العلاقات الدولية في عصر التعددية القطبية

كيف يمكن للدبلوماسية الاقتصادية بوصفها أداة للقوة الناعمة أن تُعمل استثماراتها وسياساتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها العالمي؟

إن الشيء الوحيد الذي لا يتغير أن كل شيء يتغير، وعليه فلا يمكن أن تُحتكر القوة بأنواعها لدولة أو أكثر على مدى التاريخ، وبقدر ما يتعلق الأمر بالقوة الاقتصادية فإنها وإن كانت تجسد مظهرا رئيسيا من مظاهر السطوة الدبلوماسية فإنها تبدو في أضعف حالاتها -مهما بدت ذات منعة وقوة- إن هي دخلت في عباءة حلف خارجي...

يخطو العالم خطوات حثيثة نحو عودة النظام الدولي إلى ما كان يعرف بالتعددية القطبية - وهو وضع القوى العظمى المتعددة – وبهذا تنتهي لحظة تفرد "القطب الواحد"، والمقصود بهذه اللحظة المدة الزمنية التي هيمنت فيها أمريكا عسكريا وسياسيا واقتصاديا على مصائر الغالبية العظمى من دول العالم، والإقرار بوجود أكثر من قطب واحد في عالمنا الراهن تجد صداه حتى في أقلام كتاب أمريكيين بارزين، ومنهم (إيما أشفورد) و(إيفان كوبر)، و(بيتر هاريس) على سبيل المثال. 

ولحظة تفرد "القطب الواحد" بدأت تأريخيا حين تجاوزت معدلات القوة للولايات المتحدة في المجالات المذكورة آنفا الثنائية القطبية (أمريكا- الاتحاد السوفياتي) التي سادت في مرحلة الحرب الباردة، وآلت لصالح أمريكا مع تفكك الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وتحديدا في عام 1989م، واستمرت حتى عام 2008 لتحل محلها التعددية القطبية بحسب الكاتب مايكل بيترس، لتبدأ فصول (دراما) تغيير بوصلة الولاءات من المعسكر الشرقي إلى نقيضه الغربي، وهذه الدراما البشرية التي تقضي بتبديل الولاء من جهة إلى أخرى بحسب قوانين القوة والضعف تمثل سنة كونية جارية لا محيد عنها أبدا، ويمكن لكل أحد الاستشهاد على صحتها دائما بأمثلة من التاريخ البعيد والقريب. 

ماهية القطبية والطرح الأكثر تداولا

على صعيد توزيع المراتب في مراكز القوة العالمية يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع منها هي: القطبية الأحادية، والثنائية، والمتعددة القطبية (ويكيبيديا).

في بداية الألفية الثالثة بدت بوادر عودة الثنائية القطبية تطفو على واقع الأحداث العالمية ممثلة هذه المرة بأمريكا والصين، لكن هذه الثنائية الناشئة سرعان ما دخلت تعددية قطبية تتصدرها بطبيعة الحال أمريكا والصين، والاتحاد الأوربي وتضم دولا أخرى كروسيا والاتحاد الأوربي والهند والبرازيل، وغيرها بحسب ما نشرته في شهر آب من هذا العام نشرة الشؤون العالمية Global Affairs Gazette، ومازالت هذه التعددية تجد لها جمهورا متحمسا ومتزايدا في صفوف بعض النخب في مقابل من يرفض رفضا قاطعا فكرة وجود ثنائية قطبية فضلا عن تعدديتها، مصرا على وجود أحادية قطبية ليس إلا، هي قطبية الولايات المتحدة الأمريكية، لكن القراءة المتأنية للوقائع الراهنة تنفي وجود أحادية قطبية أو ثنائية كما كان عليه الحال في ما مضى، ولهذا فسوف يتأسس جوهر هذا المقال على فرضية التعددية القطبية؛ لأنها الأكثر تداولا وشيوعا في أوساط الكتاب والباحثين في الوقت الحاضر، وهي الأطروحة التي يصنع لها المدافعون عنها جملة من الحدود والمعايير لتأطيرها، وتنظيمها، وفي أعلى الهرم منها المعياران السياسي والعسكري الذين تتقاسمهما الولايات المتحدة والصين، ثم الاتحاد الأوروبي وروسيا، ليأتي بعد ذلك المعيار الاقتصادي الذي تكاد الهند والبرازيل أن تجاري فيه الدول السابقة، أو بعضها على أقل تقدير. 

