العقد الاجتماعي السياسي هو الذي يراعي مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوتُّرات والأزمات وجود عقد يُنظِّم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعدِّدة، ويُحدِّد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل طرف. تنظيم العلاقة بين مختلف مكوِّنات...
في ظل الخلافات والنزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم الإنساني من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم أن نُبدع ثقافة حوارية، تُساهم في تطوُّرنا الروحي والإنساني والحضاري؟ كيف لنا أن نُطوِّر ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالخلافات والنزعات والحروب؟
ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية لا نجنح إلى الخيال والتمنيِّ، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية والسياسية، لا يتم إلَّا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن.
ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة ليست حلّاً سحريّاً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم؛ فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية لا يمكن مقابلته بالعنف؛ لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة، ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ بمعنى العمل على تطوير وتحسين الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تُساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرُّف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوِّغات.
وإن طبيعة التطوُّرات الاستراتيجية والأحداث السياسية التي تمرُّ بها المنطقة، تتَّجه إلى تأكيد حقيقة أساسية في المشهد السياسي للمنطقة، وهي: أن النخبة أو الفئة سواء كانت حاكمة أو محكومة التي تربط مصيرها بخارج حدود الوطن، فإن هذا لا يُفضي إلَّا إلى المزيد من الإرباك والتدهور، حيث إن الارتباط الهيكلي بخارج الحدود سيزيد من فرص استخدام القهر والقوة لفرض الخيارات وجبر النقص في العلاقات الداخلية من جرَّاء الارتهان للأجنبي.
وهذا يقود إلى تنامي مشاعر العداء والخيبة لكل ما يجري في الساحة العربية، وستشهد المنطقة من جرَّاء ذلك حالة من عدم الاستقرار والقلق والخوف، كما سيتفاقم العنف الرمزي والمادي؛ لأن القهر والظلم والإذلال ينبوع دائم للإرهاب والعنف وعدم الاستقرار.
وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم، أن الاستقرار السياسي الحقيقي والدائم في فضائنا العربي والإسلامي لا يتأتَّى من حالة الارتهان للأجنبي، أو الانسجام المطلق مع استراتيجياته وخياراته الإقليمية والدولية، بل إن هذه الحالة تزيد من فرص انهيار الاستقرار وتفاقم من حالات اختراق الأمن الوطني والقومي.
لذلك، فإنه يُخطئ من يتصوَّر أن بوابة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا هي الخضوع لرهانات الأجنبي وخياراته في الغطرسة والهيمنة. فالتجارب السياسية تُثبت أن الارتهان للأجنبي لا يجلب إلَّا المزيد من الصعوبات وسخط المجتمعات وفقدان ثقتها وإيمانها بنخبتها السياسية والاقتصادية.
وفي ظل الأوضاع الراهنة تزداد مخاطر الارتهان للأجنبي على مختلف المستويات.
ويبقى في تقديرنا خيار تنمية مشروع المصالحة الداخلية في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي؛ إذ إننا لا يمكن أن نُحقِّق الأمن والاستقرار إلَّا على قاعدة المصالحة الداخلية في المجتمعات العربية بين مختلف المكوِّنات والتعبيرات.
مصالحة بين السلطة والمجتمع، بين النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، بين المكوِّنات والتوجُّهات الدينية والقومية، حيث يتوفَّر مناخ جديد يزيد من فرص الوفاق والتوافق، ويُقلِّل من إمكانية الصدام والصراع المفتوح بين الخيارات المتوفرة في الساحة.
إننا جميعاً نخباً ومجتمعات، لا نمتلك القدرة الحقيقية لإنجاز حلول جذرية لأزماتنا ومشكلاتنا، واستمرار أوضاعنا وأحوالنا على حالها سيفاقم من الأزمات، وسيُوصلنا جميعاً إلى شفير الهاوية.
لذلك، وفي ظل أحوالنا المتردية والتحدِّيات والمخاطر الكبرى التي تواجهنا من مختلف المواقع، وغياب القدرة الحقيقية لدينا جميعاً للانعتاق الجذري من هذه الاختناقات، لذلك كله لا يبقى أمامنا كحكومات وشعوب إلَّا أن يلتفت بعضنا لبعض، ونعمل بوعي وإحساس عميق بالمسؤولية لإطلاق مشروع مصالحة سياسية واجتماعية بين مختلف مكوِّنات المجتمع، حتى نتمكَّن من الخروج من هذه الدائرة الجهنمية التي تُراكم المخاطر، وتُكثِّف من التحدِّيات وتزيدنا ضعفاً وتراجعاً وانتكاساً.
فالتطوُّرات السياسية الأخيرة في العراق وفلسطين تُؤكِّد أن المجال العربي بأسره عاجز عن حماية ذاته والدفاع عن أمنه الوطني والقومي، وأن المشروع الصهيوني يتغوَّل ويتضخَّم ويصل إلى أهدافه الخطيرة من جرَّاء عجزنا وضعفنا. ولن تستطيع الخُطب الرَّنَّانة أو الشعارات الصارخة أن تُغيِّر من أحوالنا وأوضاعنا، وتُزيل عن كاهلنا حالة العجز المطبق التي كلَّفتنا ولا زالت الكثير من الخسائر والانكسارات، كما أن استمرار الأوضاع الداخلية في البلدان العربية على حالها يعني استمرار الأخطار والخسائر.
