بعد أن بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا من خلال اشتراك سلاح الجو والصواريخ لديها في ضرب معاقل الفصائل المسلحة المعارضة للنظام، كتب السيد (بول سالم) المدير السابق لمركز كارنيغي للشرق الأوسط مقالا حمل عنوان (التحرك الروسي نحو سوريا: السياقات والنتائج)، نشره معهد الشرق الأوسط بتاريخ 21/9/2015 تنبأ فيه إلى أن هذا الموقف الروسي يقود إلى "خلق موجة من النشاط الدبلوماسي؛ لإيجاد حل للأزمة السورية، ومحاولة جديدة للتصدي لتنظيم "داعش" في هذا البلد، لكن شروط النجاح على كلا الجبهتين (جبهة النظام وحلفائه، وجبهة أعداء النظام وحلفائها) ما تزال غائبة"، وبيّن أن موقف الرئيس الروسي بوتين يذهب إلى "التفاوض حول الانتقال السياسي (في سوريا) مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وغيرهم من اللاعبين للتوصل إلى اتفاق حول شروط الصفقة، لكن الشيطان ما يزال يسكن، ليس في التفاصيل، وإنما في دور الأسد".
روسيا وحلفاء الأسد الآخرين وإيران على حد سواء يقولون بأنهم غير متمسكين به، وأن اختيار رئيس سوريا في المستقبل يعود الى الشعب السوري.. لكن كل من روسيا وإيران يصران على أنه في الوقت الحاضر، وفي المستقبل القريب، يجب أن يبقى الأسد حليفا في الحرب على "داعش" والمجموعات الإرهابية الأخرى.. (بينما خصوم الأسد) "يعتقدون أن استبدال الأسد، أو على الأقل نقل صلاحياته التنفيذية الرئيسة في يد حكومة انتقالية هو شرط أساس لكسب الحرب ضد تنظيم داعش". وينهي السيد سالم مقاله بالقول: "فقط تسوية سياسية واقعية تتضمن رحيل أو عدم تمكين الأسد سوف تمكن كلا من النظام وقوات المعارضة من التحول من الاقتتال فيما بينهم إلى مقاتلة تنظيم داعش".
ويبدو أن هذه التوقعات لها مقدار كبير من الصحة، ففي يوم الجمعة الماضية (30/10/2015) اختتمت محادثات مهمة حول إيجاد حل للأزمة السورية في فيينا، سبقتها لقاءات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا انتهت بالاتفاق على إجراء هذه المحادثات التي حضرها وزراء خارجية 17 دولة، من بينها أطراف تجتمع لأول مرة على طاولة واحدة كالمملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، مع غياب واضح للطرف السوري نظاما ومعارضة. وبعد ثمانية ساعات من المحادثات التي وصفها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بأنها (قاسية وصعبة وشاقة)، اتفق المجتمعون على الإدلاء ببيان فقط مع المضي إلى عقد محادثات أخرى بعد أسبوعين، واللافت للنظر في هذه المحادثات أنه مع بقاء الخلافات مع إيران وروسيا حول المستقبل السياسي لبشار الأسد كما بين ذلك وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلا أن ما رشح من تصريحات تشير إلى أنه من المحتمل أن يكون مصير الأسد بدأ الحديث عنه لأول مرة بشكل جدي كجزء من حل الأزمة السورية. فقد صرح فابيوس أن الاجتماع "شهد تقدما في عدد من المسائل"، وأضاف "لقد تطرقنا إلى كل المواضيع حتى الأكثر صعوبة منها. هناك نقاط خلاف، لكننا تقدمنا بشكل كاف يتيح لنا الاجتماع مجددا بالصيغة نفسها.. هناك نقاط ما نزال مختلفين حيالها.. إلا أننا اتفقنا على عدد معين من النقاط، خصوصا حول الآلية الانتقالية، وإجراء انتخابات، وطريقة تنظيم كل ذلك، ودور الأمم المتحدة".
وهذا الكلام يتوافق مع ما صرح به وزير الخارجية الروسي لافروف الذي قال: "اتفقنا على أن الأمم المتحدة يجب أن تشارك في الانتخابات السورية.. وسيبدأ العمل بشكل جدي بتنفيذ مبادئ الاتفاق المشترك، والجميع عبروا عن استعدادهم لتطبيق الحلول الوسطية". من جانبه وزير الخارجية الأمريكية كيري كان واضحا جدا في تحديد معالم هذا الاتفاق، إذ قال: "اتفقنا على أن الشعب السوري هو الذي يقود العملية السياسية وهو من يقرر مصير البلاد"، وأكد "أنه اتفق مع لافروف وظريف (وزير الخارجية الإيراني) على أن سوريا تحتاج إلى خيار آخر.. وهذا مغزى الاجتماع رغم خلافاتنا؛ لأنه حان الوقت لوقف إراقة الدماء السورية".
