سبيل هضم منجزات العصر، وإدراك متطلباته، والحصول على تقنياته على قاعدة العلم والمعرفة بها، لا على قاعدة الانبهار النفسي بها.. لأن الانبهار النفسي هو الذي يلغي كل عوامل التفاعل الخلاق مع التقنية والمنجز العلمي الحديث..
ويشير كتاب (هل اليابانيون غربيون) الصادر عام (1991 م) إلى نمط الاقتباس المتبع عند اليابانيين بقوله: إن الأشياء والأفكار الغربية كانت تدخل إلى الجماعة، بعد أن يتم استيعابها وهضمها أولا ثم تحويلها إلى مادة يابانية..
بهذه الضوابط تكون عملية الاقتباس من الثقافات الأخرى حالة طبيعية، وذات تأثير إيجابي على المسار الثقافي والاجتماعي العام.. وإن هذه الضوابط هي التي تنقل نخبتنا ومؤسساتنا التعليمية والعلمية والبحثية، من واقع النقل الميكانيكي للمفاهيم والنظريات المنتجة في الثقافات الأخرى، إلى ممارسة التفكير فيها تحليلا وانتقادا مما يتيح التفكير في مدى صلاحيتها..
وبهذا تكون عملية الاقتباس مشاركة في الجهد الثقافي والمعرفي، وليس انفعالا وإسقاطا.. وذلك بسبب الجهد الذي سيبذل في إطار توفير الظروف الذاتية والموضوعية لعملية الاقتباس من الثقافات الإنسانية الأخرى..
اضف تعليق