وهذا يُنذر بحدوث كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في العديد من المناطق والبلدان.
لذلك، لا خيار حقيقيّاً أمامنا إلَّا مصالحة أنفسنا وإعادة بناء عقد سياسي واجتماعي جديد على المستويين الوطني والقومي، حتى نتمكَّن من توفير شروط الخروج والانعتاق من هذه الأزمات الخانقة، والتي تُهدِّد وجودنا ومستقبلنا كله. فلا أحد في العالم العربي كله يتحمَّل اليوم الانتقال من خسارة إلى أخرى ومن نكسة إلى نكسة أخرى أشدّ منها وطأةً وخطراً وتأثيراً على الحاضر والمستقبل. ففي ظل الأوضاع الحالية ازدادت الأمة معاناة وتراجعاً، وفي ظل النظام العربي الرسمي القائم توسَّع المشروع الصهيوني، وأصبح يُهدِّد الجميع أمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، وازددنا تفكُّكاً وتفتُّتاً على ضوء الموقف من مشروع السلام والتطبيع.
وفي ظل هذه الظروف والأوضاع حدثت حروب ومصادمات عربية-عربية أرهقت الجميع، وأدَّت إلى أضرار فادحة في جسم الأمة.
وخلاصة الأمر: إن جميع الوقائع والتطوُّرات الداخلية والخارجية تُثبت بشكل لا لبس فيه حاجتنا جميعاً إلى نظام وعقد سياسي جديد يضع الأمة من جديد في الطريق الصحيح من أجل تحقيق أهدافها وتطلُّعاتها التاريخية. إننا أحوج ما نكون اليوم إلى رؤية وعقد جديد يُنظِّم العلاقات الداخلية بين قوى الوطن المتعدِّدة والدول العربية بعضها مع بعض، ويُنمِّي طاقاتنا، ويصقل مواهبنا، ويُعزِّز قدراتنا الذاتية والموضوعية، ويُحرِّر إرادتنا من العجز أو الارتهان والتبعية، ويشحذ كل طاقات وقدرات الأمة من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتاريخية، ودحر المشروع الصهيوني من فضائنا ومجالنا السياسي والحضاري. فثغرات واقعنا العربي عديدة وعظيمة، والتحدِّيات والمخاطر التي تُهدِّدنا متواصلة، ولا خيار أمامنا غير إعادة ترتيب أوضاعنا وأحوالنا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل التطوُّرات والتطلُّعات الداخلية، دون أن تغفل حاجتنا جميعاً إلى الائتلاف والوحدة.
وهذا يتطلَّب من النخب السياسية في المجال العربي اتِّخاذ إجراءات وخطوات عملية ملموسة لوقف الانهيار والانطلاق في بناء حياة سياسية جديدة، تُؤسِّس لمشروع عربي جديد يُحقِّق نهضتنا، ويُوفِّر لنا القدرة النوعية لمجابهة التحدِّيات الكبرى التي تفرضها قوى الهيمنة والغطرسة في المجال العربي.
وإن الخطوة الأولى في مشروع وقف الانهيار وإعادة التوازن إلى المجال العربي هي إصلاح وتطوير العلاقة بين السلطة والمجتمع في الإطار الوطني والعربي؛ فهي مدخل وقف التراجع والتقهقر، وهي التي تُمكِّننا من التغلُّب على المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تواجه دول العالم العربي لأسباب وعوامل مختلفة.
وإن هذه المصالحة بما تتضمَّن من رؤية ونمط جديد للعلاقة والتعامل، هي اليوم أكثر من ضرورة. إنها خيارنا المتاح للدخول في حركة التاريخ من جديد، وتجاوز كل المعضلات والعقبات التي تحول دون تقدُّمنا وانطلاقتنا من جديد.
وما لم تقم دول العالم العربي بمشروع المصالحة مع شعوبها ومجتمعاتها، فسيكون مستقبل المجال العربي بأسره قاتماً وخطيراً على مختلف المستويات.
فلا تقدُّم من دون إصلاح، ومن ينشد التطوُّر والتقدُّم دون القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، فإن أغلب الخطوات التي يقوم بها ستراكم من الأزمات، وستُكثِّف من حالات الإحباط والفشل؛ فالارتباط بين الإصلاح والتقدُّم هو ارتباط النتيجة بالسبب.
وهذا العقد الاجتماعي-السياسي هو الذي يراعي مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوتُّرات والأزمات وجود عقد يُنظِّم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعدِّدة، ويُحدِّد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل طرف.
ومن المؤكَّد أن تنظيم العلاقة بين مختلف مكوِّنات الأمة بحاجة إلى العديد من الجهود والإمكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة المجال العربي وفق أهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية، وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، حيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس.
وجماع القول: إن بوَّابة خلق الإجماع الوطني والقومي الجديد هي تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضاً.
والعقد السياسي-الاجتماعي الجديد هو الذي يوفر الأرضية المناسبة لتطوير مؤسسة الدولة وتحديث هياكلها الدستورية، وبناء الاقتصاد الوطني ووضع برامج النهوض في مختلف الميادين والمجالات.
اضف تعليق