وهذه التصريحات والمواقف التي أعقبت الاجتماع تدل على أن الجميع بدأوا يفكرون جديا في حل الأزمة السورية حتى لو كان الحل رحيل الأسد الآمن بالنسبة لحلفاء النظام، ورحيله مع حفظ ماء الوجه وضمان مصالح حلفائه بالنسبة لخصومه، وغياب ممثلي المعارضة والنظام عن الاجتماع يدل على أن تقرير هذه النتيجة لم تعد شأنا سوريا خالصا، بل شأنا يقرره اللاعبون الكبار في العالم والمنطقة، كما أن بدء هذه المحادثات يأتي بعد الحرج الذي يشهده التحالف الدولي المضاد لـ"داعش" بقيادة الولايات المتحدة؛ بسبب عدم إحراز نتائج ملموسة على الأرض، والتحرك العسكري الروسي المتفق على حدوده مع إدارة أوباما بعد توقعات بسقوط وشيك للنظام على يد المعارضة المسلحة، وقبول إيران كشريك إقليمي قوي معترف به بعد الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، وموجة الهجرة السورية إلى أوروبا وما أثارته من مشاكل ديموغرافية وأمنية، وتنامي وتمدد جماعات التطرف والإرهاب..
كل ذلك يدل على أن أطراف النزاع الرئيسة وصلت إلى قناعة بأن الوقت قد حان لبدء مفاوضات التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في سوريا ترضي الجميع، وهذه المفاوضات تذكرنا بمفاوضات الملف النووي الإيراني، فهي قد تستغرق وقتا ما إلا أنها ستؤول بحل ينهي الأزمة، ولكن تحتاج هذه التسوية إلى مرتكزات تجعلها ناجحة وفاعلة، منها:
- عدم تكرار السيناريو العراقي والليبي في سوريا، بمعنى أن الهيكل المؤسساتي للدولة السورية ولاسيما الجيش والأجهزة الأمنية، يجب المحافظة عليها مع إدخال إصلاحات هيكلية وفنية فيها تجعلها فاعلة، فوجود هذا الهيكل المؤسساتي كفيل بإعادة النظام إلى الفوضى السورية العارمة، وبدونه سيكون تقسيم سوريا واستمرار تناحرها القومي والطائفي المأساوي هو السيناريو الراجح، على الرغم من كل الجهود الدولية والإقليمية الرامية إلى إحداث فرق ما.
- التنسيق الدولي والإقليمي السياسي والأمني المشترك هو محور النجاح في تخطي الأزمة السورية، وفتح الباب لتجفيف منابع التطرف والإرهاب، لذا لا يمكن للتنسيق السياسي أن يأخذ مداه من النجاح بدون التنسيق العسكري، ومن مستلزمات هذا التنسيق عدم فصل ملفات المنطقة بعضها عن بعض، فقضايا المنطقة واحدة واللاعبون الدوليون والإقليميون هم أنفسهم وإن اختلفت أدواتهم هنا وهناك، والتطرف والعنف اليوم يغذي بعضه بعضا، فالمطلوب من جميع الأطراف الفاعلة أن تتخلى عن سياسة حافة الهاوية، وتفكر جديا وعمليا بسياسة التعاون البنّاء الذي يحفظ مصالح الجميع، وقد يقتضي الحال منها عزل أجنحتها المتطرفة وعملائها المتطرفين أيضا، على الأقل في هذه المرحلة؛ لتحقيق السلم والأمن الدوليين.
- الاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد، فهذه المرحلة ستحتاج إلى جهود مضنية لإعادة تأهيل المجتمع ومؤسسات الدولة السورية، تبذلها الأطراف الإقليمية والدولية، وكذلك الأمم المتحدة، إذ ليس من السهولة القضاء على المتطرفين في هذا البلد بأعدادهم الكبيرة، كذلك ليس من السهولة تجاوز مشاعر الكراهية التي خلفتها سنوات الحرب والقتال، ناهيك عن حقائق الفقر واللجوء والعوق الجسدي والذهني لملايين الضحايا. نعم يمكن للتوافقات الدولية والإقليمية أن تحدد مصير حاكم ما، لكن مصير مجتمع ودولة يحتاج إلى تأهيل شعب قادر على تقرير مصيره.
- عدم إطالة زمن المفاوضات، فالوضع السوري ينهار بشكل دراماتيكي متسارع، وكل زمن تقضيه الأطراف المختلفة في المحادثات قد ينذر بمفاجئات غير محمودة العواقب، وتشبيه المفاوضات حول الأزمة السورية بمفاوضات الملف النووي الإيراني هو من المجاز، فالواقع يشير إلى الفارق الكبير بين الملفين، إذ إن الملف الأخير كان يتطلب الصبر والمطاولة والإقناع والحكمة لإحراز نتيجة فيه، أما الملف الأول فيحتاج إلى الحزم والجدية وإدراك حجم الخطر والشعور بضرورة التعاون المشترك والاستعداد للتنازل والسرعة للوصول إلى نتيجة مرضية تتلافى تطوراته الكارثية.
اضف تعليق