التناقض بين الديمقراطية المعلنة في الداخل والسياسات المتبعة في الخارج يسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه الأنظمة الديمقراطية في عالم معقد ومتنوع. يتطلب الأمر وعيًا نقديًا ومساءلة دائمة لضمان أن الديمقراطية ليست مجرد شعار، بل منظومة قيمية تحفظ الحقوق وتحترم الإنسان في كل مكان...
زعم الصحفي الاميركي روجر كوهين مدير مكتب باريس لصحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية في تحليل سياسي نشرته الصحيفة يوم الاحد «ان الولايات المتحدة واسرائيل تؤمنان بالقيم المشتركة للديمقراطية». وانا اعرف ان الكثير من الكتاب يعتبرون الديمقراطية بضاعة غربية تعود جذورها الى اثينا الاغريقية قبل اكثر من 2500 سنة، على خلاف من يعتقد بالجذور العراقية للديمقراطية قبل ذلك التاريخ باكثر من الف سنة. ازعجني توصيف هذا الكاتب لما نراه من ازدواجية المعايير في الديمقراطية الاميركية وما يسمى مجازا بالديموقراطية الاسرائيلية.
سلوك خارجي
لا يهمني كيف تطبق الولايات المتحدة الديمقراطية داخل حدودها، لكن المؤكد ان هذه الدولة غير ملتزمة بالمعايير الديمقراطية في سلوكها الخارجي، والامر ينطبق على إسرائيل التي لا تطبق الديمقراطية داخل وخارج حدودها للارض المحتلة.
فالدولتان مصابتان بازدواج الشخصية فيما يتعلق بالديمقراطية. فالديمقراطية ليست مجرد مصطلح يُستخدم بشكل اعتباطي لوصف نظام سياسي، بل هي منظومة قيمية ترتكز على احترام حقوق الإنسان، العدالة، والمساواة. ومع ذلك، يبدو أن هذه المثل العليا تنقلب رأسًا على عقب عندما تنتقل من الداخل إلى الخارج، خصوصًا في الديمقراطيات الأمريكية والإسرائيلية.
في الداخل الأمريكي، تُعتَبَر الديمقراطية من الأعمدة الرئيسية لنظام الحكم. تضمن الحريات المدنية، مثل حرية التعبير، وحرية التجمع، وتحمي حقوق الأقليات. الانتخابات تُجرى بشكل منتظم ونزيه إلى حد كبير، والقضاء يعمل باستقلالية لحماية حقوق الأفراد.
الأمر نفسه ينطبق إلى حد ما على إسرائيل، حيث يتمتع المواطنون اليهود حصريا دون المواطنين العرب بقدر كبير من الحرية السياسية والتعبير، وهناك نظام قضائي مستقل يتدخل عند انتهاك الحقوق. البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) يعكس تنوّعًا سياسيًا واجتماعيًا ويتيح الفرصة لنقاشات واسعة حول قضايا مهمة.
لكن القصة تختلف تمامًا عندما نأتي إلى السياسة الخارجية لكلا الدولتين. في مجال السياسة الخارجية، يبدو أن القيم الديمقراطية تُعطى الأولوية لأهداف سياسية وإستراتيجية.
على الصعيد الاميركي، منذ الحرب الباردة وحتى اليوم، دعمت الولايات المتحدة عددًا من الأنظمة السلطوية والاستبدادية في مختلف أنحاء العالم. الهدف الرئيسي من هذا الدعم هو تحقيق مصالحها الجيوسياسية، بغض النظر عن القيم الديمقراطية و حقوق الإنسان.
أمثلة على ذلك تشمل الدعم الأمريكي لصدام حسين في العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، ودعمها المطلق لإسرائيل التي تنتهك كل حقوق الانسان فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني والشعب اللبناني وغيرهما، ودعمها للعديد من الأنظمة الاستبدادية في أمريكا اللاتينية خلال عقود مضت.
من ناحية أخرى، تواجه إسرائيل اتهامات جدية متكررة بازدواجية المعايير، خاصة في تعاملها مع الفلسطينيين. داخل حدود 1948، هناك مستوى منخفض من الحقوق الديمقراطية للمواطنين العرب، رغم أنها ليست متساوية تمامًا مع المواطنين اليهود.
ولكن في المناطق المحتلة، تصبح الصورة أكثر قتامة. تقارير عديدة من منظمات دولية تشير إلى الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية، بما في ذلك التوسع في المستوطنات، الاعتقالات بدون محاكمة، وفرض قيود صارمة على حركة الفلسطينيين.
قيم ديمقراطية
يمكن تفسير ازدواجية المعايير هذه بعدة عوامل:
*المصالح الجيوسياسية:
* تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل لتحقيق مصالحهما الجيوسياسية والإستراتيجية، وقد تتعارض هذه المصالح مع القيم الديمقراطية.
*الضغوط الداخلية:* الأنظمة الحاكمة تواجه ضغوطًا داخلية للحفاظ على الأمن القومي والاستقرار، مما يجعلها تتبنى سياسات تنتهك حقوق الإنسان في الخارج.
*الاعتبارات الاقتصادية:* التحالفات الاقتصادية والتجارية غالبًا ما تتطلب تعاونًا مع أنظمة بعيدة كل البعد عن الديمقراطية.
التناقض بين الديمقراطية المعلنة في الداخل والسياسات المتبعة في الخارج يسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه الأنظمة الديمقراطية في عالم معقد ومتنوع. يتطلب الأمر وعيًا نقديًا ومساءلة دائمة لضمان أن الديمقراطية ليست مجرد شعار، بل منظومة قيمية تحفظ الحقوق وتحترم الإنسان في كل مكان.
اضف تعليق