العلاقات الدولية والمنطق القبلي 

بقدر ما يتعلق الأمر بطبيعة العلاقات الدولية في وقتنا الحاضر، وعلى الرغم من وجود منظمة الأمم المتحدة بوصفها راعية للسلام، والأمن العالمي فإن كثيرا من دولنا ماتزال ترزح تحت وطأة العدوان من طرف الدول ذات السطوة والقوة أو من يستظل براياتها، وما يزال منطق العنف واستعمال الآلة العسكرية يمارس في أقصى حدوده ضد الدول والشعوب التي لا تقوى على حماية نفسها ولا تجد لها ظهيرا قويا، ما يزال هذا المنطق المتخلف إنسانيا حاكما على الأحداث العالمية الراهنة فالولايات المتحدة الأمريكية ماتزال تمارس انتقائية واضحة في إطار مسألة فض النزاعات بصورة سلمية -وهو أشهر مبادئ الأمم المتحدة- وذلك عندما تكون هي أو أحد حلفائها طرفا في تلك النزاعات، وأحدث الشواهد على هذه المسألة ما يحدث حاليا من نزاع بين إسرائيل الحليفة الأولى لأمريكا في الشرق الأوسط ضد كل من الشعبين الفلسطيني واللبناني، والحال نفسه تجده مكررا في النزاعات التي تكون الصين أو أحد حلفائها طرفا فيها في مناطق المحيطين الهادي والهندي. وكذلك الحال في ما نشهده من تفاصيل الحرب الدائرة رحاها الآن بين روسيا وأوكرانيا، وهكذا.

فالمعادلة التي تحكم علاقات الدول بعضها مع بعضها الآخر ما تزال شديدة الشبه بالنظام القبلي الذي يُفترض أن تكون البشرية قد غادرته منذ أمد بعيد، فما عدا الدول التي استطاعت أن تجد لها موضعا في ضمن (الأحلاف) الكبيرة فإن الطابع المميز لنظام العلاقات الدولية يسير حاليا إما نحو اضطهاد الأقوياء للضعفاء، أو نحو إبرام المعاهدات البينية بين الدول الأقطاب من جهة، والدول التي تجري في فلكها من جهة أخرى، لاسيما المعاهدات الأمنية التي تجعل غالبا من الدول الصغيرة، والمتوسطة محميات للدول الكبيرة.

الاقتصاد بوصفه محركا للقوة الناعمة 

وبخصوص الاقتصاد وعلاقته بمفهوم القوة الناعمة- وهو ما نختتم به هذه السطور- فإنه يؤدي دورا مهما إلى حد كبير في تعديل موازين القوى لمصلحة الأطراف الضعيفة عسكريا وسياسيا، ولكن الاقتصاد منفردا من دون أذرع عسكرية مؤثرة يظل متعثر الخطى في تحقيق غايته الأساسية بصورة مثالية، إذ الغاية الأساسية من دبلوماسية القوة الناعمة لأية دولة تندرج في نطاق تعزيز مصالحها وقيمها، وإثبات مكانتها على مستوى العالم، كما يفعل ذلك المتبوع لا التابع، وهذا القدر من الإنجاز الاستثنائي لا يتأتى إحرازه للاقتصاد غالبا إلا بالقيد الذي ذكرناه آنفا، فهو حينئذ عظيم الأثر في تحريك عجلة القوة الناعمة باتجاه الجذب والتعاون والإقناع يتعدى في أحيان كثيرة الأثر الذي تحدثه في السياقات نفسها كل جيوش الثقافة والايدلوجيا. 

نعم يمكن للدول الثريّة والخاوية سياسيا وعسكريا أن تؤدي دور الوسيط الناجح بجدارة على خشبة المسرح العالمي، ويمكن لها أن (تتنمر) حتى ضد من يكبرها بأضعاف مضاعفة في التاريخ، والجغرافيا، والمستقبل ارضاءً لمشاعر النقص، واستقواءً بالقطب الذي تدور في فلكه وتتكئ على ذراعه. 

وصفوة القول في ما عرضناه من نقاش يتمثل في أن مراكز القوة العالمية لاسيما العسكرية والسياسية والاقتصادية تخضع لمقولة: إن الشيء الوحيد الذي لا يتغير أن كل شيء يتغير، وعليه فلا يمكن أن تُحتكر القوة بأنواعها لدولة أو أكثر على مدى التاريخ، وبقدر ما يتعلق الأمر بالقوة الاقتصادية فإنها وإن كانت تجسد مظهرا رئيسيا من مظاهر السطوة الدبلوماسية فإنها تبدو في أضعف حالاتها -مهما بدت ذات منعة وقوة- إن هي دخلت في عباءة حلف خارجي، أي ما لم تتكامل (داخليا) عسكريا وسياسيا. 

اضف تعليق